السودان …الانتقال الديموقراطي المتعثر
بقلم : العبيد أحمد مروح
في الحادي والعشرين من أغسطس/آب 2019 بدأت في السودان مرحلة انتقالية بعد أداء رئيس أول حكومة مدنية القسم عقب الإطاحة بنظام الرئيس عمر البشير.
وقد جاء تولي الدكتور عبد الله حمدوك رئاسة الوزراء وأداؤه القسم نتيجة مفاوضات ماراثونية بين القوى العسكرية التي أعلنت الإطاحة بنظام “الإنقاذ الوطني” وبين القوى المدنية التي قادت الحراك الشعبي المعارض للنظام لعدة أشهر، وانحاز لها الجيش في أبريل/نيسان 2019، وقد نتج عن تلك المفاوضات “وثيقة دستورية” تم توقيعها بعد أربعة أشهر من ذلك، وتأسست على إثرها ما باتت تعرف بالشراكة المدنية–العسكرية لقيادة فترة الانتقال.
عقب أدائه القسم رئيساً للوزراء، أعلن “الخبير الاقتصادي الدولي” عبد الله حمدوك أن أولويات الحكومة التي يزمع تشكيلها تتمثل في “إيقاف الحرب في البلاد وتحقيق السلام المستدام ومعالجة الوضع الاقتصادي”، وخلال العامين المنصرمين تشكلت حكومتان أدارتا شأن البلاد وما يزال تحدي الوضع الاقتصادي، وتحقيق السلام الشامل، والتأسيس لديمقراطية مستدامة، قائماً ويشكل العائق الأكبر أمام الحكومة.
في وقت كان الظن الغالب عند عامة السودانيين أن بلادهم ستتخطى هذه العقبات في بضعة أشهر، وأن الغرب الذي حارب النظام السابق، الإسلامي التوجه، بحجة دعمه للإرهاب، وسلط عليه العقوبات السياسية والاقتصادية، سيسقط عقوباته تلك بمجرد سقوط النظام، وأن من حملوا السلاح من المعارضين في وجه النظام السابق سيلقونه ويعودون للمشاركة في إعادة تأسيس الديمقراطية، وأن بلادهم الغنية بمواردها الخام ستتدفق عليها الأموال والاستثمارات فتتحول حالة الضيق الاقتصادي الذي يعيشونه إلى رفاه في ظل حرية واسعة، لكن حصاد هذين العامين من تلك الآمال أتى دون سقف الطموحات بكثير.
لم تنجح جهود الحكومة الانتقالية في رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب إلا بعد ستة عشر شهراً من تشكيلها، وعلى الرغم ممَّا شكله هذا الحدث من انفراجة كبيرة في الأفق السياسي للبلاد، فإن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ظلت في تراجع مستمر، وانخفضت قيمة العملة الوطنية خلال العامين المنصرمين لأكثر من سبع مرات، وهي نفس النسبة التي بلغها معدل التضخم ارتفاعاً، مع تراجع كبير في حصيلة الصادرات من المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية التي كانت ترفد الخزينة العامة للدولة، وزاد الطين بلة دخول الحكومة الانتقالية في برنامج تقشفي مع مؤسسات التمويل الدولية، تم بموجبه رفع الدعم عن الوقود وتحرير سعر صرف العملة الوطنية، وذلك بغرض الوصول إلى “نقطة القرار” ومن ثم تأهيل السودان للدخول في مبادرة الدول الفقيرة المستحقة لإعفاء الديون (هيبيك).
وقد نجحت الحكومة في ذلك بدعم من دول غربية على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، بعد عامين من تشكيلها الأول، وتأهلت للدخول في مفاوضات مع الدائنين الدوليين للتخلص من عبء الديون الذي فاق خمسين مليار دولار، لكن الاستثمارات لم تتدفق بعد، والسبب الاقتصاد السوداني لم يندمج بعد في الاقتصاد الدولي.
أما تحقيق السلام الشامل فقد اتضح أنه أكثر تعقيداً ممَّا تصوره الكثيرون، فقد انخرط ممثلون للسلطة الانتقالية، بشقيها المدني والعسكري، في مفاوضات مع أحد أبرز الفصائل المسلحة المعارضة (الجبهة الثورية) استغرقت عاماً كاملاً، وانتهت إلى توقيع اتفاقية في أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي في عاصمة جنوب السودان، جوبا. ومع التعثر الذي ما يزال يصاحب تنفيذ بنود تلك الاتفاقية، خاصة في جزئها المتعلق بالترتيبات الأمنية، ما تزال هناك مفاوضات أخرى متعثرة مع إحدى الحركات المسلحة المتمردة، ومفاوضات ثالثة لم تبدأ بعد مع حركة أخرى.
