الوثيقة الدستورية… بذرة الخلاف
حسين اركو مناوى
لا ينبغى أن تُحدد الأزمة السودانية عند نقطة زمنية واحدة أو حدث تاريخي محدد ونغض الطرف عن المحطات الأخرى التي ساهمت على تكوين هذا التراكم الهائل للمشكلة على مدى التاريخ الحديث للدولة السودانية, حيث أنه منذ بداية نشأة الدولة الحديثة على يد المستعمر, أُرتكبت أخطاء فادحة انتهت بنتائج كارثية وهذه البدايات الخاطئة استمرت دون معالجة لكى تُضاف الى سلسلة من أخطاء تناسلت و تراكمت بعضها فوق الآخر حتى غدت ثُوقباً سوداءً, black holes وكان آخرها الوثيقة الدستورية التي أنتجتها عبقرية القوى السياسية وتمت صياغتها على مبدأ احتكار السلطة لمجموعة سياسية صغيرة مع المكون العسكرى ونتيجة هذا الخطأ افضت الى خلافات سياسية ما بين أطراف الشراكة في الحكومة الانتقالية, وقادت إلى تدخل العسكر لتعطيل جزء من بنود الوثيقة الدستورية وإقالة رئيس الوزراء واعتقال عدد من النافذين في الحرية والتغيير بما فيهم بعض الوزراء وتعتبر هذه حلقة مهمة من سلسلة حلقات الأزمة السودانية. ولقراءة هذا التطور يتطلب ربط الأحداث مع بعضها البعض منذ وقبل سقوط نظام الانقاذ وقراءة الواقع الاجتماعى السودانى وعلاقته بالتحولات السياسية.
وللولوج في لب الموضوع من المفيد أن نقف قليلاً عند الضجة الاعلامية التى أعقبت أحداث 25 أكتوبر 2021, وأعتقد كما اشرتُ من قبل في مقال ٱخر إنه إمتداد لحملة إعلامية مبرمجة لتغطية الأخطاء التي ارتكبتها الحرية والتغيير خلال توليها السلطة وواضح هو استثمار فى شعار المدنية, كسلاح له مفعول في كسب المعركة السياسية من خلال تشويه واغتيال الخصوم, بالأخص أولئك الموقعون على سلام جوبا والذين لهم موقف واضح من ممارسات الحرية والتغيير. المدنية كلمة حق أُريد بها الباطل ولكنها أُختيرت فى هذه المعركة لأنها السلاح الذي يخشاه الكل بغض النظر عن أين الحقيقة. البعض تعرف حقيقة الصراع والأزمة بين مكونات الحرية والتغيير وتغيب الحقيقة عند البعض بسبب الضخ الإعلامي الكثيف على وتيرة متزايدة فى اتجاه إخفاق محدد دون ذكر بقية إخفاقات حكومة الشراكة. يجب أن نملّك الشعب السودانى جوهر الحقيقة حول القصور المُتِٓعٓمد الذي يتعلق بصميم الواجب الحكومى وتتحمله كل أطراف حكومة الشراكة, العسكرى والمدنى سواء ما يتعلق بتكوين المجلس التشريعي او انشاء المفوضيات المستقلة أو تكوين المحكمة الدستورية اضافة الى الشأن الحزبي فيما يخص ترتيب البيت الداخلي للحرية والتغيير. الأزمة داخل الحرية والتغيير نشأت على خلفية رفض أصحاب الوثيقة الدستورية للسلام وهذا الموقف العدائي للسلام بعثت رسائل قوية لكتلة السلام بأن تعمل على حماية مصالحها ومنذ تلك اللحظة أصبحت قضية الحرب والسلم بالنسبة لكتلة السلام هي الاستراتيجية والأولوية القصوى فى الفترة الانتقالية مع ذلك كانت هناك فرصة كبيرة لمواءمة المواقف بين الحرية والتغيير وكتلة السلام ولكن كل المساعي وصلت الى طريق مسدود مما أدى إلى تعطيل جزء كبير من برنامج الحكومة الانتقالية. على مستوى الحكومة