الرأي
نعم.. الشارع للمكنات
بقلم : الجميل الفاضل
يبدو إن جيلا يختلف يجتاح الان هذا الأفق.. جيل من ذوي الرئات الواسعة والنفس الطويل.. جيل قد أوتي مع قوة الصبر والجلد.. وطاقة الصمود والبسالة.. قدرة الاستقرار علي الوضع المقلوب.. وضع (ركوب الرأس) لأطول أمد ربما يفوق ابعد التصورات.
بما في ذلك بالطبع تصور شاعر مترع بالخيال والجمال كشاعرنا الراحل صلاح احمد ابراهيم الذي قارب في وصفه الي حد بعيد حال هؤلاء الأولاد الأشقياء اليوم.. هؤلاء الذين يعشقون ملاقاة الموت بصدور عارية.. صدور عارية حقيقة لا مجازا.. صور ماثلة تقول بذلك.. فقد رايناهم رأي العين يخلعون قمصانهم و(تيشرتاتهم) الصغيرة للتحزم والتمنطق بها على اصلابهم وخواصرهم النحيلة تحت زخات الرصاص الحي و المطاطي.. وحين دوى انفجارات قنابل الصوت و تطاير قنابل الغاز بل وتحت سحب دخانها الخانق.
اذ يقول صلاح احمد ابراهيم وكأنه شاهد بيننا اليوم:
(اعرفهم الضامرين كالسياط
الناشفين من شقي
اللازمين حدهم
الوعرين مرتقي) .
لكن المدهش ان هذا الجيل نفسه قد أوتي فيما أوتي شيئا من جوامع الكلم غير يسير.
ففي إيجاز بليغ يلخص المخرج من أزمة البلاد في شعار جامع مانع ثلاثي الأبعاد كأنه دستور في ثلاثة سطور فقط يقول :
(الثورة ثورة شعب.. والسلطة سلطة شعب.. والعسكر للثكنات.. والشارع للمكنات).
نعم فأنا اعلم علم اليقين ان هذه الثورة المستمرة منذ ديسمبر ٢٠١٨..والممتدة الي يومنا هذا.. والمتجددة حينا بعد حين.. هي ثورة واحدة.. ثورة شعب برمته خرج ضد كل الطغاة واشباههم والمتماهين معهم من عسكر ومدنيين.
بمثلما اعرف تماما بأبسط تعريف للديمقراطية.. أن ما ينادي به هؤلاء الشباب هو الحكم المدني الديمقراطي رغم أنف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين و وزير خارجيته سيرغي لافروف وسفيرهما في الخرطوم الذين بارك ثلاثتهم حكم الجنرالات واسموه تصحيحا وقالوا ان ديمقراطية حكم الشعب للشعب بالشعب لا تصلح للسودان ولشعبه.
وبالطبع فإن عودة العسكر الذين استمرأوا التطفل على موائد الحكم لأكثر من خمسين عاما الي ثكناتهم ولممارسة مهامهم المهنية والوظيفية العادية، شأنهم شان كل أصحاب المهن والحرف المحترمة الأخرى التي تعرف حدود ادوارها وتقف عندها؛. ذلك هو الوضع الذي ينبغي أن يكون .
لكن سؤال المكنات قد حيرني بعض شيء.. فسألت ابني العشريني ما(المكنات) اذن؟.
فقال لي: إن الشاب (المكنة) أرفع شأنا من (الشفاتي) العادي.. وضرب لي مثلا لتقريب الصورة الي ذهني بأن الفنان الراحل (محمود عبدالعزيز) كان (مكنة) وكل من يتمتع بكارزيما خاصة تقربه من احساس هذا الجيل المختلف بالاشياء فهو (مكنة).. وان لم يعلم انه (مكنة) .
اذن فنحن أمام شارع ثوري ساخط ومتمرد له معاييره وشروطه الخاصة.. شارع قد بات ملك حصري للمكنات.. هؤلاء (المكنات) الذين صدقوا الي هذه اللحظة ما عاهدوا الناس عليه منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
ذلك فضلا عن انهم قد اكدوا جدارتهم حقا.. فعلا لا قولا بهذا الانتماء لوطن مثخن بالجراح تنهش جسده المسجي على ما تبقى فيه من رمق حياة.. نخب عسكرية ومدنية مستبدة وفاسدة لا زالت على ضلالها القديم.
انا لا اعرف جيلا أعاد لعلم السودان وقاره كما فعل هذا الجيل.. هذا العلم الذي ازدراه (المخلوع) فرمي به دون أدنى حياء في لقطة وثقتها عدسات الكامير التي لا تكذب.
كما أني لا أعرف جيلا رد لنشيد هذا العلم مكانته بين الناس منذ أن خط احمد محمد صالح كلماته.
ان هذا الجيل هو جيل العطاء المستجيش ضراوة ومصادمة بالفعل.. وليس جيل الشاعر محمد المكي ابراهيم الذي كان يتباهي به.
فالشارع سيظل ملكا خالصا لهذه المكنات السودانية لعقود وعقود لطالما ان ارادة من اسموا انفسهم بالمكنات او بالجيَل الراكب رأس هي هذه الارادة التي نرى.
ولطالما ظلت هذه المكنات (تقسم) كما يحلو لها في هارموني عالي الدقة وبتناغم وانسجام يخلب الألباب ويلامس شغاف القلوب.
فقد عرف من قبل منتخب ألمانيا لكرة القدم بالماكينات لانضباطه التكتيكي العالي ولالتزامه الصارم بالرسم الخططي الدقيق.
فمكننة او ميكنة الشارع السوداني الثائر الذي دخل عامه الرابع.
لا تعني تشغيل الشارع ذاتيا واليا او اتمتته بالضرورة وفقا للغة البرمجيات والذكاء الاصطناعي.
فالثورة السودانية ثورة أشمل مما نتصور ستذهب أعمق وابعد وأصدق نحو غايتها التي لن تغيب طال بها الزمن او قصر.