تحولات المشهد السوداني (5- 6 )
العامل المجهول
السر سيد أحمد
يحمد لمركز كارتر انه كان الجهة الوحيدة التي اهتمت بأمر الشباب كونهم يمثلون أكثر من 60 في المائة من سكان السودان وأجرت لهم مسحا نشرت نتائجه مطلع هذا العام بالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة ولو أن المسح أقتصر على معرفة رأي الشباب في الفترة الانتقالية.
أتبع المسح منهجا يقوم على التواصل الميداني مع شرائح متنوعة شملت 7،238 لجنة مقاومة ومنظمة يقودها الشباب في جميع أنحاء السودان، كما تم استطلاع 1،023 منها من خلال مقابلات وجها لوجه. كان تقسيم المجموعات التي شملها المسح: 50 في المائة لجان المقاومة 20 في المائة منظمات المجتمع المدني الحضرية و 6 في المائة منظمات المجتمع المدني الريفية 13 في المائة والمنظمات المجتمعية وتمثل النسبة المتبقية التي شملها المسح الجمعيات المهنية والمجموعات الطلابية والجمعيات الدينية وغيرها. ولاستكمال البيانات الكمية التي تم جمعها ودعمها، قام جامعو البيانات بإضافات نوعية شملت بيانات من أكثر من 400 مجموعة نقاش ومقابلات فردية مع عينة من ممثلي المجموعات التي يقودها الشباب وتغطي جميع مناطق السودان تقريبًا.
ورغم الانطباع الايجابي الذي عبر عنه هؤلاء الشباب وتفاؤلهم تجاه الفترة الانتقالية عموما،إلا أن مركز كارتر في تقريره الختامي حذر من أن 42 في المائة من المنظمات الشبابية تشعر انه ليس لها صوت يذكر في عملية الانتقال. ومع الإقرار بالتحسن الملموس في قضايا الحريات وحقوق الإنسان عموما، إلا أن نصف المشاركين في الاستفتاء يشعرون ان أهداف الثورة لا تزال بعيدة المنال. وعبر كثيرون عن مخاوفهم بشأن التقدم الذي تحقق في المرحلة الانتقالية كالفشل في تشكيل المجلس التشريعي والمؤسسات الأخرى التي أقرتها الوثيقة الدستورية . وتشكل مواجهة تحديات الحياة اليومية من المعيشة وتوفير الخدمات الأساسية هما مقيما.
بناءً على هذه النتائج، طالب مركز كارتر في توصياته أن تركز قيادة الفترة الانتقالية على إيجاد القنوات الرسمية لإشراك الشباب وسماع أصواته بهدف دمجها في العملية السياسية، خاصة في مجال إنشاء الهيئات الانتقالية والمفوضيات المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية.
ما يجري الآن انعكاس لما حذر منه مركز كارتر حيث يلاحظ تصاعد انتقاد مجموعات من الشباب للحرية والتغيير وأحزابها مثلما تنتقد العسكريين.
ومع أن البعض يرى أن الحراك الشعبي المستمر بصورة أو أخرى منذ العام 2013 من مؤشرات الفجوة الجيلية، وان هذا الجيل “الراكب راسو” هو الذي سيحسم مشكلة السودان المركبة، إلا أن واقع الحال يشير إلى أن السودان ظل دائما دولة شابة بمعنى الكلمة كون الغالبية من سكانه ممن يعتبرون من فئة الشباب الذين تتجاوز نسبتهم أكثر من 50 في المائة على الأقل ومنذ زمن، وان زادت النسبة بعد ذلك.
ولهذا لم يكن غريبا أن تتصدر الحركة السياسية والتنفيذية في البلاد قيادات شابة. فعبد الخالق محجوب تولى زعامة الحزب الشيوعي وعمره 22 عاما والشفيع أحمد الشيخ تولى منصبا قياديا في اتحاد العمال العالمي في سن 24 وكان الأصغر سنا بين المجموعة، والصادق المهدي تولى رئاسة الوزارة وعمره 30 عاما وحسن الترابي تولى زعامة جبهة الميثاق الإسلامي وعمره 32 عاما وجون قرنق قام بتأسيس الحركة الشعبية وعمره 37 عاما، والنميري تولى رئاسة السودان وعمره 40 عاما وفتح الباب أمام مجموعة من الأكاديميين والمهنيين تتراوح أعمارهم بين الثلاثينات والأربعينات لتولي مناصب قيادية في الدولة.
