Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

سؤال السودان ومعضلة الأجابة

بقلم محمد صالح رزق الله
[email protected]

يدور فى أذاهن الكثير من الناس عن ماهية جغرافية، وطببيعة، وهوية وأيضا أس المشكلة فى السودان. ان الخوض فى هذا المضمار ربما يستغرق وقت طويلا من الزمن، وعمقا متشعبا فى البحث والتنقيب المضنى. عليه، وبقليل من التدبير والتبسيط، يمكننا ان نقول: السودان هى تلك الرقعة الجغرافية الممتدة من جنوب دولة مصر الي داخل اتون القارة الافريقية السوداء، اى كما تدل التسمية (أرض السود)، دون تحديد الي نهايات حدودية قاطعة. وبمعنى اخر، انه أمتداد اسفيري شاسع غير مفهوم فى تكويناته ونهاياته الجغرافية. لذا احيانا أطلق عنان الخيال واسعا ليشمل الكثير من التنبؤات والتكهنات في ماهية هذا المجهول. ولكن لم يدوم هذا الاعتقاد طويلا، حيث بدأت تتواتر بعض المعلومات والأخبار عن فحوى ما بداخل ذالك المجهول والمسمي بالسودان. حيث كانت المصادر الاكثر شيوعا لهذة المعلومات هى التى دونت فى كتب ومخطوطات الرحالة المبشرون، والمكتشفون الذين كانوا يقامرون على اقتحام المجهول. ولكننا هنا لسنا معنيين بالسرد التنميطى التاريخى، او الجغرافي للسودان، ولكن يمكن ان نقول وعلى عجالة، لقد اكدت الدراسات العلمية والبحوث التاريخية ان ما يعرف اليوم بأرض السودان هى في الاصل مهد الحضارات البشرية بل وربما تكون الأقدم قي التاريخ، وايضا هى أرض الرسالات السماوية ان لم نقل كلها بل جلها. مع التزامنا فى عدم الخوض فى هذا الامر كثيرا، ولكن لدينا قدرا كبير من الثقة أن البحوث والدراسات المقبلة سوف توكد قولنا هذا. ولكي تعم الفائدة دعونا ندخل مباشرة فى صلب وغياهب المجهول الحقيقي، والتى فى تقديرى تتمثل فى السودان الحديث بحدوده الجغرافية وتكويناته البشرية. أذا، ما هو السودان “الحديث”، وما هى مشكلاتها، واين تكمن، وكيفية طرق حلها؟

فى تقديرى، لقد بدأ تكوين السودان الحديث وبحدوده المتعارف عليها اليوم (قبل انفصال دولة جنوب السودان)، فى القران التاسع عشر الميلادي اى فى عهد الاستعمار، وتحديدا فى عهد محمد على باشا؛ والذى عرف ايضا بالحكم التركى المصرى الذى أمتد من عام 1821م الى 1885م. لقد ضم الحكم التركى المصرى هذا كل السودان تقريبا ما عدا منطقة دارفور الحالية. والجدير بالذكر، حيث كانت دارفور دولة مستقلة وسلطنة قائمة بذاتها ولا تخضع لسلطة المستعمر(دولة الحكم التركى المصرى)؛ وهذه هى احدى معضلات السودان الحديث. كيف؟ سوف نرى ذلك لاحقا.

أن هذه الرقعة الجغرافية (السودان) كانت تعيش فيها شعوبا وأقواما متعددة لا يجمع بينها شيء سوى السياج الحدودى الذى رسمها المستعمر وفرضها كرها على هذه الشعوب المتباينة. لذا، كان لزاما على هذه المجموعات البشرية ان تتعامل فيما بينها، وخصوصا فيما يخص احتياجاتها اليومية مثل التبادل التجارى، وتداول للسلع وغيرها من معاملات و بعدة طرق. كانت تنشأ صراعات متفرقة بين هذه المكونات، وتصل هذه الصراعات احيانا الى الاحتراب والاقتتال الدموى. وكما لا ننسي ايضا ان هذه المكونات كانت تنشئ تحالفات مع بعضها البعض وذلك لخدمة منافعها اليومية، وايضا فى صراعاتها ضد بعضها البعض، أو ضد المجموعات البشرية ألآخري في محيطها الجغرافى. و بالتأكيد، لقد نشأت بعض علاقات المصاهرة والاختلاط بين هذه الشعوب علي حسب مقتضيات الظرف والمصلحة. ولكن هذا الحراك الاجتماعى بين مكونات هذه الشعوب لم يخلق وحدة متجانسة بين هذه الشعوب، أو الحد الأدنى من العوامل المشتركة التى تساعد على تجميع هذه الشعوب والقوميات مع بعضها البعض وفى وعاء وطنى موحد وشامل. ولكن حاولت هذه الشعوب ان تجتمع نوعا ما عندما أشتد عليها الظلم مجتمعة من قبل المستعمر التركى المصرى. وخصوصا بعد ان ارهقتها الضرائب الباهظة والقسوة فى جمعها ، مثل (الزندية) فتذمرت، وضاقت هذه المجموعات ذرعا من هذه الممارسات، فارتفعت اصواتها تنادي با التوحد تجاه المستعمر التركى المصرى، والذي يعتبر عدوهم المشترك. لقد اصبح التمرد والاحتجاجات تتكاثر ضد هذا العدو المستعمر المشترك، فبدأت المواجهات ضده، و ايضا بدأت تخف حدة التوتر والخلافات و تذويب الفوارق بين مكونات الشعوب السودانية، ولكن فى الحقيقة كانت شبه خلافات موجلة الى اجل غير مسمى.

