خطاب “ما أريكم إلا ما أرى” الاقتصادي للحكومة الانتقالية (6)
بقلم : حسام عثمان محجوب
[email protected]
مبدئياً وضح عدد من معارضي برنامج البدوي، أنهم لا يرفضون نقاش رفع الدعم أياً كان اسمه، رفعاً أو ترشيداً أو زيادةً في الأسعار، ووضحوا أيضاً أنهم يطمحون لتوحيد سعر الصرف، ولكن خلافهم الأساسي مع البدوي يقوم على ضرورة وجود برنامج كبير يراعي كل المتغيرات الأخرى، وعلى توقيت تنفيذ هذه الخطوات، وعلى تحقيق مطلوبات معينة قبل القيام بها. أجمع المنتقدون- بين قضايا أخرى- على خطورة التضخم، والعجز الكبير في الميزان التجاري (الفرق بين قيمة الصادرات والواردات)، وزيادة الصرف الجاري مقابل قلة الصرف التنموي، والخلل في الإنفاق العام في قطاع الأمن والدفاع على حساب القطاعات الخدمية والإنتاجية، والاعتماد على المانحين. وأكد كثير من الاقتصاديين والسياسيين أن القيام برفع الدعم وتحرير سعر الصرف يعني تحميل المواطنين عبء الإصلاحات الاقتصادية، التي كان من واجب الحكومة أن تقوم بها في البدء، بينما فاقمت سياسة الحكومة من سوء هذه الأوضاع.
أوضح الأمثلة على هذه القرارات الكارثية زيادة المرتبات في مايو 2020، فنجد أن الدكتور التجاني الطيب، مثلاً، نادى في مقال نشره يوم 3 أكتوبر 2019، بأنه “من الأفيد الاحتراز من زيادة الأجور قبل السيطرة على التضخم الجامح وهبوطه إلى الرقم الأحادي”. وصرح بوضوح شديد مرة أخرى في 5 ديسمبر 2019 لصحيفة الانتباهة، بأن “زيادة المواهي ستؤدي إلى آثار كارثية”، ورغم أن البدوي أشار في حوار مع صحيفة السوداني في 30 سبتمبر 2019، إلى أن زيادة المرتبات تتطلب إعادة ترتيب وتقويم الخدمة المدنية، وتعتمد على الموارد المتاحة، إلا أنه قام بزيادة المرتبات بنسبة أكثر من 560%، وهي ما ساهمت في ازدياد التضخم بصورة انفجارية. وسريعاً ما التهم هذه الزيادات نفسها، بينما وضع اقتصاد البلاد واستقرارها على حافة السقوط الحر.
نفى الدكتور إبراهيم البدوي علاقة زيادة المرتبات بالتضخم، وفي إجابته على هذا السؤال الجوهري، ظل يعزو زيادة التضخم إلى ظاهرة “عدم اكتمال الأسواق”، التي أوضح أنه يقصد بها احتكار الأسواق وعدم تنافسيتها، ولم يحاول د. البدوي أن يشرح للمواطنين والمتابعين ما الذي “أنقص” هذه الأسواق فجأة حتى وصل التضخم لهذه الدرجة، وما الذي يحدث من شهر لآخر حتى يزداد عدم تنافسية الأسواق بهذا المستوى الكارثي ليواصل في توليد التضخم.
يبدو أن التفسير الأصدق لعلاقة زيادة المرتبات بالتضخم هو ما ورد في موازنة 2021 وعرضها الموجز، وما ذكرته وزيرة المالية المكلفة السابقة د. هبة في آخر أسبوع لها في الوزارة، حين ذكرت للزميل فيصل سعد في برنامج “مشكلة وحل”، على قناة سودان بكرة: “كانت الخطة الأصلية لزيادة المرتبات تقتضي أن لا تزيد عن ١٠٠٪، وأن تكون بالتدريج على مدى سنة، وأن تأتي بعد مراجعة شاملة للخدمة المدنية. وخلال التنفيذ تمت الزيادة بـ ٥٦٠٪ وده رقم خرافي، أدى لزيادة التضخم، وبقي الجنيه ما بيسوى شيء.”.
