نَقْشٌ على ظهر الموقف
بقلم : محمد عتيق
مصاعب عديدة تواجه مسار الثورة في السودان ، من صُنعٍ محلِّي أوخارجي ،سوداني وغير سوداني من الإقليم ومن العالم ..
(1)
قدَّمَ السودان أرتالاً من المناضلين – نساءً ورجالاً – إلى سوح الكفاح الوطني ، جيلاً إثر جيل ، في مختلف مراحل تطوره ، نظاماً وعهداً بعد نظامٍ وعهد ، وواجه في ذلك أشكالاً من اللامبالاة والعسف والاستبداد ، وطوال هذا العمر الممتد لم يعرف الاستقرار الذي يجلب التطور الحضاري والمعرفي ألإنساني والسعادة .. وكانت محطته الأخيرة (30يونيو 1989) وحتى الآن هي الأشرس ، ومقاومتها هي الأقسى التي فاقت محطة المستعمر البريطاني (1898/ 1956) حِلْكةً وقسوة ، والتركي العثماني قبلها ..
هي ثلاثون عاماً طمرت كافة الفضائل والقيم الكونية والعلمية ، لخَّصتْ وبعثت كل السلبيات والشرور ألإنسانية ، هي النتيجة التي نشاهدها ونلمسها أينما نكون أو نذهب :
* الكذب في كل شيء لتتحول الحياة إلى نفاقٍ مستمر يجلب الشكوك في كل عَرْضٍ وتعامل ..
* الدين إلى قشورٍ ومظاهر ، إسلام الثورة ، المنحاز للفقراء ، الدعوة الكبرى للعلم والمعرفة والتحقُّق في التاريخ ؛ إلى استهبالٍ واستبدادٍ واعتدادٍ غاشم ، وثقةٍ ملتويةٍ بالنفس وبالتأييد الإلهي ..
* إحياء النزعات القَبَلية والجهوية والطائفية مع الصيغ القديمة من الإدارات الأهلية :
أصبحت كلها عناصر في عجين الحركة الإسلاموية وحلفائها ، ثقافةً عميقةً في الأنفس والرؤى تواجهك أينما اتجهت في ارجاء المجتمع السوداني ..
(2)
نجد ظلال هذه الصورة وهذا الواقع ممتدَّةً حتى إلى أطراف العمل السياسي الذي يجري في السودان ولكن بدرجاتٍ متفاوتة .. فكان من الطبيعي أن يخرج الدكتور عبد الله حمدوك على الناس من معتقله (حقيقياً كان ذلك المعتقل أم تمثيلاً) وهو يُوَقِّع على وثيقة تحالف مع البرهان ورهطه – بعد الاعتراف بانقلابه – إعلاناً عن الحقيقة التي حاول إخفاءها طويلاً ، حقيقة أنه ليس جديراً بموقع رئيس حكومةٍ لمثل هذه الثورة النادرة ، فإذا انصرفنا من حقيقةَ كونه يفتقر إلى المميزات القيادية ، وأنه (في أعماقه) يبحث عن القويِّ (إذ هو يخلو من القوة في داخله ولا علاقةَ له بالشعبِ وإرادته الغلّابة) ، إذا صرفنا النظر عن كل ذلك فإننا سنقف أمام حقيقةَ انه لا علاقةَ له مطلقاً بالثورة ووقائع المواجهة الممتدة بين شعب السودان ونظام البشير/الترابي منذ 30 يونيو 1989، إضافةً إلى(وهو الأهم) انه قد مارسَ رذيلة الكذب علناً مرتين : مرةً عندما ذهب البرهان إلى عنتيبي للقاء نتانياهو ادَّعى انه ليس على علم بذلك .. والأخرى عندما صرّحَ في السعودية ان قوى الحرية والتغيير لم تُعْطِهِ برنامجاً أو رؤية.. وكلنا يعرف أن ممارسة الكذب مقبرةٌ للرؤساء والمسؤولين في عالم اليوم ، وفي تراث الإسلام مدعاةٌ للخروج عن المِلَّة كما فسَّرَ الشيخ الشعراوي الحديث النبوي بقوله “نعم” ردَّاً على الأسئلة : أيسرق المؤمن ؟ أيزني المؤمن ؟ …إلى آخره ، ولكنه قال “لا” عندما سئل: أيكذب المؤمن ؟ .. “لأن كل الجرائم لها عقوباتها المنصوصة إلّا الكذب فهو خروجٌ عن المِلَّة” ..