وقد توجت صراعات هذه المكونات مع المستعمر بنشوب الثورة المهدية فى عام 1881م، ومن بعدها قيام دولة الخليفة عبدالله التعايشى فى 1885م، كان ذلك بعد سقوط الخرطوم ووفاة الامام المهدى. ولقد بدأت الخلافات الحقيقة بين مكونات هذه الشعوب قبل سقوط الخرطوم، ووفاة الامام المهدى. حيث ظهرت الخلافات والفوارق القديمة من جديد اصطحبت معها البعد السياسى والعرقى والجهوى، مضافا اليها بعدا جديدا اخر وهو دخول العنصر الدارفورى و بقوة، وذلك لتأثيره القوى والواضح فى الثورة المهدية وانتصاراتها. حيث كانت دارفور لم تكن ضمن مكونات الدولة التركية المصرية، بل ومن الناحية القانونية تعتبر دولة اجنبية، حتى تاريخ ضمها قسرا الى السودان الحديث فى عام 1916م. ويمكننا ان نجمع القول بأن العنصر الدارفوري، ومع حلفائه من المكون الغربي كان لهم الدور الاكبر والحاسم في انتصار الثورة المهدية وقيام دولة الخليفة عبد اللة التعايشى.

أن حضور العنصر الدارفوري ذو الارث الواضح في خبرة الحكم و الادارة والتنظيم، وايضا المخزون الواسع من علوم الدين الاسلامي التى اصطحبتها معه من موطنة فى سلطنة دارفور، اثرت وبشكل واضح فى بناء الدولة السودانية. حيث لم يكتفى العنصر الدارفورى بإرثه التاريخى فقط، بل اصطحب معه بعض مكونات السودان الاخرى (كردفان، الشرق، وبعض الشيء من الجنوب، او ما يعرف بدولة جنوب السودان الحالية)، والتى اسميها هنا اصطلاحا مكونات المكون الغربى. ان مكونات المكون الغربى هذا أضاف بعدا اخرا وأكثر تعقيدا للصراع فى السودان (التركى-المصرى). ولذلك كان عنوان الصراع في تلك الفترة عرف تحت مسمي (أبنا البحر وأبنا الغرب)، وهذا المسمى أولد صيغة جديدة للصراع تحوى فى داخلها عوامل اخرى كثيرة ومتشعبة، وفى الحقيقة هى لب اصل الصراع فى السودان، ولكن تم تناسيها ودفنها موقتا. ونقول هذا يقينا، لان داخل كل مكون من ومكونات الصراع، هنالك صراعات آخري طمست لظروف موضوعية او بالاحري تم تجميدها الي حين . وبمعنى اخر، حيث لم يكن المكون النيلي (أبناء البحر) هى ذات نفسها خالي من الصراعات في داخلها، وكذلك المكون الغربي (أبناء الغرب) ايضا لم يخلو هو الاخر من الصراعات الداخلية. ومن هنا، يمكن ان نقول ان هذة الفترة هي فترة بداية نشوء وتكوين ملامح الشخصية السودانية العمومية. وبالمعني السيكولوجي ، يمكن ان نقول انها بداية تكوين ونشوء الشخصية للشعوب السودانية في العهد الحديث. ولكن لم يستند هذا المكون السودانى الحديث علي اى مكون حقيقي وموضوعي فى تكوين الدولة القومية الحديثة، كما حدثت و تحدث في الظروف العادية للدول والشعوب الاخرى. فى تقديري انها كانت بداية مبتورة مهزوزة ولا تستند علي مكون ملموس، بل هي اكثر ما تكون بداية تكوين وهمى دون ثوابت جوهرية تجمع هذه الشعوب المتفرقة.