رفع الدعم أو ترشيده
في الحديث عن رفع الدعم نفسه، أو ترشيده في لغة البدوي والحكومة، فقد أكد أحد الخبراء الاقتصاديين المرموقين الآتي في حوار مع صحيفة الوطن في 30 أكتوبر 2019: “لن نلجأ لأي تغيير لنظام دعم السلع الحالي (إلا) بعد أن نحقق بعض الترتيبات الأساسية المتعلقة بالمواصلات العامة، ومراجعة الهيكل الوظيفي، وتعديل بعض المرتبات لمحدودي الدخل، وتحسين الميزانية، خاصة فيما يتعلق بزيادة حصيلة الواردات العامة من ضرائب وغيرها”. وذكر نفس الخبير لنفس الصحيفة في 13 نوفمبر 2019، أن البديل للدعم السلعي إما دعم شامل للكل مع ضرائب تصاعدية أو دعم مباشر مقيد لفئات. بعيداً عن الإثارة، فهذا الخبير المرموق هو السيد الدكتور إبراهيم البدوي نفسه، الذي حرص على أن يقرن أي حديث له عن الدعم السلعي في تلك الفترة بالدعوة الصريحة للحوار المجتمعي، وتوضيح البدائل للناس، وإذا أراد الناس استمرار الدعم السلعي فسيعتبر هذا قرار الشعب. وحق لنا هنا أن نسأل، إذا لم يستطع الدكتور إقناع اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير وهي المعبرة عن أكبر تحالف سياسي في تاريخ السودان، كما ظل قادتها يؤكدون، وإذا لم يستطع إقناع ممثلي لجان المقاومة، فما هو المجتمع المقصود بالحوار؟
تحدث الكثير من منتقدي برنامج البدوي عن آثار رفع الدعم بالطريقة التي طبقتها الحكومة، وفي ظل هذه الظروف. وقد ذكروا أن رفع الدعم عن الوقود ستترتب عليه زيادات عالية في تكلفة المعيشة في كل أنحاء السودان، وزيادة التضخم أيضاً، وهو ما ثبت للمواطنين بازدياد أسعار كل الخدمات والسلع، حتى السلع التي تعهدت الحكومة بأنها ستواصل في دعمها كالخبز (القمح) والكهرباء، وأقدمت على إعلان وتمرير الزيادات بطريقة لا تحترم الشعب ولا تتوافق مع شفافية الثورة، ولا الديمقراطية المرجوة.
ومع إصرار د. البدوي على رفع الدعم، فإنه طرح عدداً من الخيارات لتخفيف وطأته على المواطنين، وأعتقد أنه من الإنصاف القول إنها تدل على عدم إدراك كبير للواقع السوداني، مع مكابرة وإصرار على الاستماع لرجع الصدى فقط، لا لأصوات الخبراء العارفين والمواطنين. من هذه الخيارات التي اقترحها البدوي لتخفيف وطأة زيادة أسعار الوقود على تكلفة المواصلات والشحن، دعوته لأن تكافأ وسائل المواصلات العامة بإعفاءات ضريبية بعد أن تلتزم بالتعرفة الرسمية، وتقوم بدفع الضرائب المستحقة بإقرار ضريبي. الشرح الذي قدمه د. البدوي لهذه العملية لا يبدو أنه وضع حساباً لقدرة أصحاب وسائل المواصلات (والأغلبية العظمى منهم أفراد) على التعامل مع نظام معقد كهذا، ولا للزمن الذي ستحتاجه الأجهزة الحكومية المختصة، وعلى رأسها ديوان الضرائب نفسه لعمل البنية التحتية المطلوبة لتفعيل هذا النظام. ويبدو أيضاً أن الجميع يعلم خطل هذا الاقتراح، ولذلك لم نسمع عنه مرة أخرى بعد أن صار رفع الدعم واقعاً.