وربما يكون من المفيد هنا الإشارة إلى هذه المجموعات من القيادات الشبابية التي تولت القيادة عبر العقود السابقة توفرت لها معطيات لم تتوفر للأجيال الحالية ومنها التعليم النخبوي وتوفر فرص العمل بمجرد التخرج، وأصبحت الشهادة الجامعية وسيلة لآحداث نقلة اجتماعية في حياة الأسر بسبب الامتيازات التي تتوفر لخريج الجامعة ووجود نسبة معقولة من الاستقرار الاقتصادي بسبب تركيبة نظام الحكم الذي جعل خيرات الريف تصب في المدينة.
لكن هذه القيادات لم تترك تراثا فكريا أو سياسيا ديمقراطيا لترثه الأجيال الجديدة خاصة والفكر الغالب كان عبارة عن اتجاهات أيديولوجية يسارية وعروبية واسلاموية وكلها تعاني من أنيميا في مخزونها الديمقراطي كما لاحظ المرحوم عبد العزيز حسين الصاوي في تفسيره لبعض جوانب ضعف الإرث الديمقراطي في السودان. على أن هذه المجموعات التي توصف بالقوى الحديثة كان عالية الصوت لدرجة الابتزاز حتى أن الأحزاب التقليدية، التي تعاني من الضعف الفكري صارت تماشي شعارات هذه الأحزاب الصفوية. فعقب أكتوبر 1964 ومع موضة الاشتراكية التي تسيدت المسرح السياسي وقتها قامت هذه الأحزاب التقليدية بتأميم بعض المشروعات الزراعية. وعقب أبريل 1985 كان الموجة الاسلاموية هي الطاغية فوضعت هذه الأحزاب برامج تعتمد الإسلام مرجعية لها.
لكن مع تطور الأحوال خاصة أيام الإنقاذ وتخصيص خدمات الصحة والتعليم مما نتج عنه فتح الباب أمام مؤسسات التعليم التي تجاوز عدده 100 جامعة وكلية قامت بتخريج عشرات الألوف كل عام، هذا بالإضافة إلى ثورة الاتصالات التي وفرت لهؤلاء الشباب الفرصة للتعامل مع عوالم ومنتجات جديدة لكن الواقع الذي يعيشون فيه كان أعجز من أن يوفر لهم حياة كريمة ابتداء من فرص العمل، الأمر الذي جعل المستقبل مسدودا أمامهم إضافة إلى الخطاب والممارسة الإنقاذية التي سدت أمامهم فرص تفريغ طاقاتهم الشبابية، بل وأدت العزلة التي عاشتها البلاد أبان حكم الإنقاذ إلى أن تراجعت فرص الهجرة والاغتراب، الأمر الذي قفل أمامهم الأبواب لأحداث تغيير في حيواتهم مما أسهم في توليد طاقة تم تفريغها في الحراك الشعبي الذي أدى إلى الإطاحة بالنظام. وكان صلاح قوش قد انتبه الى هذه الحالة متأخرا بحديثه عن “صناجة” السياسات والممارسات التي تقفل أي متنفس أمام الشباب.
ومع احتراق كل التنظير في فرن التجربة العملية التي خاضتها هذه الأحزاب العقائدية تعرض المسرح السياسي لحالة من التصحر الفكري جعل الأجيال الجديدة أكثر رفضا وصمودا وقناعة فيما (لا تريد)، لكنها لا تعرف كيفية الوصول الى ما تريد، وهي الحالة التي وصفتها الدبلوماسية البريطانية السابقة كارني روس في كتاب لها عن ثورات الربيع العربي أنها ثورات بلا قيادة. ويبقى التحدي في كيفية بلورة شكل تنظيمي وبرنامج سياسي يستوعب هذه الطاقات الشبابية.
الحالة الشبابية السودانية التي تعاني من انسداد أفق الحياة الكريمة مثلها مثل غيرها لديها عامل أضافي يتمثل في حالة الغبن التي تعيشها بسبب الفض الدموي لاعتصام القيادة ورؤيتها أن القوات المسلحة والدعم السريع مسولان عنه ولو من باب فشلهم في حماية المعتصمين وعلى افتراض وجود جهة ثالثة هي التي قامت بالمجزرة.
