شرق السودان : أزمة منسية أم حاضرة كوميض نارٍ جاسمٍ تحت الرماد !.
فيصل الباقر
[email protected]
-1-
ظلّت الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية فى شرق السودان، أزمة منسية، ولن أقول غائبة، ولكنّها بالأصح، بقيت مُغيّبة – وبفعل فاعل – من الأجندة السياسية، والمشهد السياسي السوداني – تماماً وعمداً، ولعقودٍ طويلة – ، ومع سبق الاصراروالترصُّد، ومع ذلك، ورُغماً عن التعتيم الإعلامي، وآثاره الضارّة، فى العقل الجمعى للجمهور، بقيت أزمة الشرق، حاضرة، كوميض نارٍ، مدفونة، تحت الرماد، والرمال المتحركة، فى ذلك الإقليم الهش والمضطّرب – أصلاً، ودوماً – لأسباب كثيرة، منها – على سبيل المثال، لا الحصر- التنموي والمعرفي والجيوسياسي والتاريخي.
-2-
بلا أدني شك، فإنّ النُخب السياسية، الحاكمة والمُتحكّمة فى المركز “الخرطوم”، والهامش “الإقليم” – هي التي تتحمّل – بدءاً وانتهاءاً – وزر ذلك التخلُّف والافقار، الذي يُعاني منه الإقليم – الجغرافيا والناس – وذلك، بسبب أنانية، وضيق أُفق النُخبة السياسية، وعجزها عن القيام بمسؤلياتها على أكمل وجه، وبُعدها وانقطاعها التام، عن الانصات لأصوات الجماهير والطبقات الكادحة، وأنّاتها الغاضبة، أو بسبب تأخير وتأجيل الاستجابة العاجلة لمطالبها العادلة والمشروعة، أو- حتّى – مُجرّد الاحساس والشعور بواقعها المرير، فى إقليم، مازال يرزح – منذ الاستقلال، وحتّى يومنا هذا – تحت ويلات (متلازمة) الفقر، والجوع، والمرض، والأُمية السياسة، والمعرفية، ونُضيف، الأُمية المعلوماتية – علي وجه الخصوص – وهى محل اهتمام وتركيز هذا المقال، فى هذا المقام.
-3-
هذا الواقع المُزري، أبقي ، وسيُبقي على إنسان الشرق، وجماهيره الشعبية، صيداً سهلاً، تحت قبضة ورحمة “بعض” الساسة غير المؤهلين – للأسف – فكرياً، وأخلاقياً للقيادة، فظلّوا يستأثرون لأنفسهم، ولأبنائهم وبناتهم، وذوي القُربي، والمقربين منهم، وبُطانتهم وحاشيتهم، بكل الامتيازات التي تُوفرها السلطة، فيما يبقي المواطن البسيط ضحيّة، تسوقه، بل، تجرّه جرّاً، نحو حتفه، أجندات، وأهواء، ورغبات قياداته السياسية والقبلية، للموت السريع من المرض، والفاقه، والجهل، أو تُحرف وتُحرّف قضيّته، فى مسائل ومعارك جانبية، ليست له فيها جمل ولا ناقة، وحروبات ونزاعات مجتمعية بغيضة، تنفيذاً لرغبات هؤلاء الساسة الأنانيين، المحليين منهم، والمركزيين، مُستفيدين من ثورة المعلومات، ثُمّ ثورة الاتصالات، التي جنوا ثمارها – وحدهم – والتطورات السريعة فى التكنلوجيا، وتحديات عالم الرقمنة التي مكّنت طائفة من النُخب السياسية، من اغراق الميديا بأجندتها الخاصّة، فى عالمٍ دخلت فيه تأثيرات الميديا كل بيت، قصراً كان، أو بيت من الطين، أو القش، يحتاج فيه الفرد والجماعة فيه لمعرفة الحقيقة، والمعلومات الحقيقية، التي تمكنهم من اتخاذ قرارات سليمة، مدروسة، ومأخوذة من بيانات ومعلومات موثوق فى صحتها، وهذا هو واحد من أهم أدواروواجبات الميديا، وصحافة البيانات فى عصر المعلومات.
-4 –
نعم، ظلّ إنسان، ومُجتمع الشرق، بصورة عامة، يُعاني من افتقاد الفرد، وبالتالي، الجماعة، لأقل المهارات الأساسية، فى كيفية استخدام المعلومات المُتاحة بفاعلية – علي قلّتها وندرتها – حيث تؤثّر الأُميّة، والأُمية المعلوماتية – تحديداً، فى السياق الجديد – فى قدرة الأفراد على اتخاذ قرارات صحيحة وسليمة، تجعلهم “يفرزون” ما يصلهم من معلومات، وأخبار (جُلّها) خاطئة، ومغلوطة، وكاذبة، ومُضللة، تأتيهم مراراً وتكراراً، من مُختلف وسائل الاعلام، ووسائط الميديا التقلدية منها، والجديدة، وأخيراً، الميديا الاجتماعية، التي زادت الطين بِلّة، لطبيعتها، وعدم التزامها بمواثيق الشرف الصحفي التي تحكم العملية الصحفية والاعلامية، من حيث تلازم مبدأ الحرية مع المسؤلية المهنية.