الدعم النقدي المباشر
ظل الدكتور إبراهيم منذ قبل توليه الوزارة يدعو لإنهاء الدعم السلعي والاستعاضة عنه بالدعم النقدي المباشر. وبعد توليه الوزارة بدأ في التبشير بالبرنامج الذي أطلق عليه فيما بعد اسم “ثمرات”، وأسس وكالة التحول الرقمي كهيئة تابعة لوزارة المالية تعمل مع عدد من الوزارات والهيئات، منها وزارات التنمية الاجتماعية والداخلية والعدل وبنك السودان وبرنامج الغذاء العالمي والبنك الدولي، ويستفيد ثمرات من برامج الحماية الاجتماعية التي نفذتها وزارة التنمية الاجتماعية ويطورها. وقد حدد د.البدوي بدقة أهداف البرنامج، وهي توفير تحويلات نقدية مباشرة قدرها 500 جنيه للفرد، لـ 80% من سكان السودان، لمدة 12 شهراً، يتم تمويلها بواسطة المجتمع الدولي، وتتم في غالبها عبر تطبيقات الهاتف المتحرك. ثم وضح الدكتور وآخرون أن المبلغ الشهري هو في الحقيقة 5 دولارات للفرد، وسيتم تعديل القيمة المحلية بحسب تغير سعر الصرف.
صاحب تأسيس الوكالة صراع خفي بين الوزارات، كما ارتبطت بها دعوة دكتور البدوي لتبني هوية قومية بمعلومات بيومترية على غرار بطاقة “أدهار” الهندية. وبعد استقالة البدوي صرح د. حمدوك في مؤتمر صحفي أنه سيتحول من الدعم المباشر لدعم الأسر المنتجة، ثم بعد فترة بسيطة عاد الحديث، بدون توضيح، من وزارة المالية عن برنامج الدعم الأسري المباشر، واختفى الكلام عن وكالة التحول الرقمي، بدون توضيح أيضاً. ولكن الربط المباشر بين رفع (ترشيد) الدعم (وأحياناً توحيد سعر الصرف “تعويم الجنيه”)، وتخفيف المعاناة عن المواطنين ببرنامج الدعم الأسري المباشر (وأحياناً برنامج سلعتي)، ظل ثابتاً وقوياً وصريحاً في الخطاب الحكومي للسيد رئيس الوزراء، وطاقم حكومته، ومنهم وزيرة المالية المكلفة السابقة، ومساعد كبير مستشاري رئيس الوزراء السابق، ودكتور البدوي عراب البرنامج. وقد تكرر في كل مرة تحدثوا فيها عن الوضع الاقتصادي، وكانت آخر مرة ذكر فيها د. حمدوك ذلك في المؤتمر الصحفي لإعلان الحكومة الجديدة في 8 فبراير، وآخر مرة ذكرت فيها د. هبة ذلك في آخر أسبوع لها في الوزارة. وقد “بشر” الاثنان الشعب السوداني بقرب بداية البرنامج، حتى ذكرت د. هبة أنه سيبدأ قبل نهاية الشهر الجاري (فبراير 2021).
يحمد للبرنامج الذي يشرف عليه صندوق النقد الدولي شفافيته ونشر وثائقه على شبكة الإنترنت لمن أراد الاطلاع عليها. توضح هذه الوثائق أن الحكومة السودانية قدرت تكلفة البرنامج بـ 1.9 مليار دولار في السنة لتغطية 80% من السكان، أي حوالى 32 مليون نسمة، في كل ولايات السودان، وأن مدة البرنامج سنتان. منذ وقت باكر (على الأقل سبتمبر 2020)، أكدت نفس الوثائق أن المبالغ المتاحة لتمويل البرنامج تقدر بـ 400 مليون دولار، ولذلك فقد خفضت الخطط التفصيلية التي وضعها البنك الدولي تغطية السكان لحوالى 11 مليون نسمة، على أن تكون البداية بـ 4 ولايات، وأن يكون الدعم المتاح للأفراد لمدة 6 أشهر بدلاً من 12 شهراً. يبدو واضحاً اعتماد المشروع على هبات المجتمع الدولي السخية، فمثلاً أعلن وزير الخارجية البريطاني عند زيارته للخرطوم تبرعه بحوالى 55 مليون دولاراً للبرنامج (لتغطية 1.6 مليون شخص)، وقبله الاتحاد الأوروبي (70 مليون يورو). وحين تطالعنا تهديدات المانحين للحكومة السودانية بعدم إطلاق المبالغ الممنوحة للسودان، إلا إذا أعلنت الحكومة عن تعويم الجنيه نرى بوضوح الأخطار التي تحيق بتنفيذ البرنامج وبقدرة الحكومة على اتخاذ القرارات التي تريدها وفق أولوياتها وحساباتها.