الآمر الآخر الذي يجعلها أكثر إلحاحا على مدنية الدولة وأبعاد العسكر نهائيا سيطرة المؤسسات العسكرية والأمنية على قطاعات مهمة في الاقتصاد السوداني كان يمكن استغلالها لتوسيع فرصة المشاركة في ثروات البلاد.
للسودان تاريخ قديم في اعتزاز العسكريين بموقعهم تجاه المدنيين يعود الى بداية عهد الاستقلال. فقد أعترض كبار الضباط على تلكؤ المدنيين في الاستجابة لطلبهم بخلق وظيفة فريق لأول مرة في الجيش حتى يرقى لها قائد الجيش اللواء أحمد محمد قبل أحالته للمعاش ووصلوا باعتراضهم هذا إلى أن قاطعوا أحد الاحتفالات التي كان يقيمها مجلس السيادة.
وبمرور الزمن تطورت هذه الامتيازات واتخذت لها بعدا اقتصاديا تبلور بصورة رئيسية في المؤسسة التجارية التي أدخلها النظام المايوي وبدأت تتسع وتتوسع حتى أصبح الجيش يسيطر على نحو 82 في المائة من عائدات المؤسسات الايرادية الحكومية حسب حمدوك .
تتباين الأرقام في عدد الشركات العسكرية والأمنية النشطة في المجال التجاري والاستثماري ورغم ان المكون العسكري وافق في مارس الماضي على تحويل الشركات التجارية ذات الطبيعة المدنية إلى الحكومة والاحتفاظ بتلك العسكرية والإستراتيجية إلا أن المعلومات لا تزال متضاربة. والسائد وفق بعض الدراسات الغربية أن هناك حوالي 200 شركة عسكرية وأمنية حتى منتصف العام الماضي يبلغ دخلها السنوي ملياري دولار بسعر الصرف الرسمي في ذلك الوقت، كما يعتقد أن للدعم السريع عدد مماثل من الشركات داخل وخارج السودان إلى جانب ما يحصل عليه من تمويل للقوات التي يرسلها إلى السعودية واليمن. ويظهر حجم الملاءة المالية للدعم السريع في مبلغ المليار دولار التي قدمها لبنك السودان لشراء بعض السلع الإستراتيجية.
وهذه الشركات تنشط في مجالات متنوعة من تجارة الذهب، والمواشي والمعادن واللحوم والصمغ العربي وغيرها، كما إنها تسيطر على نحو 60 في المائة من تجارة الدقيق ونسب كبيرة في سوق الاتصالات والجهاز المصرفي والتطوير العقاري.
أحد أسباب عدم معرفة العدد الكلي لهذه الشركات أن هناك حوالي 34 شركة قابضة و 15 للمخابرات وشركة واحدة للداخلية. فشركة مثل جياد تعتبر شركة قابضة تضم تحت جناحيها 24 شركة فرعية. وفي العام 2014 بلغت أرباح جياد 360 مليار جنيه سوداني أي بمعدل مليار جنيه كل يوم.
ولهذا سيظل البعد الاقتصادي لحملة السلاح مع إضافة سيطرة بعض الحركات المسلحة على بعض المواقع التعدينية أحد عناصر التوتر بين العسكريين والمدنيين وأحد محفزات الشباب للاستمرار في مطالبتهم بمدنية الدولة وإخضاع هذا الأنشطة إلى حكومة مدنية.
ومهما كانت الانتقادات التي توجه إلى الشباب فأنه يحمد لهم أنهم ظلوا في الشارع لإبقاء شعلة الاحتجاج والثورة مشتعلة رغم قلة تجربتهم الحياتية والسياسية، لكن يبقى التحدي الرئيسي في كيفية تنظيم هذه الموجة الاحتجاجية وبلورتها في برنامج سياسي قابل للتطبيق. وأن كان من درس في تجربة العامين الماضيين فهو أنه من السهل تنظيم الاحتجاجات والتوحد حول هدف سلبي مثل إسقاط نظام الإنقاذ، لكن من الصعوبة بمكان توفير البديل لآدارة الدولة وتحسين حيوات الناس الذين اصبحت مسؤولة عنهم.
(غدا: الختام في البحث عن الدولة والشرعية)