الانتقالية, المؤسسات المعطلة كانت أهم بكثير من ٱنتقال رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين والمؤسف هذا الإخفاق الوحيد, غطى على كل الإخفاقات فى الفترة السابقة. لنكون اكثر دقة فى تحليل الواقع السياسي فإن أزمة ٱنتقال السلطة إلى الشق المدنى لا تخلو من المبالغة ما دامت هناك مواضيع اخرى اكثر اهمية منها اصبح فى طى النسيان ولو كان هناك تهديد لمستقبل السودان لكان غياب المجلس التشريعي المهدد الحقيقي, أما مدنية الدولة أمر لا زال فى مراحله الأولى لأنّ الوطن اليوم يعيش في مناخ سياسي له شأن بمرحلة ٱنتقالية تراضت عليها أطراف الشراكة وفق مرجعيات دستورية واتفاقيات سلام وليست انتخابات حرة ديمقراطية فوضت الحكومة الحالية لإدارة الدولة. الاهم فى هذه المرحلة ليس انتقال السلطة الى الشق المدنى كما يتشدق البعض ولا الاهم هو من الذي يتولى رئاسة مجلس السيادة أو رئاسة مجلس الوزراء انما الاهم هو إنجاز متطلبات المرحلة الانتقالية الكثيرة وفي مقدمتها تكملة الهياكل المتبقية وتنفيذ السلام وتحقيق السلام الذى لم يتم و فوق ذلك الأهم هو البحث عن مشتركات التى تؤسس ارضية قوية لوحدة المجتمع السودانى الذى يعانى من التمزق فى نسيجه الاجتماعي بسبب سياسات مركزية القائمة على الإقصاء وٱحتكار السلطة, ولن يتم توحيد الصف السودانى ما لم تكن هناك مشاركة واسعة في مؤسسات الدولة, والتطورات التى حدثت مؤخراً فى شرق السودان تعتبر درس بالغ لمراجعة كل السياسات القديمة ولفتح كل الفرص لكى نرى لمن القول الفصل فى السياسة السودانية بعد 19 ديسمبر 2018.
يجب أن ندرك جميعاً أننا نعيش فى حقبة جديدة بعد ثورة 19 ديسمبر. حقبةٌ تراجعت وٱنكمشت مساحات المناورة التي كانت تمنح العقلية القديمة رشاقة سياسية تساعد على التملص من المطبات فى أوقات الاستغلال السياسي.
الانقاذ بكل جبروتها وسيطرتها لإمكانيات الدولة لم تنهزم نتيجة جهد أحادي إنما انهارت بسبب عدة عوامل معقدة ومركبة, منها نضال مسلح ومنها حراك مدني, وجزء ٱخر المجتمع الدولي ودوره الملحوظ في محاصرة وتركيع النظام بإستخدام عصا العقوبات. فى خضم هذه العوامل المتداخلة برز دور الحراك المدني في 19 ديسمبر 2018 كأحد أهم محطات للمقاومة السياسية على الأقل على مستوى الإعلام وكان بمثابة تتويج لنضالات سابقة أشد ضراوة وأكثر كلفة استمرت دون توقف لمدة ما يقارب ثلاثين عام من أجل إنهاء الشمولية والدكتاتورية، والملفت فى هذه المحطة أن الثورة السودانية عبر تاريخها المديد منذ الستينيات اتسمت هذه المرة بالشمولية ومشاركة معظم الطيف السياسى والاجتماعى السودانى دون استثناء نوعاً وشكلاً. نوعاً, الثورة بتراكمها النضالي, الطويل, جعلت أصحاب الرؤى المختلفة أن تطرح بوضوح قضايا الأزمة السودانية لأول مرة , أما شكلاً لم تقتصر المشاركة فى هذه المرة فى حدود العاصمة القومية كما كانت فى أكتوبر 1964 وأبريل 1985 إنما شاركت الاقاليم هذه المرة دون استثناء بل الشرارة الأولى للثورة انطلقت من الدمازين حاضرة النيل الازرق, أى خارج مدينة الخرطوم
.
