Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

تحولات المشهد السوداني (6-6 )

السر سيد أحمد

السر سيد أحمد

في البحث عن الدولة والشرعية

السر سيد أحمد

السر سيد أحمد
السر سيد أحمد

تنطلق يوميا نحو 60 حافلة سياحية في المتوسط من الخرطوم نحو القاهرة. وهذا الرقم تصاعد بأكثر من الضعف في أقل من ثلاث سنوات، هذا بالإضافة إلى خمس رحلات طيران يومية بين العاصمتين. السفر بين البلدين ليس جديدا خاصة لأغراض السياحة والعلاج والتعليم، لكن الجديد تنامي أعداد المغادرين بصورة كبيرة بحثا عن حياة عادية تتجنب المنغصات التي أصبحت واقعا يوميا،وبروز ظاهرة بيع العقار في السودان واستبداله بأخر للاستقرار في مصر. كما أن التقديم للدراسة في مصر أصبح خيارا أوليا للكثير من الأسر السودانية سواء الموجودة في السودان أو في الدول الخليجية. ورغم تضارب الأرقام وعدم اعتمادها بصورة رسمية إلا انه يعتقد ان السودانيين المقيمين يتراوح عددهم في حدود المليون ونصف المليون نسمة، كما أن عدد الطلاب المسجلين في مختلف الجامعات والمؤسسات التعليمية المصرية لا يقل عن 40 ألفا.

هذا واحد من مظاهر عدم الاستقرار التي تدفع بالناس إلى شراء العقار والذهاب إلى بلد أجنبي لتعليم أبناءهم، على ان متاعب الدولة السودانية لا تقف عند هذا الحد وإنما تنسحب إلى قضايا أكثر حيوية تغيب عنها الدولة بسياسات توضع لمعالجة الخلل وأجهزة دولة قادرة على تنفيذ هذه السياسات حتى تؤتي أكلها.وقبل ذلك تغيب أجهزة للرصد والمتابعة سواء في المؤسسات الأكاديمية والبحثية وحتى الإعلامية عدا ما تقوم به الاستخبارات العسكرية وجهاز المخابرات وكل لأهدافه الخاصة والضيقة.

ولعل غياب أي سياسة سكانية يأتي على رأس هذه الفجوات التي أصبحت مهددا أمنيا.فالسودان يعتبر بلدا قليل السكان قياسا بمساحته الشاسعة وموارده الطبيعية المتاحة. إن أحد أفضل الأمثلة على المخاطر الأمنية التي تمثلها قلة السكان هذه النزاع المستمر بين السودان وأثيوبيا في منطقة الفشقة حيث الجموع الإثيوبية ترى أمامها مساحات زراعية خصبة وليس للمزارعين السودانيين القدرة على استثمارها لقلة السكان وكان أن وفروا العمالة المطلوبة وفيما بعد تطورت صيغة الشراكة هذه إلى ملكية بوضع اليد ساهمت فيها بعض التعقيدات والحسابات السياسية الخاصة بالإنقاذ. ومن أوجه غياب أي سياسة سكانية هذا الوجود الأجنبي المتضخم والغير مقنن، بل حتى غير مسجل أو مراقب، إذ تشير التقديرات إلى وجود ما بين سبعة ملايين إلى ثمانية ملايين نسمة من الأجانب يقيمون بصورة ما في السودان.

وهذا ما يشير إلى مشكلة أخرى تتعلق بالغياب شبه الكامل لآي أرقام يعتد بها. فلكي تدير بلدا ما هناك حاجة ماسة للأرقام. وربما تمثل حالة ولاية الخرطوم النموذج الأبرز في هذا الجانب. إذ ليس معروفا بالضبط عدد سكان الولاية بسبب النزوح لأسباب تتراوح بين العنف وحالة الجفاف وضعف فرص العمل والخدمات والاستقرار في الولايات لدرجة أن بعض التقديرات تشير الى ان نصف سكان العاصمة من النازحين. وهناك أكثر من 20 لهجة ولغة متداولة في الولاية وما يتبع ذلك من عدم القدرة على توفير للسلع والخدمات لهم لأنه ببساطة لا يمكن التخطيط لأمر مجهول. وبسبب هذا التكدس فانه يعتقد أن سكان محلية أم بدة مثلا يزيدون على مجمل سكان ولايات الشمالية ونهر النيل والبحر الأحمر مجتمعة.

ثم هناك جانب عمليات التغير المناخي وتتخذ شكل عمليات التصحر التي تفاقم من عمليات الصراع على الموارد. وتجدر هنا الإشارة الى المقال الذي كتبه بان كي مون سكرتير عام الامم المتحدة السابق ووصف فيه مشكلة دارفور انها أول نزاع يتم في العالم بسبب عوامل طبيعية تتعلق بالتغير المناخي. وتشير بعض الإحصاءات القديمة إلى ان عمليات التصحر في السودان تسير بسرعة 10 كيلومترات سنويا.