ولكثافة الاحداث المتواترة وفي حيز زمني ضيق، لم تجد هذه الشعوب مساحة من الزمن الكافي لكى تتعرف عن قرب على بعضها البعض، ولا حتى ان تعرف كنهة نفسها الذاتية. وبذالك كان وعيها الذاتى والموضوعى مبتوران، ويستندان على مكونات غير حقيقية. وكذلك تنطلق للأحداث من منظار خاص ومختلف، وأيضا لا علاقة لها بالواقع الموضوعى المحيط بها. ولكن هذا المنظور الخاص الذى ينظر من خلاله هذة الشعوب، يعتبر عامل طبيعى صاحب ظروف تكوين هذه الشخصية. كما عزز هذا المنظور قلة المساحة الزمنية للتواصل والتعارف بين هذه المكونات البشرية، وكما زاد فى التحول المستمر للصراع بينها وبمعدلات مختلفة. وبعبارة أخرى، لقد تشكل الدولة السودانية الحديثة، وباشكال والوان طيف تبدو لناظرها متناقمة، ولكنها فى الحقيقة هى عبارة عن وعي زائف يدغدغ المشاعر ويوهم بالتأصل والرسوخ والنضوج والتفوق، ولكن فى الوقع الحقيقى ما هى الا وهما زائفا وانعكاسا لنتائج الحقيقة الواقعية فى تلك الظروف التى كانت تحيط بتلك الشعوب، واجبرتها فى التعامل معها و بأى شكل من الاشكال. وعلى الرغم من اصالة هذه الشعوب وتاريخيها الناصع في غابر الازمان، الا انها قد أصيبت بداء غباشة الوعى، واهتزاز الرؤية الثاقبة لواقعها ومكونها الحقيقي. لذا نجد أن شخصية الشعوب السودانية نمت نمؤ غير صحي ومشوهة تشويها كاملا. لقد فشلت أن تتحصن بماضيها النائرضد العلل والازمات. لذا نجدها ما عادت أن تدرك من هى والى اين تسير. وهذا التكوين الجنينى المعلول لشخصية الشعوب السودانية قاد الى اجهاض الثورة المهدية 1881-1885، و وأيضا بذرت بذور الفتنة والشقاق، وتقويض دولة الخليفة عبدالله التعايشى 1885-1898 حديثة التكوين. ففي فترة الثورة المهدية ودولة الخليفة عبد اللة التعايشى، خلقت مآسى وجراحات غائرة لا تزال اثارها باقية الى يومنا هذا. وهذه المآسى والجراحات اضاف عللا وعبئا زائدا لتشوه وعلل شحصية الشعوب السودانية، وايضا زادت من ضبابية وعتمة الرؤى والوعى لهذه الشخصية السودانية. فأصبحت هذه الشخصية لا ترى واقعا حقيقيا ولا تسمع الا صدى الواهم العاكس لرؤية هذه الشخصية المعللولة.

لقد قلنا، ان هنالك مكونين رئيسين للصراع فى فترة الثورة المهدية ودولة الخليفة عبد الله التعايشي، فعندما تصادم هذين الطرفين فى البدء، انتصر المكون الغربى فى بدايات مراحل الصراع ولكن الى حين. وبعد ذالك أنتصر المكون النيلى، وذلك بعد أن تقوى بقوى المستعمر الأجنبى المتمثل فى دولة الحكم الثنائي 1898-1956. حيث ثأر المكون النيلى ضد غريمه من المكون الغربى، واسقط دولة الخليفة عبدالله التعايشى، وبذلك قد تكسرت كل الوصال السودانية. و فى الحقيقة، لم يكن هناك منتصر الا الغازى الاجنبى، بينما ازدادت استفحلت الشقة والخلافات بين شعوب السودان المختلفة، ولاسيما بين القطبين النيلى والغربى. وايضا اتسع البون النفسى، وازداد الغبن والضغينة، والى ابعاد سحيقة فى نفسية هذه الشعوب. وحيث عمل المستعمر وبكل خبث على تعميق هذه الخلافات، بل وانكأ جراحات هذه الخلافات وبكل قسوة وجلافة. وقد أضاف اليها المستعمر ابعادا أخرى وبأساليب جديدة مثل الترغيب والترهيب، وخلق اجسام ومكونات مزيفة توالية وتستعين به فى صراعها ضد غريمتها من المكون الغربى. حيث أدعت المكونات النيلية الجديدة ما لا تملك، ومارست التضليل والتطبيل، وتوهم شعوبها أنها هى الحقيقة والواقع. والاكثر من ذلك، كافأ المستعمر المكونات النيلية على خدماتها وفتحت لها كنوز ارض السودان، و بقدر ولائها للمستعمر. الإ ان تصرف المكون النيلى هذا أنشاء محنة جديدة ضاعفت من مسخ الوعى والرؤية لشخصية الشعوب السودانية. وفى خضم هذه المعمعة ظهرت بوادر وخطوات كان لها دور كبير فى تعقيد الوضع فى المستقبل. اذا تم عزل واستثناء بعض الشعوب السودانية من ان تنعم بخيرات بلادها، ودفع بها جانبا، وتم التنكيل بها ما ديا وجسديا وبل حتى معنويا. وفى هذه الأثناء ظهر الطابع العنصرى فى الممارسات والتعامل مع هذه الشعوب، وأصبح يتم تذكيرها دأئما بأنها ليست من اصل المكون الحقيقى لهذا البلد،وهذا فى حد ذاته تزيفا للواقع وتجافيا للحقيقة. ولقد لبست المجموعة النيلية حليفة المستعمر عباءة المستعمر نفسه، وادعت لنفسها مكونا جديدا (العروبة) وسعت الى تمكين نفسها بمساعدة المستعمر، وتبنت ثفافتة وعاداته و تقاليده، وتوسعت على حساب الشعوب الاخرى. وبمعاونة المستعمر بدأت تفرض ثقافتها الجديدة المستوردة على بقية الشعوب السودانية الاخرى. والآمر من ذلك، انها سعت الى تعريب واسلمة مكونات الشعوب الاخرى، وبتر واجتزاز ثقافاتها و هوياتها، وعاداتها وتقاليدها، بل وجميع ارثها التاريخى والانسانى من خارطة البلاد الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية. وتمادت فى التوسع فى اضطهادها و تركيعها مستعينة بقوة دولة المستعمر الاجنبي،(الحكم الثنائي). وفى هذه الاثناء، تم ضم دارفور الى دولة السودان قسرا فى عام 1916م، وهذا ما زاد الصراع القائم ضراوة وحدة.

وبسقوط دولة الخليفة عبدالله التعايشى (1885-1898)، فى معركتها الاخيرة فى أم دبيكرات، كانت مفصلا حقيقيا وتاريخيا لشخصية الشعوب السودانية. حيث من تلك اللحظة، حصلت تطورات دراماتيكية خطيرة لشخصية هذه الشعوب. حيث تم انقسامها الى شخصيتين متناقضتين ومتنافرتين، وفى نفس الوقت تحمل كل منهما عوامل التشوه والضبابية الفكرية والتى صاحبتها منذ مراحل تكوينها البدائى الاول. ولقد عرف البعض هذا الانشطار لاحقا فى قالب ثقافى فكرى،عرف ب(مدرسة الغابة والصحراء). وبغض النظر عن مدي صحة هذا المسمى أو التعريف اوخطله، فانه يشير الى الانقسام الحقيقي فى تركيبة الشخصية السودانية. حيث اصبح هنالك تناقضا واضحا بين هاتين الشخصيتين. وبغض النظر عن ما تحمله كل منهما من التشوهات التى صاحبتها منذ بداية مراحل تكوينها، أو نظرة كل منهما للأخر، أو ماهية ذاتها المتداخلة والمتشابكة مع الأخر أوالفروقات والتجانسات المتمظهرة فى كل منهما، نلحظ ان هناك وضع مختل بين مكونات الشعوب السودانية. حيث اننا نلاحظ أن ظروف المكون النيلى بدأت تتطور وتتحسن على حساب الشعوب السودانية الأخرى. وهذا التحسين المختل، فى حد ذاته يعتبر تحسن سلبى وزاد من تأزم الأزمة. ويمكن القول أن هذا التطور المخل ما هى الا ثمن الخدمات التى قدمتها المكون النيلى الى المستعمر الاجنبى فى القضاء على دولة الخليفة التعايشى، واجهاض أهداف الثورة المهدية. وأيضا استمر المكون النيلى فى تقديم خدماته للمستعمر، وبالمقابل فتحت له افاق جديدة اخرى لينهل منها. حيث نجد ذلك فى تعاونه مع احدى طرفى المستعمر، وهى الدولة المصرية، والتى كانت لها اطماع وطموحات وأهداف واضحة وضوح الشمس تجاه السودان. حيث انها كانت الدولة المصرية تسعى لاتخاذ مركز الريادة والسيادة فى سماء العالم الاسلامى والعربى. وبحكم التطور الملموس للدولة المصرية انذاك، وفضلا عن انها كانت الطرف الاعلي فى معادلة ما سمى بالعالم العربى، وخصوصا من حيث التعداد السكانى، والتطور العلمى، والزراعى، والثقافى والصناعى، وأيضا وجود مركز الاشعاع الدينى (الازهر الشريف)، والكنيسة القبطية الشرقية. كل هذا سهل لمصر ان تلعب دورا مهما فى المنطقة الاسلامية العرابية.

