سيد فرح: أيقونة التاريخ المنسية (١-٢)
ياسر عرمان
(1)
ولد سيد فرح على ضفاف النيل في ( دلقو المحس)، عام ١٩٠٠ م تقريباً ، والتاريخ مأخوذ من إحدى إفاداته،
عند مولده كان على موعدٍ مع النيل والنبل والتاريخ ولقد صنع تاريخه بإزميل العمر وأنفق حياته في محراب الوطن.
حياة سيد فرح منظومة من النضال والترحال والرمال والغبار والأشجار والثمار وبعض نخلات باذخات وماء زلال كلها شكلت حياته.
قاتل سيد فرح في يومي ٢٧ /٢٨ نوفمبر ١٩٢٤ إلى جانب عبدالفضيل ألماظ ، ومن المفارقات أثناء عكوفي على تحرير هذه المقالة بالقرب من المكان الذي شهد تلك المعركة، كان سيد فرح هو القائد الثاني لمعركة النهر الثانية، استشهد عبدالفضيل ألماظ سليمان عيسى وزملائه وبقي سيد فرح كسيف وحيد في سكةٍ وعرة ، هرب إلى مصر ومن ثم إلى ليبيا وأنضم إلى ثورة عمر المختار، وأصبح سكرتيره حتي تم القبض على الزعيم عمر المختار في عام ١٩٣١، واُعدم من قبل المستعمرين الإ
يطاليين ونجا سيد فرح مرة أخرى، وانطلق في فضاءات وبراري رحلته العجيبة.
(2)
التاريخ الذي درسناه تغافل سيد فرح، فعندما غزا القيصر بلاد الغال لم يكن القيصر وحده كان معه قادته وجنوده وطباخه، وحينما انهمر الرصاص مات القيصر ولم يستثن الرصاص الجنود وطباخ القيصر ولكن التاريخ ذكر القيصر ولم يذكر الجنود والطباخ.
سيد فرح أيقونة من أيقونات تاريخنا المنسية ولم يتبع لأي قيصر كان، فقد كان متمرداً عنيداً كتب رحلته بمداد حب الوطن، يوما ما سيدرس تاريخ سيد فرح لطلاب المدارس وستكتب مسرحية وتعرض في المسرح المدرسي والقومي وستقدم صالات عرض السينما سيرته، لأن هذا ما يستحقه سيد فرح عن جدارة.
حينما يكتب تاريخ السودان عن صحة ودقة، وتختفي عنه صناعة الحكاوي، وتمجيد من علفوا طعام الانجليز، حينها سيأتي سيد فرح وسيعلم الناس أنه أنفق حياته ولم ينتظر اجراً من أحد.
(3)
دعوة للتظاهر من (تجمع المنسيين):
هذه المقالة بمثابة دعوة للتظاهر والاحتجاج عند الواحدة ظهراً امام ميدان القيادة العامة وأمام كل المعتصمين إحياءً عند بلادهم يُكتبون ويكتبون التاريخ من جديد؛
والدعوة عند الساعة الواحدة ظهراً من تاريخنا حينما تكون الشمس عامودية في كبد السماء، وغير ملبدة بالغيوم وتدليس التاريخ، يدعو لها (تجمع المنسيين) عن عمدٍ أو تغافل من تاريخنا القديم والحديث، وسيأتي الجميع ، تهراقا على ظهر حصانه ورحلته الطويلة إلى مصر القديمة، وجميع الكنداكات تقودهم أماني ريناس، (وكل أرجائه لنا وطن)، سيأتي كل من شارك عن حق في تاريخنا القديم و الحديث، وتاريخنا يسع الجميع، وهي دعوة للمراجعة والمصالحة التاريخية لإعادة كتاب التاريخ وترتيب الوقائع والأحداث كما شهدتها بلادنا، حتي يستعيد وطننا وجوهه الضائعة، وأكرر مرة أخرى إن الذي انتقص من جغرافية بلادنا هو الانتقاص من تاريخها؛
ونضيف أنه لكي نحافظ على جغرافية بلادنا في وجه التعدي الداخلي وأيادي الخارج الطويلة نحتاج أن نعود ونرتبط بمراسي التاريخ؛
نعود إلى كتابة التاريخ دون تعدي أيدلوجي أو ثقافي حتي نتصالح مع ذاتنا، دعوة ( تجمع المنسيين) ستكون تحت شعار كل تاريخ زائف( يسقط بس) ويبقى وجه السودان المأخوذ من صورة الإله في الأعالي وعلى الأرض العذراء امرأة سوداء في كنيسة ( فَرَصَ) وعمارة دنقس وعبدالله جماع وأرضنا أقرب إلى السماء من حبل الوريد بقبابٍ مطرزةٍ وكجور يحمل الغيث والأطفال للنساء وتبقي بلادنا تسع الجميع كأجمل حديقة.
(4)
اللورد كتشنر بعد أن أدى مهمته في غزو السودان قفل راجعاً إلى بلاده نحو مهام أخرى وتوقف في قرية (دلقو المحس) وألتقى بالعمدة صالح حاج إدريس، كان ذلك في رواية سيد فرح الشفاهية في عام ١٩١٠، غض النظر عن دقة التاريخ فإن اللورد كتشنر أحد أبطال الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها بشاربه الكثيف لم ينس الخدمات التي قدمها العمدة صالح حاج إدريس وطلب منه أن يرد جمائله وأن يبعث بأحد ابناءه إلى كلية غردون التذكارية وبعدها إلى المدرسة الحربية فرد العمدة صالح قائلاً: إن ابناءه جميعا لا يوجد من هو في عمر التعليم ولكنه اشار إلى حفيده سيد فرح، كتب اللورد كتشنر الذي سيصبح وزير الحربية البريطانية لاحقاً وستغرق به السفينة في الشواطئ الاسكتلندية وسيخلف أكبر حالة حزن في بريطانيا العظمي وإحباط لدى الشعب والقادة، كتب توصية لسيد فرح ليلتحق بكلية غردون والمدرسة الحربية!
لم يكن اللورد كتشنر يدرك أنه قد قام بتجنيد واحد من أكثر المنافحين للاستعمار البريطاني، بل إنه قد جند أحد أهم قادة معركة قادمة ستنزل الخسائر بالبريطانيين بعد سنوات قادمات من تاريخ كتابة توصيته لسيد فرح، كان اللورد كتشنر يريد مكافأة العمدة صالح لكنه قد قام بمكافاة الحركة الوطنية السودانية، ومن قبل حينما غزا اللورد كتشنر السودان كان من ضمن المجندين فيالأورطة المصرية ألماظ عيسى والذي رافقته زوجته وقد عقد قرانه عليها في مصر وهي من قبيلة المورو العظيمة في غرب الاستوائية، بينما يعود نسبه هو إلى قبيلة النوير التي جلها من المحاربين الأشداء وتطلق علي لغتها (لغة الناس)، (تُكناس) لاعتزازهم الشديد بثقافتهم.
حملت زوجة ألماظ عيسى في رحلتها ابنها عبدالفضيل الذي كان طفلاً، وسيلتقي لاحقاً عبدالفضيل ألماظ وسيد فرح وسيقودان أشرس معركة بعد كرري على النيل وسيلحقان خسائر فادحة بالبريطانيين، سيكونا جنباً إلى جنب في ٢٨/٢٧ نوفمبر ١٩٢٤ في مستشفي العيون، سيخرج سيد فرح وسيتم هدم المبنى فوق عبدالفضيل ألماظ ممسكاً بمدفعه، وسيحيي الضابط الإنجليزي عبدالفضيل ألماظ لبسالته وقد كان حينئذ ابن ٢٨ عاماً، وسيعدم ثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وفضل المولي وسيخرج علي البنا ومحمد المهدي الخليفة من الإعدام باعجوبة.
سيذهب اللورد كتشنر لأداء مهام جديدة وسيذهب سيد فرح إلى أداء مهام جديدة كذلك، إن للتاريخ قدرة ماكرة علي حبك الحكايا القادمة.
(5)
الذاكرة المثقوبة:
الاحتفاء بثورة ديسمبر يتطلب منّا أن نبحر في إتجاه معاكس للذاكرة المثقوبة التي أسقطت الكثير وركزت على القليل في تاريخنا الحديث والقديم ولم تأخذ بمنظور شامل يحتفي بالتنوع التاريخي والمعاصر ونتاج بصماته في الشخصية السودانية.
إحتل سيد فرح مكاناً دائماً في أعالي جدار ذاكرتي منذ زمن، وبعد أن إطلعت على بعض سيرته المدهشة ومشاركته في قيادة ثورة ١٩٢٤، وقد سطر تاريخه في دفاتر ثلاثة بلدان هي السودان ومصر وليبيا، وإذا ما كان هناك ثمة اتحاد ثلاثي بين هذه البلدان فسيد فرح أحد رموزه التي لا يمكن تخطيها؛
ساقني الدرب إلى سيد فرح عبر مصدرين مما كتب عنه بالإضافة الي متابعتي المستمرة لخيط التاريخ الشفاهي، والمصدر الأول الذي وقعت عليه عيناي في بدايات إهتمامي بتاريخ ثورة ١٩٢٤ كان هو سيرته واللقاء التاريخي المميز الذي ورد في كتاب ………
(6)
بحبوحة الوعي بالتنوع السوداني والصحو الذي نعيشه الآن ترجع في أنصع جذورها وواحد من أهم وجوهها في مسيرة تبلورها الحديث الي ثورة ١٩٢٤ دون إغفال لما عداها، وقد أثارت على نحو ما قضية المواطنة بلا تمييز في خضم نضالها ضد الاستعمار؛
ثورة ١٩٢٤ مشحونة بأهم قضايا وإنجازات الحاضر في حركة المقاومة المدنية ، بل هي التي طبعت المقاومة المدنية بطابعها للابد في مناحي كثيرة ومهمة من أوجه العمل الجماهيري المقاوم، وكثير من الحمض النووي لحركة المقاومة الحديثة يرجع لتلك الثورة، وعلى سبيل المثال لا الحصر بلورة التيار الوطني في الجيش السوداني ذلك يرجع إلى الزعيم علي عبداللطيف وعبدالفضيل ألماظ وثابت عبدالرحيم وسليمان محمد وفضل المولي وعلي البنا وسيد فرح وغيرهم من المنسيين الكثر لتلك الثورة من صفوف قوة دفاع السودان والتي كانت تسمي قبل ثورة ١٩٢٤ بالأورطة المصرية السودانية.
(7)
مشاركة المرأة في العمل الجماهيري الحديث ترجع في بداياتها إلى حاجة العازة محمد عبدالله زوجة الزعيم علي عبداللطيف وخروج أول المظاهرات السلمية في أمدرمان التي امتدت الي مدن عديدة ترجع إلى تلك الثورة وزراعة تنظيم اللواء الأبيض التي حصدناها حتى ثورة ديسمبر ولنراجع البرقيات الصادرة من سلطات الاستعمار البريطاني في مدن شندي وعطبرة والأبيض وبورتسودان وغيرها في ذلك الوقت؛
وجود جناح سلمي ومسلح يرجع إلى تلك الثورة وبناء منظمة حديثة ذات قيادة تجسد التنوع السوداني جذورها في ثورة ١٩٢٤ وكتابة المنشور السياسي تخلقت عند تنظيم اللواء الأبيض والشعارات في العمل الجماهيري ولهذه الثورة أفضال عديدة تم إنكارها بفعل التوجهات الأيدلوجية والعنصرية من القوى التقليدية والتيارات التي ساءتها التوجهات السودانوية لثورة ١٩٢٤؛
إن ثورة ١٩٢٤ هي امتداد نوعي للتشابك الوطني الذي أسست له الثورة المهدية وتاريخ السودان الطويل من التفاعل بين البشر والجغرافيا الذي امتد لآلآف السنين؛
تقاوي ( السودانوية) الحديثة والانقلاب المفاهيمي والفكري ضد إرث تجارة الرقيق وتحسس قضايا القبول بالمواطنة بلا تمييز، واتخاذ موقف عملي ضد العنصرية تدين بغير قليل إلى ثورة ١٩٢٤؛
إن اختيار علي عبداللطيف بخلفيته الاجتماعية المعروفة زعيماً للثورة كانت ضربة قاصمة للعنصرية ونصراً مؤزراً لانتصار (السودانوية) وللمواطنة وتجاوز لحقبة تجارة الرقيق، ومنتجاً نوعياً في دروب فسحة العيش المشترك وصنع مستقبل يسع الجميع؛
إن تباين وتنوع الخلفيات الاجتماعية والثقافية والجغرافية لقادة ١٩٢٤ زاد لوحدة البلاد وترياق ضد العنصرية ومداميك في بناء رابطة سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية عابرة للفوارق والتحيزات.
(8)
في ١٩٢٤ نجا سيد فرح وعلي البنا ومحمد المهدي الخليفة من الموت باعجوبة وانطلق سيد فرح نحو معارك جديدة مع الاستعمار، وسيد فرح سيرته أقرب إلى الثائر الأممي، وقد واصل نضاله في ثلاثة بلدان ولم يفقد بوصلته حتي عاد عشية الاستقلال إلى السودان، ورحلة سيد فرح في ذلك الزمان تستحق التوقف والتأمل.
سيد فرح مسكون بالسودان قبل تبلور الحركة الوطنية الحديثة بل هو من بناة هذه الحركة وهو غصن من غصون الحركة الوطنية مثقل بالثمار، ثائر وسائر، لا يمشي مع القطيع؛
إذا تحدثنا عن المثقف العضوي فإن سيد فرح يستحق هذا اللقب وربما تحصل عليه إلتقى بانطونيو غرامشي .
سيرة سيد فرح المتناثرة تظهره كانسان مملوء بعزة السودانيين وشموخهم حتي في حالات ضعفه، ظهر ذلك في المناكفات العديدة التي كان طرفاً فيها في مصر وليبيا وهو أعزل من كل شيء الا وطنيته وهي وطنية دانية القطوف.
(9)
ساقني الدرب إلى سيد فرح عبر مصدرين مما كتب عنه، بالإضافة الي متابعتي المستمرة لخيط التاريخ الشفاهي، والمصدر الأول الذي وقعت عليه عيناي في بدايات إهتمامي بتاريخ ثورة ١٩٢٤ كان هو سيرته واللقاء التاريخي المميز الذي ورد في كتاب الأستاذ الجليل حسن نجيلة(ملامح من المجتمع السوداني)، وقد أجرى حواراً مباشراً وفريداً مع سيد فرح بعد عودته إلى السودان بعنوان (الضابط الثائر سيد فرح/ نجا من الإعدام رمياً بالرصاص واختفي ولحق بجيش البطل عمر المختار)، (صفحة ٣٤٤ لمن يريد الرجوع إليه في طبعته الجديدة من دار عزة للنشر والتوزيع).
الأستاذ حسن نجيلة من قلة قليلة اهتمت بتدوين تاريخ ثورة ١٩٢٤ وبقادتها عن حب ومودة وأتخذ موقفاً إيجابيا منها وأدرك بعمق أهميتها في مجرى تاريخ السودان الحديث، واتضحت أهمية كتاباته ونحن علي اعتاب الاحتفال بالذكري المئوية لثورة ١٩٢٤ ولا حياة للاحتفال بها ولا لجنة أقيمت وتواصل الدولة والحكومة صمت القبور الذي عرفت به عندما يتعلق الأمر بثورة ١٩٢٤، ولا توجد الا استثناءات نادرة، وهل نجم ذلك عن موقف بمحض الصدفة أم إمتداد لمواقف القدامى وكرام المواطنين من التحدي الذي مثلته هذه الثورة وأوجهها المتعددة في إحياء روابط الوطنية السودانية في اتجاه معاكس لارث تجارة الرقيق! والأغرب في ذلك هو صمت الهامش الثقافي والسياسي وتجاهله لثورة ١٩٢٤.
(10)
المصدر الآخر الذي اعتمدت عليه في كتابة هذه المقالة هو الروايات الشفوية لثوار ١٩٢٤ (الجزء الأول والثاني) ، وهي شهادات مدونة أشرفت عليها اللجنة التي كونها الرئيس الراحل جعفر نميري(أي والله جعفر نميري من دون الناس وهذه إشراقة تحمد له في ظلام دامس من سنواته)، وقد صدرت الروايات الشفوية في ابريل ١٩٧٤م من لجنة ترأسها البروفيسور القدير يوسف فضل حسن وضمت الراحل محمد إبراهيم أبوسليم وكانت ضابطة التوثيق هي الدكتورة محاسن حاج الصافي ولم تبارح هذه الشهادات المهمة أضابيرها وظلت على هامش السيرة مع أهميتها، ولقد كان سيد فرح حاضراً وشامخاً وهو يروي مسيرته الطويلة في النضال من أجل السودان، ومن الغريب أن التلفزيون لم يسجل تلك الشهادات الشفوية المهمة ولم ترفق بصور كانت ستضيف بعداً مهماً لتلك الوجوه الجميلة لثوار ١٩٢٤.
نواصل …….
حول الدلالات الثقافية والاجتماعية والتنوع الذي صاحب ثورة ١٩٢٤ وهل هي ثورة للافندية؟ وسأتوقف عند شخصيات مهمة منها المناضل مزمل علي دينار ابن السلطان علي دينار الذي رافقه قبل معركة برنجية التي أُستشهد فيها السلطان وواصل مزمل مسيرته وشارك في ثورة ١٩٢٤، وقد تعهد أن ينتقم لوالده وقد فعل، والمناضل الطيب بابكر والد الأستاذ التجاني الطيب بابكر وللمناضلين مدثر البوشي وحسن المفتي وأحمد عبدالفراج وعلي ملاسي هليل واللواء عبداللطيف الضو و فومي جاما ماشا من النجمنق والمشاركة الباكرة للنساء حاجة العازة محمد عبدالله وأمينة بلال رزق ونفيسة خليل النادي وهن لآلئ وورود في جبين الحركة النسوية وصحو في الظلام.