على أن الأخطر في ذلك كله من مظاهر ضعف الدولة هذا التعايش مع الأزمات واضمحلال الهمة وعدم الرغبة في التصدي لها ما بين التعايش مع تلال القمامة في المدن وانتهاءاً بالتعايش مع الارتزاق من قبل الساسة سواء مدنيين أو حملة سلاح كما يشير تقرير لخبراء الأمم المتحدة عن دارفور مطلع العام الماضي وبعد ذلك تسنمت مجموعة منهم أعلى المناصب الدستورية ودون أن يتوقف أحد أمام ذلك.

أما أكبر مهدد للدولة السودانية فيتعلق بتعدد مراكز القرار بين الجيش والدعم السريع والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام يفترض أن يؤدي إلى جيش موحد لكن الأمر أعقد من ذلك.

تاريخيا فإن أي أتفاق سلام تم إبرامه مع متمردين إنما كان مع نظام عسكري. يصدق هذا على اتفاقية أديس أبابا 1972 بين النميري والانيانيا وبين الإنقاذ والحركة الشعبية 2005. ولهذا فرغم أن السلطة ألت الى الحكومة التنفيذية برئاسة حمدوك وأن ملف السلام كان من أولى واجباتها، إلا أن المكون العسكري أختطف هذا الملف لأسباب تتعلق بضعف المكون المدني من ناحية ولرغبة الحركات المتمردة في التعاون مع العسكريين لسببين انهم الأقدر على التعامل مع أهم ملف في أي اتفاق سلام وهو ملف الترتيبات الأمنية ولو من واقع الخبرة العملية. أما السبب الثاني فهو رابط الثقافة والخلفية العسكرية وعدم الشفافية بين الاثنين مما يجعلهم أقرب الى التفاهم من تعاملهم مع المدنيين. على أن أتفاق جوبا سبقه تفاهم أشار إليه تقرير خبراء الأمم المتحدة المشار إليه ويتلخص في انتهاز قوى الهامش هذه الفرصة وفراغ مركز السلطة في الخرطوم من الشخصيات والقوى السياسية الفاعلة مما يعطي قوى الهامش الفرصة لحكم السودان. وهكذا انتهى الأمر بحميدتي الدارفوري يقود المفاوضات ممثلا للمركز مع الحركات الدارفورية أساسا. وبدل أن يستخدم المركز الهامش في حروبه، يتجه الهامش الى السيطرة على الدولة ويستغل المركز لصالحه.

ومع أن قطار اتفاق سلام جوبا لا يزال متوقفا في انتظار التنفيذ خاصة فيما يتعلق ببند الترتيبات الأمنية، الذي يحتاج الى التمويل، إلا أن المسألة أكثر تعقيدا. فهناك أولا تعدد مراكز القرار عند إضافة الدعم السريع وحركات دارفور. وهذه القيادات المستندة إلى جيوشها أصبح لها صوت أعلى في الميزان السياسي، ثم ان كلا منها له امتداداته الإقليمية ومن دول يهمها الولوغ في الشأن السوداني بصورة أو أخرى خاصة وهذه المجموعات أرسلت قواتها الى القتال في كل من اليمن وليبيا وجنوب السودان. ومع الضعف المتواتر لهيكل الدولة السودانية فأن هذا واقعا لابد من وضعه في الحساب. تجارب دمج المجموعات المتمردة لم تحقق نجاحا يذكر في فترة أتفاق أديس أبابا رغم التماسك النسبي لمؤسسات الدولة آنذاك. وشكل عدم الرضا من عمليات إعادة الدمج والتسريح خميرة تطورت فيما بعد إلى تمرد متكامل مستفيدا من متغيرات المشهد السياسي وقتها. أما فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية في أتفاق نيفاشا فأنه لم يبارح المحطة للانطلاق ابتداء كما أن العمليات التي تمت بالنسبة لبعض الحركات الدارفورية المنشقة لم تحدث تأثيرا يذكر على المشهد السياسي العام. وهذه خلفية لابد من وضعها في الاعتبار عند الحديث عن مدنية الدولة. فالمدنية لا تعني فقط مجرد غياب العسكريين عن المشهد السياسي وإنما توحيد السلاح وتقليص النفوذ الخارجي إلى الحد الأدنى الذي تستطيع الدولة السيطرة عليه.

هذه ملامح لبعض القضايا التي تشير الى ضعف الدولة السودانية وغياب الأجهزة أو عدم قدرتها على مواجهة هذه التحديات. ويمكن اعتبار فترة نهاية سبعينيات القرن الماضي وعند أول تخفيض للجنيه السوداني المرحلة التي بدأ فيها تدهور السودان اقتصاديا وانعكاسات ذلك سياسيا واضمحلال قدرة الدولة في التعامل مع هذا الفشل المتواتر عبر مختلف الأنظمة. ولعل في بلوغ الأزمة هذه المرحلة وتصاعدها بمتواليات هندسية تتجاوز قدرات العسكريين والمدنيين وحملة السلاح ما ينبغي أن يدفع إلى التفكير الجدي والاستفادة من مناخ الحريات الحالي وتعزيزه للانخراط في حوار جاد عنوانه الأبرز:

كيفية الحفاظ على الدولة السودانية أولا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *