المهادنة المخزية
بقلم : محمد عتيق
صحيحٌ أن لشرق السودان قضاياه وشكاواه الحقيقية المزمنة ، والصحيحُ أيضاً أن لأقاليم السودان الأخرى قضاياها وشكاواها الحقيقية المزمنة.
وكما يسكن السلُّ والفقر والجهل انسان الشرق ، يسكن الفقر والتهميش (المادي والمعنوي) إنسان السودان في كل مكان .. بمعنى أن البلاد كلها تعاني الإهمال والعوز ، أو كما وصفها مفكرون متميزون منذ أكثر من نصف قرن ، أننا “نعيش أزمةً وطنيةً شاملةً وممتدةً منذ الاستقلال” ، فالآباء المؤسسون الذين نذكرهم مطلع كل عام بالإجلال والاحترام ، والذين قادوا الفترات الديمقراطية كلها (56- 1958، 64- 1969، 85- 1989) كان السودان بالنسبة لهم هو الخرطوم وود مدني وغيرها من المدن الكبيرة ، والديمقراطية الليبرالية وكأنها تعني فقط إجراء الانتخابات العامة، حبْك المناورات ، التراشق شعراً ونثراً في البرلمان ، وتدبير المفاجآت والتنافس الذاتي حول المناصب ومواقع النفوذ :
– لم يدركوا أن ما تذخر به البلاد من تعدُّدٍ في الأعراق والثقافات والمعتقدات هي مصدر قوَّتها الحقيقية إذا ما أحسنوا فهمها وقاموا برعايتها وطنيّاً وتنميتها اقتصادياً وانسانياً بما يتناسب مع مقوِّمات كل إقليم ومزاياه ، فتتكامل للاندماج الوطني أركانه على طريق الوحدة والاستقرار ..
– غاب عنهم الاستمرار في التنمية ، مثلاً في المجال الزراعي ؛ بتطوير المشاريع التي أقامها المستعمر وتأسيس غيرها، ولا التخطيط لإنشاء صناعة مرافقة أو تطوير البنى التحتيّة في الكهرباء والطرق ووسائل النقل ، أو رؤىً للنهوض بمناهج التربية والتعليم وبناء رأس المال البشرى…الخ..الخ
كان المستعمر البريطاني قد أسّسَ بعض البنيات والمشروعات المعقولة (ولو لمصلحة صناعاته في لانكشاير وليفربول وغيرها) ، وبنى جهازاً جيداً للخدمة الحكومية مدنياً وعسكرياً ، ولذلك عاش جيل الاستقلال والجيل الذي تلاه الحياة بآمالٍ عريضةٍ في المستقبل تحدوهم ونفوسٍ سعيدةٍ مطمئنة بالحال ، فالاقتصاد يبدو جيداً ومستقراً ، والتعليم وكافة الخدمات معقولة ، فازدهرت الحركة الثقافية بكل ضروبها وتتالت أجيالها من لدُن العباسي والبنا وخليل فرح إلى التجاني وجمّاع والطيب صالح والصلحي ، ومن الحاج سرور إلى محمد وردي…الخ وإلى جيل الشباب الذين ادهشُوا العربية وهم في مقاعد الدرس بقيادة أميريْهم محمد عبدالحي ومحمد المكي إبراهيم ، وغيرهم ممّن شكّلوا وجدان السودانيين وأثْروا حياتهم أدباً وفنّاً .. غير أنّ كل ذلك كان بقوة الدفع التي خلقتها أحداثٌ وطنيةٌ هامة مثل ثورة 1924، مؤتمر الخريجين ، الاستقلال ، ومشروعات الحكم البريطاني الخدَمِيّة والزراعية .. كل ذلك كان محصوراً في العاصمة وبعض المدن الكبيرة ، أمّا إنسان الريف والمجموعات السكّانية المختلفة فقد كانت مُهْمَلَة لا يكون الالتفات إليها إلا في المواسم الانتخابية أو عند زيارة القائد المُلْهَم !! إلى أن إخترقت حركة الإسلام السياسي(الإخوان المسلمين) النفوذ الطائفي التقليدي (الأنصار والختمية) بشعارات الدستور الإسلامي والجمهورية الرئاسية وتسلّلَتْ إلى مقررات المناهج الثانوية كتب الأخوين محمد وسيد قطب فانبثق من بينها (بيننا كلنا) العهد الغيهب ، عهد (الإنقاذ) الذي دمَّرَ كل شيء ومزّقَ المُمَزَّق وأفسد الحياة فساداً لا فساد بعده ..
هذا من حيث أن المطالبة بحقوق الإقليم الشرقي وأهله لا تنفصل عن المطالبة بحقوق كل السودانيين ومناطقهم ، أمّا في الذي جرى (تحت لافتة المطالبة بحقوق الشرق) من إغلاقٍ لموانئ البلاد وقطعٍ للطرق القومية فهي جرائم جنائية لا جدال فيها يتحمّلَها سيادة الناظر ترك منفرداً لأن الذين نفّذوا له ما أراد قومٌ بسطاء يخضعون لسطوة قيادتهم (ناظرهم) ، كذلك يتحمّل الوِزْرَ معه كل الذين ربَّتُوا على كتفيه وهم (يتغَنُّون) بمطالب الشرق في استجداءٍ مُخْزٍ لمن هو في حقيقة الأمر كاذبٌ ومجرم . فإذا كان أمر المكوِّن العسكري واضحاً ومحسوماً ، فإن المكون المدني قد كشف – بموقفه المهادن – حجم أزمتنا لأنه لا مجال هنا للتساهل مع الجرائم الجنائية خاصةً الكبيرة المتعلِّقة بحياة الناس ومصالح البلاد ، ولا مجال لتأجيل المعركة بحجة مواجهة الخطر الأكبر المشترك (اللجنة العسكرية وأعوان النظام الساقط وحلفاءه) لأن الحكومة المدنية وأحزابها قد انتهجوا طريقاً أخطر من جريمة الناظر ترك ؛ امتثلوا لشروط صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية ، الشروط التي تسحق الشعوب وتنهب ثرواتها ..