19 ديسمبر شكلت نقطة تحول مهمة فى تاريخ السودان ليست لانها هزمت أعتى دكتاتورية مرت فى تاريخ السودان, إنما تأتى الاهمية من أنها خلاصة نضال جماعي شاركت فيه كل الرؤى السياسية فى السودان عكس الثورات السابقة والنتيجة كانت دخول لاعبين جدد فى ميدان السياسة القديم, فتحول الصراع السياسي بدلاً عن مواجهة الانقاذ الى مواجهة العنصر الجديد القادم برمزية كفاح الهامش, الذي قدم تضحيات جسيمة طيلة فترة الانقاذ. والجدير بالذكر, فى سجل تاريخ الشعوب,عند الأزمات والمنعطفات التاريخية الفاصلة أثبت التاريخ ضرورة إعمال حكمة rationale لتلعب دور المنقذ الحقيقي وبها يرتاد الشعوب آفاق النجاح, وكانت مبادرة المصالحة الوطنية للزعيم الراحل نيلسون مانديلا مخرجاً سحرياً لجنوب افريقيا من الأزمة وكذا الحال فى رواندا التى عانت من الإبادة الجماعية, كل هذه الدروس المستفادة من جنوب أفريقيا ورواندا كانت يمكن أن تُتخذ نموذجاً للمخرج من الأزمة في السودان. شعب جنوب افريقيا وقف فى وجه الفصل العنصرى لقرون وشعب توتسى تعرض لإبادة جماعية بشعة ولكن منطق الردع المتبادل mutual deterrence أجبر كل من الزعيم نيلسون مانديلا وبول كيكامى على تغليب مصالح الوطن العليا على تصفية الحسابات السياسية. وبحكمة القيادتين في جنوب أفريقيا ورواندا, الإرادة السياسية فى البلدين تجاوزت الشرخ الكبير الذي حدث في نسيج المجتمع من خلال إطلاق دعوة الوحدة على مستوى الشعوب دون الإخلال بقواعد العدالة, والوحدة الوطنية هي كلمة السر التي أنجزت المستحيل. قياساً بتجربة جنوب أفريقيا ورواندا نجد السودان يعيش واقعاً أقرب إلى تلك التجارب حيث أنّ المناخ السياسي والاجتماعي مشحون بترصد متبادل كل طرف يتأبط الشر من أجل البقاء وعناصر الردع المتبادل اليوم فى الساحة السودانية تأخذ أشكال مختلفة ما بين العسكرية والاجتماعية والسياسية وقد استخدم أهل الشرق قوتهم الاجتماعية ببراعة للضغط على الحكومة لنيل حقوقهم, وفى غياب rationale أصدق قراءة للوضع فى السودان أنه مرشح للانزلاق نحو اقتتال جهوي أو اهلى يفضى الى تمزيق الدولة السودانية, وفي ظل ظرف كهذا من السخرية أن تنغمس القوى السياسية فى خصومات تصفية الحسابات وتكريس التسلط واحتكار السلطة وتصدى للجهود الرامية إلى البحث عن المشتركات التي تعزز الوحدة الوطنية.
نسوق هذه الأمثلة ليس بغرض استعادة ذكريات تاريخية ولكن من أجل إظهار وجه الشبه بين الوضع فى السودان والأوضاع التى مرت فى تلك البلدان ومن أجل تذكير الناس إلى أي مدى تفتقر القوى السياسية في بلادنا إلى الحكمة فى مخاطبة الأزمة الشائكة التي أودت بأحلام قيام الدولة السودانية الموحدة التى تغنى بها الأجيال الانشودة المشحونة بالعاطفة الوطنية “منقو قل لا عاش من يفصلنا”. الشيء الملفت في دور أحزاب الحرية والتغيير هو تكريس رؤية السودان القديم وتأجيج الصراع القائم حول مفاهيم الدولة الوطنية وذلك عبر استهداف الجماعات التي عانت من التهميش طوال الحقبة ما بين الاستقلال حتى تاريخ سقوط الانقاذ.
أولى الخطوات فى إدارة الصراع بين القديم والجديد تمثلت فى تفتيت المفتت وتمزيق الممزق, من خلال إقصاء المكونات الفعلية للهامش من المشاركة فى صياغة الوثيقة الدستورية وإشراكهم في الحكومة الانتقالية, فجاءت ما يسمى بالحاضنة السياسية قبل وثيقة سلام جوبا خالية تماماً من قوى الهامش التي ناضلت من أجل خلق أوضاع سياسية جديدة فى السودان من منظور هيكلة الدولة السودانية لكى تستوعب التنوع بابعاده المختلفة وعلى ضوء ذلك كان ينبغى أن تنشأ شراكة فعلية فى صناعة القرار فى الدولة السودانية, ولم يحدث هذا, بالرغم من المشاركة الكثيفة من قوى الهامش لإحداث التغيير في البلاد فالنتيجة كانت لا تختلف كثيراً عن حصيلة الثورات السابقة وبالأخص أكتوبر 1964 وابريل 1985. الوجوه التي فاوضت العسكر وصنعت مع العسكر الوثيقة الدستورية هى نفس الوجوه القديمة فقط قدمت نفسها إلى الشعب السودانى فى عبوة جديدة ولكنها بطعم النبيذ القديم. القوى التقليدية تحت عباءة الطائفية, والمؤتمر السوداني بقيادة دقير, حزب البعث العربى الاشتراكى بقيادة سنهورى, إضافة للتجمع المهنيين فهؤلاء جميعهم أما قوى مركزية قديمة تفتقر إلى رؤية السودان الجديد أو أحزاب وقوى مجتمع مدني تناسلت من الفكرة القديمة لا علاقة لهم جميعاً بتضحيات الهامش ولكنهم فى خلسة سحبوا البساط من تحت ارجل الثوار وأبرموا صفقة مع العسكر حول تقاسم السلطة وفى هذه الصفقة لم يكن هناك جسم معتبر من الهامش السودانى ولا شباب لجان المقاومة جزءاً اصيلاً لا فى التفاوض ولا فى صياغة الوثيقة الدستورية وبذلك مرحلياً استطاعت القوى القديمة المعروفة بقوى المركز أن تمارس التهميش مرة أخرى على الهامش وعلى الشباب, الوقود الحقيقيون للثورة ولو لفترة وأبعدت تماماً هؤلاء الفئات المهمة من دائرة صناعة القرار فى الدولة.