ومن هذا المنطلق، كان تقارب الشخصية النيلية مع القادم المستعمر وحليفته انجلترا، ومن خلفها تاريخها وارتباطها بمستعمراتها، والتي وصفت في يوم من الايام بالامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. وكان ارتباط الشخصية النيلية بهذين المستعمرين (المصرى والانجليزى) ارتباطا طفيليا، حيث كان الشخصية النيلية تابعا و مستقبلا لكل افرازات السيد السالبة والسيئة. وزد على ذلك، ان الشخصية النيلية غير قادر على التفاعل الحقيقي، أو العطاء، بل الخنوع للمستعمر واستقبال افرازاته وبدون مضض أو تحسس الى ماهية المعطي له. وبمرور الوقت اصبح الارتباط والتواصل اقوى وأوسع مع هذا الحليف الجديد (المستعمر) المتفوق والقادر على العطاء فى كل مناحى الحياة. وثم بدأت تظهر نتائج هذا الارتباط وبوضوح على مكون الشخصية النيلية. حيث بدأت هذه الشخصية النيلية تبتعد أكثر فأكثر عن مكونها التاريخى، والثقافى والاجتماعى الحقيقى. بل اصبحت تنحوا هذه الشخصية فى وتوجهاتها وطموحاتها المستقبلية وايضا وجدانيا شمالا، وانتابتها شعور زائف وخداع ذاتى بأنها مختلفة ومميزة عن شقيقتها (المكون الغربى). و من هنا اتسعت الهوة وكبرت الفوارق الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية وحتى النفسية والوجدانية بين هاتين الشخصيتين (المكون الغربى، والمكون النيلى). حيث اصبحت تزداد هذه الفوارق يوما بعد يوم الى ان اصبح التعامل فيما بينهما شبه معضلة. وحتى نسبة التعامل الضئيل الموجود بينهما قد شابها صغية التعالى العرقي والثقافي، وهذا يوضح مدى التشويش والتشويه والضبابية، وانفصام الشخصية التي وصلت اليها الشخصية النيلية. حيث توهمت خاطئة هذه الشخصية بانها اصبحت جزاء لا يتجزاء من المستعمر. ومن هنا اصبحت تسلك سلوك المستعمر، وتقلد افعاله وتوجهاته متناسية غفوة أو عمدا أصلها، وتاريخها، وانتحلت لنفسها شخصية وهمية، تدعي النقاء الثقافى والعرقي (العربى)، وتبرأت من اصلها الحقيقي والتاريخى، وامعنت وأوغلت في الاستهتار ، والاضطهاد المضنى تجاه نظيرتها الاخرى (الغربية). بل سعت، وبكل ما أتيح لها من قدرات وامكانيات ان تجرد الشخصية غريمتها الغربية من كل ما تملك من تاريخ، وثقافات، ولغات، وعادات وتقاليد. حيث وصل بها الامر الي تجريدها من اراضيها وممتلكاتها وارثها الحضارى، والثقافى، والنفسى، والاجتماعى والتى وصلت مرحلة الاسترقاق والابادة الجماعية. وايضا فرضت عليها لغتها، وثقافتها وعاداتها، مستعينة بسلطة دولة المستعمر، والذى ناغم هذا الفعل البشع تطلعاته واحلامه المستقبلية التوسعية طمعا فى الارض والماء، وهذا من جانب الطرف المصري الذي لم يمل او يكل لحظة فى تحقيق هذا المسعى. أما الطرف الأقوى (الأنجليزى)، فقد كان يغض الطرف عن كل هذه الممارسات والافعال السيئة، بل شجعتها وبصورة أو أخرى، وذلك لتسهيل أحكام قبضتها علي البلاد، وتوسيع وتكثيف نهبها لخيرات البلاد مع ضمان رضاء حليفها المصرى.

كل هذه الاحداث كان لها واقعها المؤثر علي الشخصية النيلية ومن ثم الشخصية الغربية. وفيما يخص النيلي واعتداده اعتزازه بمكونه الجديد، وحليفه غير ندى (المستعمر)، بداء في تمكين ذاته، وترسيخ نفوذه بمساعدة المستعمر، حتي بدأ له بأنه هو الكل في الكل، وتماهى في داخله ما هو الوطني، وما هو الأجنبى. .فقد فتحت له مصر مدارسها، وجامعاتها، ومعاهدها فأزداد معرفة، وتعلقا وتغمصا بملاذه الجديد، وتم تحويره تحويرا كاملا، بل وفصله وعزله عزلا تاما عن محيطه المحلى، وتم أعادة تهيئته الى دوره القادم لخدمة ومصلحة الوافد (العرقى والثقافى الجديد) بحيث تكون هى رأس الرمح في نشر ثقافته، ولغته، وتقاليده، والتي ادعت هي (الكتلة النيلية)، زورا وبهتانا بأنها هي ذات نفسها ذالك الوافد وبكل تصنيفاته. ومن هنا بدأت رحلة الاحلال القسري للثقافة واللغة العربية والدين الاسلامي، وبشتى الطرق الممكنة، وغير الممكنة. هذا ما زاد المكون النيلى غرية وأغترابا، وباعد الشقة بينه وبين المكون الغربي. ومع العلم ان الشخصية الغربية و النيلية تنتميان معا الي دولة واحدة، و أيضا مكونهما التاريخي الأصلى كان واحدا، ولكن ظروف وعوامل الصراع انتجت منهما شقيقين غير متشابهين لا في الشكل ولا حتى فى المحتوى.

أما الشخصية الغربية، وبعد هزيمتها النكراء، أي بعد هزيمة دولة الخليفة عبدالله التعايشي، وإجهاض مشروع الثورة المهدية، فقد اصبحت تترنح تحت الضربات المتتالية ومن كل الاتجاهات حتى فقدت توازنها. أضف الي ذالك أن تشوهات المخاض السابقة افقدتها البوصلة، فقد اهتزت هذة الشخصية وفقدت الثقة فى نفسها وذاتها، واستسلمت (مؤقتا) لما أصابها من اقرب الاقربين لها(المكون النيلى)، وازدادت تشوها أثناء مرحلة الاستسلام هذه. ومن اسوء هذه التشوهات هى فقدان الثقة فى ذاتها، والإحساس بالدونية تجاه الطرف الاخر(المكون النيلى)، فضلا عن الخوف الذى تجذر فى دواخلها تجاه هذا الاخر. كما تضاعفت عليها قدر كبير من الفاقة، والتى ساهمت فى تضخم والضبابية فى التفكير مما جعلها أكثر تناقضا. فحاولت بعض مكونات هذه الفئة الغربية الالتحاق والارتباط بغريمتها النيلية، ومشاركتها في دورها الجديد والذي بدأت فى تنفيذه بإيعاز من المستعمر. ولكن، وعلى الرغم من تبنى كل منطلقات المكون النيلى، الا أنها(الفئة الغربية) لم يتم استقبالها بالترحاب الذي كانت تتوقعه، بل أمعن المكون النيلى فى إذلالها وتم إجبارها لتقديم تنازلات أكبر مما تتحمل. وحيث أصبحت الفئة الغربية كما المستضعف الجائع يتبع صاحبه حيث ما أتجه أو أقام عشما فى فتات لقمة منه أو الرضى عنه.

أما الغالبية العظمي من الشخصية الغربية والتي رفضت تبنى هوية المكون النيلى الجديد، فقد رضخت للاستسلام والانزواء بعيدا، وكما أنها ظلت عاجزة حتى فى البحث عن البديل أو حليف لها ليعنها في مصابها ويشد من ازرها. وقد ساهم انزوائها وغباشة رؤيتها في عزلها عن محيطها الذي كان بالإمكان ان يسندها ويمدها بمصادر للقوة والتى ربما تساعدها فى النهوض بحالها من جديد، ومن ثم مواصلة صراعها وبصورة اقوى وأمتن. وللأسف ظلت علي حالها هكذا الى ان بدأت مرحلة جديدة أخرى من مراحل الصراع فى السودان، وهى مازالت تنكأ جراحها وتلعقها وتندب حظها العاسر. ولكن فى الحقيقة، وعلى الرغم من كثافة وتعاظم المظالم والضغوط عليها، كان هنالك حراك فى داخلها مخفى عن الانظار ينمو ببطي شديد، وذلك من أجل استعادة قواها من جديد وإصلاح، أو على الأقل السعى فى أصلاح ما يمكن أصلاحه، وترميم ما لحق بها من ضرر وتشوهات وأنكسار. وفي خضم هذا الحراك البطي ، سعي المستعمر، وبشقيه لتخفيف أعباء ادارة مستعمرته، فسعى فى تكوين أجسام لتساعده فى أدارة شؤونه، فعمل على تكوين ادارات اهلية (قبلية) في كافة انحاء البلاد، والتى بموجبها قسم البلاد الى أداريات منفصلة ليمنع أى تواصل حقيقى بينها، بل تم عزلها عن بعضها البعض عزلا تاما ومحكما، ولا يسمح لها بالتواصل الا بقدر ما تقتضيه الضرورة الملحة والتى هى قطعا تخدم فقط أجندة المستعمر لا غير. وفي هذه المرة زاد المستعمر من تشويه الشخصية الغربية، فقسم المكون الغربي الي ثلاث مجموعات، راى في احداهما ان تكون متشابة للنيلية في الفهم والتوجهات (كردوفان) وقسم المكونين الاخرين الي قسمين احداهما اطلق علية المكون الجنوبي(دولة جنوب السودان الحالية، و جنوب كردفان، والنيل الأزرق)، والأخر ابقاه علي مسماه الغربي (دارفور). وعلى وجه عام، ومع استثناء جنوب السودان، فان المكون الغربى تجمع بينها كثير من وحدة الثقافة والدين، مع وجود اختلافات بسيطة هنا وهناك. وأخيرا ألحق المكون الشرقي (شرق السودان) الى المكون الغربى العريض من حيث العزلة والاغتراب. حيث لا ينسى لشرق السودان دوره الفعال فى مناصرتها للمكون الغربى أبان الثورة المهدية، ودولة الخليفة عبدالله التعايشى. والجدير بالذكر، أن كردفان كانت تاريخيا وما زالت ذات أرتباط وصلة وثيقة بدارفور، وجنوب السودان، بل حكمت ولفترات طويلة سوا أكانت مباشرة أو غير مباشرة من قبل سلطنة دارفور. لذا نجد دائما كردفان فى تقارب، أو قل تمازج ثقافى، بل ونفسى ووجدانى مع دارفور وجنوب السودان كما الترابط الجغرافى. عليه، فلا استغراب اذا الحقت بدارفور ومن ورائها جنوب السودان. أما ألحاق شرق السودان بالمكون الغربي يعزى تشابه ظروفه بكل من دارفور وكردفان وجنوب السودان، بحيث يتناقض اثنيا ولغويا بل ثقافيا مع المكون النيلي، زائدا تقوية اواصر العلاقة مع المكون الغربى اثناء فترة الثورة المهدية و دولة الخليفة عبداللة التعايشي.

أن المكون الشرقى يضيف للواقع تعقيدا اخر وذلك إذا صنف من ضمن المكون الغربى رغم خصوصيته وارتباطه الوثيق مع إمبراطورية الحبشة، خصوصا فى العرق والثقافة واللغة. كما ان لها بعض الارتباطات الوثيقة بالمكون النيلى والغربى معا، وهذا ما جعلها تبدو محايدة نوعا ما، ولكن فى واقع الامر ليس لهذه الدرجة، فهو على ارتباط عميق مع شعوب السودان الاخرى، وحتى ان له جذور أصيلة فى دارفور منذ قديم الزمان. لذا اننا نجد أن تركيبة شرق السودان لا تختلف كثيرا عن التكوين الكائن للمكون النيلى والغربى. وعندما بدأ المستعمر فى تكوين الهيئات الإدارية لمساعدته فى أدارة مستعمراته لم يستثنى المكون الشرقى، بل عومل معاملة المكون الغربى المنتزع منه مكون الجنوب المسيحى. ومن هنا، نشأت فى مناطق الشرق إدارات أهلية خاضعة للمستعمر، تتأمر بأوامره و تنفذ خططه و رؤاه. ولكن الحال لم يدوم طويلا على هذا المنوال، اذ أن أفرارات الثورة المهدية، وسقوط دولة الخليفة التعايشى، ودخول المستعمر طالبا للثأر ومعاونا للعنصر النيلى، أنبت ألى الواقع طائفتين دينتين، احداهما اتت مع المستعمر الانجليزي (الختمية)، والأخرى تتمثل فى اثار الثورة المهدية، وليس اثار دولة الخليفة عبدالله التعايشى. وهذا البعد ايضا أضاف مزيد من التعقيد للصراع السياسى فى دولة السودان. ومن صلب هاتين الطائفتين خلق حزبان طائفتان، احداهما يمثل المستعمر الانجليزى، والأخر يمثل المستعمر المصرى. فالحزب الختمى تقريبا كل عناصره من الوسط النيلي كما قيادته الدينية والطائفية. وأما حزب طائفة الأنصار فقاعدته من المكون الغربى المهزوم، أما قيادته الطائفية والدينية فمن المكون النيلى الذى أرتد عن قيم وفلسفة الثورة المهدية قبل سقوط الخرطوم وقيام دولة الخليفة عبد اللة التعايشى. وهذا ما زاد تشويش وتغبيش وعى الشخصية الغربية المهزومة والمنكسرة مرتين، المرة الأولى عند سقوط دولة الخليفة عبدالله التعايشى، والثانية عند خضوعها لقيادة المكون النيلى، متمثلة فى عشيرة الامام المهدى، والتى عملت على ابعاد العنصر الغربى من قيادة حزب الأنصار حتى أبناء الخليفة عبد الله التعايشى مؤسس أول دولة حديثة فى الرقعة الجغرافية التى سمى بالسودان. حيث اصبح المكون الغربى، وأسرة الخليفة عبدالله التعايشى لم يكن لهم اى دور يذكر فى قيادة حزب الأنصار، وهذا ما ضاعف من انكسار وتقهقر الشخصية الغربية.

لكن لم يكن كل المكون الغربى بهذا الانكسار والتبعية. وكما ذكرنا سابقا، كان هناك تحركا داخليا، وحراك كثيف غير واضح المعالم داخل بعض مكون الشخصية الغربية بدأ يتفاعل وبهدوء للنهوض بهذا الوسط من جديد. ولم يمضي زمنا طويلا حتى ظهرت معالمه الي السطح فى شكل انتفاضة عسكرية ضد المستعمر (الحكم الثنائي)؛ وكانت هذه الانتفاضة بقيادة ضابطين صغيرين ينتميان الى المكون الغربى العريض، و هما (على عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ)، وكان ذلك فى سنة 1924م. وبقيام هذه الانتفاضة تجسدت الخلافات والفوارق بين المكونين السودانيين (الغربى والنيلى)، اللذان أنقسما الى كيانين ولكل منهما شخصية شبه مستقلة، وتعبر عن ذاته وطموحاته. وقد استنكر الكيان النيلي الوسطى ما قام به هؤلا الشباب الابطال وباسم السودان أجمع، بل استهجن ان يكون خلاصهم من المستعمر علي ايدي هؤلاء الرعاع والوضعيين عديمي الاصل والحسب والنسب، واللذان لا يمثلا حتى انفسهما. حيث تم نعتهم ووصفهم من قبل المكون النيلى بأبشع ما يكون، وحتى عجز المستعمر الباطش أن يطلقها عليهم. وهذا يؤكد البون الشاسع الذى وصلت اليه شقة الخلاف بين المكون النيلى والغربى الكبير عند بداية تكوين السودان الحديث. حيث اصبح الفرز والفرق بين هذين المكونين (الغربى والنيلى) واضحا وضوح الشمس فى رابعة النهار. وكان رد الفعل لهذا التعامل زاد عمق جراح المكون الغربي، وفى الوقت ذاته أكد هذا الحدث أن استسلام المكون الغربي للمكون النيلى لن يكون الا مؤقتا. حيث أن هنالك تراكمات تتفاعل داخليا تنبئ عن أن هناك انفجار واقع فى الأيام القادمة.