-5 –
هكذا، وبهذا، يصبح المجتمع بأكمله، ضحية سهلة وفريسة سائغة، للتضليل الإعلامي، والأخبار الكاذبة والمُزيّفة، وتكريس العنصرية، والجهوية، ورفض وشيطنة الآخر، والمُختلف، وسيادة خطاب الكراهية، الذى تبثّه وتنشره على نطاقٍ واسع، وبكثافة عالية، الوسائط الاعلامية التي تفتقد إلى أبسط المعاييروالكفاءة المهنية، والإحترافية المفترضة فى الميديا، التي أصبح – للأسف – يعوز أغلب مؤسساتها الفهم السليم لمهامها ودورها، وواجبها، فى نشر الوعي، فى المجتمعات، فتنشط – هذه الميديا – فى اغراق المشهد الإعلامي بالأخبار الكاذبة، و”الإعلانات” والأخبار والحملات والدعاية السياسية المضللة، فيتشكّل فى المُجتمع رأي عام “جاهل” و”تابع” و”مُنقاد”، يسهُل عبره جر المكوّنات المجتمعية، والمجتمع بأكمله إلي النزاع والعُنف المادي والمعنوي وخطاب الكراهية.
-6 –
فى مناخ كهذا، يسهُل لكل صاحب/ة أجندة خاصّة، الاستثمار فى الأزمة، وأخص، وأعني هُنا – أزمة الشرق – في غياب المعلومات التي أصبحت فى عالم اليوم قُوّة – بل، قوّة ضاربة وساحقة – يُمكن الاستفادة منها فى الوقاية من الأزمات، إذا ما أُحسن الناس والميديا استخدامها، كما يُمكن اساءة استخدامها فى حالة تكريسها فى زراعة الفِتن والفُرقة والشتات، وفرض التطبيع والتعايش مع المناخات التي تفرضها حالة النزاع المسلّح الذى سيكون حصاده وبالاً على الجميع!.
-7 –
الوطن بأكمله، وشرق السودان على وجه الخصوص، يواجه – اليوم، وأكثر من أيّ وقتٍ مضي – تحديات واقع جديد تعمل علي فرضه قوي طبقية واجتماعية وسياسية و”عسكرتاريا” معروفة للجميع، تعمل علي نشر خطاب الكراهية، عبرالأعلام المكتوب والمرئي والمسموع، بمختلف مسمياته، تنفيذاً لأجندتها الخاصة.
-8 –
ما يدور فى المشهد الإعلامي الراهن، من مخططات ومحاولات بائسة، تمضى فى طريق صناعة الفوضي وهندسة الاحتجاجات، و”التلاوم” و”التراشق الإعلامي” السمِج، بين (طائفة) من النخبة العسكرية والمدنية، حول ملف الأزمة فى شرق السودان، وغيره من أزمات مهام استكمال مهام الثورة، وتصوير أنّ معالجتها، تكمن فى معالجة الأعراض قبل تشخيص المرض، وبعيداً عنه، والتركيز علي الفروع، بدون تحمّل مشقّة البحث فى الجذور، لا يُمكن وصفه فى أحسن الفروض، سوي بأنّه عبثٌ صبياني، لا يُليق برجال ونساء دولة محترمة، ولا يرتفع – أبداً- لقامة ثورة ديسمبر المجيدة، التي دفع فى سبيل انجازها ونجاحها الشباب والشابات، فى السودان، أرواحهم فى هذا الوطن الولود. ولهذا، يجب علينا فى الإعلام، وفى اطار مهامنها وواجباتنا المجتمعية، البحث الجاد عن الحقيقة، ونشرها – والتمسّك الصارم بمعايير وموجهات دور (الميديا والنزاع) لتصل الحقيقة الكاملة للجماهير، لكونها صاحبة المصلحة الاولي والأخيرة فى التغيير، والسير فى طريق تحقيق حُلم الوطن المنشود، واستكمال مهام ثورته الظافرة. وهذا هو المطلوب.
– 9 –
تُري أيّ الخيارات نختار، وأيّ الطُرق والدروب سنسير، نحن طلائع وقادة المجتمع الصحفي، المؤمن بدور الميديا فى التغيير، والديمقراطية، والعدالة، والسلام، واحترام وتعزيز الحريات، وفى مقدمتها – وقلبها – حرية الصحافة والتعبير وحقوق الإنسان؟. وما المطلوب مّنا – أفراداً وجماعات – فى واقعٍ معلوماتي وإعلامي، جديد، مُروّعٍ ومُخيف، تسعي وتحاول أن تفرضه أجندات القوي المجتمعية، والسياسية التي تعمل – ليل، نهار – لنشر خطاب الكراهية، وفرض أسوأ التصوّرات والسيناريوهات المؤدية للإظلام الإعلامي، والتضليل المعلوماتي، وعمليات وسياسات وضع عربة الميديا، أمام حصان المعلومات ؟!.
جرس أخير:
“أوعك تخاف .. يا من تموت بالجوع، وقدّامك ضاف… والأرض، باطنها ظلّ مطمورة سِواك…..” ، ” وطن التعدُّد والتنوُّع والتقدُّم والسلام ..حيث الفضا الواسع حمام .. والموجة، خلف الموجة .. والسكّة الحديد … حريّة التعبير عبير.. تفتح شهيتّك للكلام … النهر ما بيستأذن الصخرة المرور.. جهراً يمُر.. نحو المصب … أمواجو تلهث من بعيد .. أكتب نشيد راسخ جديد … الشمس تشهد .. وبرضو أستار الظلام” ((محجوب شريف))