أمنيات د. البدوي ود. هبة ود. حمدوك بالاعتماد على التحويل عبر تطبيقات الهاتف النقال لتحويل مبالغ الدعم مباشرة دون وسطاء، توضح غربتهم عن الواقع السوداني وعدم طلبهم للخبرة في مظانها، إذا أحسنا الظن. أما إذا أسأناه، فإنها تدل على خداعهم للشعب. فوثائق البرنامج التي نشرها البنك الدولي توضح الصعوبات التي تكتنف استعمال هذه التقنيات، وأنها ستحتاج لزمن لتنفيذها، أما ما يعرفه العاملون في قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات السوداني – وهم كثر – أن المدة التي تحتاجها مثل هذه التجهيزات لن تكون بحال أقل من شهور طويلة – إن لم تكن سنة فأكثر -، وهو ما يهزم الفكرة التي يروج لها د. حمدوك ود. البدوي وداعمو برنامجهما الاقتصادي، بأن ثمرات سيخفف صدمة الإصلاحات الاقتصادية على نسبة مقدرة من السكان. توضح خطط المشروع المشار إليها، أنه سيعتمد بصورة كبيرة على وسائل أخرى لتوزيع النقود بناءً على برامج وزارة التنمية الاجتماعية السابقة، وهنا نلاحظ أن نسبة الهدر – ومن ضمنها فساد – في هذه البرامج تصل 50% كما في تصريحات سابقة لدكتور البدوي.
أما وكالة التحول الرقمي التي أسسها د. البدوي، فيكفي أن نقول إنها قد اختفت بعد استقالته، وهو ما يشير إلى أنها لم تقم على قدمين أو لحاجة حقيقية رغم المعركة التي دارت حولها بين وزارات المالية والداخلية والعمل وتم حسمها برعاية من المانحين. إلا أنه يجدر القول بوضوح، إن ربط برنامج الدعم الأسري المباشر بالهوية القومية ذات المواصفات البيومترية أمر في غاية الخطورة على الأمن القومي للسودان ولحريات المواطنين السودانيين وخصوصياتهم. واجه البرنامج الشبيه في الهند – التي تفخر بكونها أكبر ديموقراطية في العالم – معارضة شديدة من سياسيين وخبراء تقنية ومفكرين ونشطاء لما رأوا فيه من إمكانيات مستقبلية للحد من حريات المواطنين وحقوقهم الدستورية، وتهديد خصوصياتهم، وتهديد الأمن القومي للبلاد. وقد تحققت بعض هذه المخاطر بالفعل على أيدي الحكومة اليمينية المتطرفة لرئيس الوزراء ناريندرا مودي، التي يعلم كثير من القراء ممارساتها القمعية العنصرية غير الديمقراطية وغير الدستورية، من استعمال البيانات لإلغاء مواطنة مئات الآلاف من المسلمين مثلاً، أو من الاختراقات الأمنية للنظام. إن لم يتضح الخطر بعد، فيمكن القول باختصار أن أجهزتنا الشرطية والأمنية ومؤسساتنا متخلفة بسنين ضوئية عن مثيلاتها الهندية، سواءً من ناحية الإمكانيات التقنية أو الأمنية أو السايبرية أو الديمقراطية أو الدستورية.
نواصل