نحن أمامَ مشهدٍ في غاية القتامة والتعقيد ..
(3)
فإذا انتقلنا إلى المقترحات الجارية بإيقاف المواجهات الدامية توفيراً للمزيد من دماء الشباب وأرواحهم ، واللجوء إلى برنامجٍ للحقيقة والمصالحة أساسه انّ المكون العسكري ، وهروباً من المساءلات الجنائية التي تنتظر افراده ، سيرتكب مجازر لا حد لها ، وبجنونٍ أكثر ، للبقاء على رأس السلطة محتمياً بالدولة الموازية وامكانيات النظام الساقط ورموزه (والمصائب تجمعنَ المُصابينا) ، وفي ذلك تقول المقترحات ان نستند إلى التجارب الحية التي جرت في جنوب افريقيا وتشيلي و.. و… من مختلف البلدان والمجتمعات التي جرت فيها مثل هذه التجارب الخلّاقة ..
ولكن ، أين أوجه الشبه والمقارنة بين تلك الأنظمة ونظام السودان (البرهان ورهطه) ؟؟.. سواء نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب افريقيا من ناحية ، وحركة المؤتمر الوطني وحلفاءه بقيادة الاسطورة نلسون مانديلا من الناحية الأخرى ، وما يقابل ذلك من وريثٍ لأسوأ نظام (يمكن في التاريخ ألإنساني كله) استبداداً واستهتاراً وفساداً (البرهان ورهطه) وواقع الحركة السياسية بضعفها وأنانيتها في السودان ؟
أو في تشيلي ، مثلاً ، حيث تم اعتماد عدد واسع من التعديلات والصكوك وتأسيس نيابة عامة مستقلة مع تدابير واسعة ومُحْكمة لحماية الضحايا والشهود ، وظلت العملية في تطور مستمر إلى ان تم إشراك القوات المسلحة في الحوار الوطني بشأن الانتهاكات ، وإنشاء دائرة للطب الشرعي تحت إشراف وزارة العدل إلى أن أنشأت قاعدة بيانات وطنية تحتوي على عينات من الحمض النووي لأقرباء الضحايا … وغيرها من الإجراءات ..
– هل لدينا مؤسسات مماثلة ؟ ولا أظن أن المكون العسكري – ومرشده الخفي – على استعداد لتأسيس تجربةٍ مماثلةٍ أساسها الحقيقة والمصالحة والتحول الديمقراطي المدني ؟ ، فالقضية هنا – عند المرشد خاصةً – قضية مصالح طبقية حقَّقُوها ويريدون المحافظة عليها ، فضلاً عن ماء وجههم الديني وليست مجرَّدَ هروبٍ من مساءلات جنائية… ولا أظن أن الجزء الهام من المكون العسكري “الدعم السريع” سيقبل بأقلّ من رئاسة البلاد وتحويلها إلى مشيخةٍ عائليةٍ أو مَلَكِيَّة طالما هو القوة الضاربة (في حدود المكون العسكري) وإحدى قوى الحماية والإسناد له ولرئيسه البرهان ..
بمعنى أنه لا مجال لمثل هذه الدعوة ، أو هذا الاقتراح ، إلا بعد انتصار الثورة الحاسم وأيلولة الأمر لقوى الثورة وقياداتها لتقوم هي بقيادة تجربةٍ سودانيةٍ مبدعة من برنامج الحقيقة والمصالحة استناداً إلى تجارب شعوبٍ مناضلةٍ في جنوب افريقيا وتشيلي ، ولكن لا ضمان ولا إمكانية أن يتم ذلك بدون انتصار ثورة التحوُّل المدني الديمقراطي ..