قبل أن تضع أحزاب قوى الحرية والتغيير يدها على مكتسبات الثورة من خلال صياغة وثيقة دستورية تضمن لهم تقاسم السلطة مع العسكر, توجهت سريعاً الى محطة السلام بغية تعطيل العملية السلمية أو بحثاً عن إخراج يناسب تطلعاتهم وخلق وضعٍ يساعدهم على استحواذ أكبر قدر من السلطة المرتقبة ويضمن لهم تحجيم دور القوى الفعلية الديناميكية للهامش والتى تتجسد فى قوى الكفاح المسلح, فجاؤوا الى اديس ابابا تسيطر عليهم هواجس مخاطر مشاركة الهامش عبر العملية السلمية التي تجري ترتيباتها هناك. فى جوٍ من نقاش حاد امتد اكثر من اسبوعين فى أديس أبابا, توصل الممثلون فى مكونات الكفاح المسلح ووفد الأحزاب القادم من الخرطوم الى ترتيب مواضيع واجندات ما قبل الوصول إلى السلام تفضي إلى تكوين حكومة المرحلة الانتقالية. القوى السياسية التى اتت الى اديس ابابا تكاد تكون هي نفس القوى الحزبية التي تحالفت في مرحلة سابقة مع الجبهة الثورية لإسقاط نظام الإنقاذ, بل هى نفس القوى الحزبية التي وجدت فرصة من خلال الجبهة الثورية لتتبوأ مقاعداً لمناهضة نظام الإنقاذ سواء فى الفجر الجديد أو إعلان باريس ومن ثم لاحقاً نداء السودان إلا أنّ التحول الجديد الذى تمخض بفضل حراك 19 ديسمبر أبان الموقف التكتيكي الذى كان تنتهجه القوى السياسية مع الكفاح المسلح وٱن لها الأوان أن تنتقل بسلاسة إلى مرحلة جديدة تطوى كل صفحات النضال المشترك وتفتح ملفات استراتيجية التى كانت ولا زالت عقبة كأداء أمام وحدة السودان وهى استراتيجية الإقصاء التى تمارسها النخب المركزية في مقاومة دخول قطاع كبير ومؤثر من الشعب السودانى فى دائرة صناعة القرار فى الدولة السودانية.
الأوطان تُبنى حالما تكون الأحزاب وسياسات الأحزاب فى قامة الأوطان. لا يمكن أن تُبنى الأوطان بالإقصاء والطمع واحتكار السلطة ولا تُبنى بالتشفي والانتقام وتصفية حسابات سياسية. وللاسف القوى الحزبية فى بلادنا لم تعى حتى الآن دورها فى هذه المرحلة فبدلاً أن تملأ الفراغ الذي خلفته السياسات القديمة باتت تدور فى حلقة صراعات ضيقة كلها انتقام والأنانية. اعلامنا مليء بالشتائم والأحقاد. كتابات ومذكرات لا قيمة لها وسوشيال ميديا عنوانها مهاترات. هذه الأخطاء هي التي ساقت البلاد الى ما نحن فيه, النخب السياسية, العسكرية والمدنية وشركاء السلطة جميعهم بشكلٍ او اخر ساهموا فى الوصول الى هذه النقطة ولكن أحزاب الحرية والتغيير المركزي تتحمل القسط الأكبر لهذا الاخفاق لأنها هى التى صنعت الوثيقة الدستورية خصيصاً لخدمة أغراضها وليست من أجل مصلحة الوطن العليا.