صحيح أنه منذ ما قبل سقوط النظام السابق بأكثر من ستة أشهر لم تدر معارك بين الجيش السوداني والمجموعات المسلحة التي تحمل السلاح في وجه الدولة، لكن الصحيح كذلك أنه برغم مضي ما يقارب العام على توقيع “اتفاق جوبا للسلام في السودان” لم تتوقف النزاعات الأهلية المسلحة في دارفور، وما يزال الضحايا من المدنيين يسقطون بالعشرات بين الحين والآخر، وما يزال النازحون يقيمون في المعسكرات واللاجئون في بلاد اللجوء.
بل إن ما يثير القلق هو تمدد بؤر النزاعات الأهلية المسلحة بين المجموعات العرقية إلى أقاليم أخرى كما في إقليم كردفان وولايات شرق السودان وشماله، الأمر الذي بات يهدد بإرباك الفترة الانتقالية برمتها.
أما على صعيد تحالف القوى المدنية التي قادت الحراك الشعبي ضد النظام السابق، والمعروف بتحالف قوى الحرية والتغيير، فقد بدأ الخلاف يدب داخل صفوفه بعد أشهر قليلة من توقيع الوثيقة الدستورية وتشكيل أول حكومة مدنية، وزادت الشقة بين مكوناته على خلفية إقدام الحكومة على جملة من القرارات الخلافية أبرزها قرارات رفع الدعم عن الوقود وتعويم سعر العملة الوطنية، والتطبيع مع إسرائيل، والتنافس على كسب النصيب الأكبر من كعكة السلطة عقب استبدال فكرة حكومة الكفاءات الوطنية بحكومة محاصصات حزبية، وزاد من حدة الخلاف وخروجه للعلن، التنافس على مناصب ولاة الولايات وكبار موظفي الخدمة العامة. وقد أدى هذا إلى انقسامات طالت القوى النقابية (تجمع المهنيين) التي تصدرت الحراك الشعبي، وطالت كذلك التحالف السياسي الذي دعم ذلك الحراك.
وعلى صعيد ممارسة السلطة، وبدلاً من أن تتسع مساحات الحرية في الفضاء العام إثر سقوط النظام السابق، أضحت سلطات الانتقال تمارس الاعتقال السياسي دون توجيه تهم، ومصادرة الممتلكات دون أحكام قضائية، وتضيّق على حريات الصحفيين والناشطين، وتسلط سوط الفصل على القضاة ووكلاء النيابة ورجال الشرطة.
وفي نفس الوقت قامت بتعطيل أجهزة العدالة التي تبت في المنازعات، فعطلت قيام المجلس الأعلى للقضاء والمجلس الأعلى للنيابة والمحكمة الدستورية، في حين فشلت القوى السياسية المسيطرة على الأمور في تنفيذ أحد أهم بنود الوثيقة الدستورية التي وقعتها في أغسطس/آب 2019، وهو قيام “المجلس التشريعي الانتقالي” والذي كان مقرراً اختيار أعضائه في غضون ثلاثة أشهر من توقيع الوثيقة الدستورية، وهكذا انفرد الجهاز التنفيذي والسياسي بالسلطات الثلاث لعامين قابلين للزيادة.
التعثر الذي يصاحب الفترة الانتقالية في السودان لم يعد محل خلاف، فقد أقر به الدكتور حمدوك رئيس الوزراء، وقال في خطاب وجهه للأمة السودانية أواخر يونيو/حزيران الماضي إن الخلافات داخل قوى الحرية والتغيير وبين أطراف المكون العسكري وبين الطرفين المدني والعسكري باتت تهدد فترة الانتقال.
وقدم مبادرة أسماها “الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال–الطريق إلى الأمام” قدم فيها وصفاً لما يرى أنه أولويات الانتقال، وقال إنها “تهدف إلى توحيد مكونات الثورة وإنجاز السلام الشامل، وتحصين الانتقال الديمقراطي وتوسيع قاعدته”، وأضاف أنه سيدير حواراً مع القوى السياسية والاجتماعية للوقوف على رؤيتها في كيفية تحقيق ذلك.
إن الحقيقة التي ربما تجاهلها رئيس الوزراء الانتقالي عمداً، هي أن الأزمة التي يعيشها السودان منذ أواخر عهد النظام السابق هي بالأساس أزمة سياسية، عمقتها الحروب الأهلية المتطاولة والتنافس الإقليمي والدولي للسيطرة على أكبر قدر من النفوذ في السودان، وأن حلها لا يكمن في “توحيد مكونات الثورة” وبناء كتلة متماسكة للانتقال، كما ذهب، وإنما في تحديد أجندة الانتقال نفسها وبناء إجماع سياسي ورضى وطني حولها. وعلى رأس تلك القضايا إنجاز السلام المستدام وتبني إصلاح اقتصادي متدرج، وتوسيع دائرة الحريات العامة وإصلاح المنظومة العدلية، والبيئة السياسية الحزبية، والشروع في الإعداد للانتخابات، وما يستلزم ذلك من التوافق على دستور انتقالي وسن قانون للانتخابات وإجراء التعداد السكاني.