أن المكون الغربى بدأ يتعافى تدريجيا من هزائمه وانكساراته، وبدأ يعيد الثقة فى نفسه تدريجيا، كما أعطى هذا الحدث (على عبداللطيف وعبدالفضيل الماظ فى عام 1924م)، أشارات بأن الصراع بين المكونين النيلى والغربى العريض لم يبدأ بعد، وربما تكون هناك صولات وجولات قادمات فى مقبل الأيام. وهذا جعل المكون النيلى يستعجل فى أكمال برنامجه، وقطع الطريق على المكون الغربى من النهوض فى المستقبل. وضاعف المكون النيلى من جهوده فى استئصال كل ما يمت للمكون الغربى بصلة على أرض الدولة السودانية الحديثة، وكما ذكرنا انفا، انها كانت بمباركة وموفقة ورضاء المستعمر الاجنبي. حيث قام المكون النيلى بمعاونة المستعمر فى استمالة الإدارات الأهلية فى مناطق المكون الغربى (فى الغرب، والجنوب، والشرق)، واسترضائها بشتى السبل وذلك لكسبها الى جانبها، وللقضاء على المكون الغربى وبالكامل، وبذالك قد يكون مهد الطريق الي مشروع دولته (العربية الاسلامية ).

و في خضم هذه التفاعلات والظروف المحيطة بها، بدأت تتكون بعض التشكيلات السياسية، ولكن كانت مختصرة فى الوسط النيلى فقط. حيث برزت بعض الأحزاب الايديولوجية ، وبدأت هياكلها وأطرها تتشكل، حيث كانت ظاهريا تلف برنامجها بشيء من العقلانية، ولكن يبدو فى جوهرها التأثيرات والانعكاسات التى اعترت شخصية الشعوب السودانية فى مراحل تكوينها الأولى، وخاصة النيلية منها. ومهما حاولت هذه الأحزاب الجديدة الابتعاد عن موروثها القديم، والمتمثلة فى بداية تكوين الشخصية النيلية، والتى لها فلسفتها ومدلولاتها وأهدافها الخاصة، فلم تستطع لذلك سبيلا. بل يبدو عليها وبكل وضوح ازدواج الشخصية، فبرنامجها المكتوبة شيء وأفعالها وممارساتها الواقعية شيء أخر مختلف تماما. ومن الملاحظ خلال هذه المرحلة من مراحل الصراع تحولت الشخصية المكونة للشعوب السودانية الى شبه متكاملة فى توجهاتها، وعلى كافة الأصعدة، وبنفس مخزونها السابق من التشوهات، وضبابية الرؤية، وعدم النضوج الفكري، والتردد فى مواجهة الواقع الحقيقي، بل تقوقعت أكثر حول مكونها الأول. أن طرح هذه الأحزاب وبكل تنوعها يجمعها شئ جوهرئ واحد وهو حملها للرواسب المكونة لشخصية الشعوب السودانية، التى ولدت مأزومة، ضعيفة، منهكة، ومشوشة. فكل أطروحاتها والتى سمتها وطنية، ما هى الأ أنعكاس لواقعها الميؤوس منه. فالحقيقة أن العقلية التي تكونت في هذه التطورات والصراعات، فضلا عن بداية تكوين ارثها المأزوم أصلا، كانت هى أيضا منشطرة الى عقليتين، أحداهما تمثل الطرف الغربى وملحقاتها، والاخر تمثل الطرف النيلي. وفى دواخل كلتا العقليتين نفس المخزون القديم من التأزم، وكل التشوهات التى تتبع لهاتين العقليتين. فالعقلية النيلية، التى أستفادت كثيرا من تحالفاتها مع المستعمر فى الاستئثار بكل خيرات البلاد، وأصبحت صاحبة القدح المعلى فى أدارة شؤون البلاد، وتمكنت من فرض ما تدعيه زورا وهى لغتها (العربية)، وثقافتها، وعاداتها وتقاليدها، وشرعنتها على أساس أنها المكون الأساسى بل والأوحد للبلاد، مع التواصل فى أجتثات الثقافا، واللغات، والعادات، والتقاليد، والاديان الأخرى. وتمت كل هذه الأفعال بالأستخدام البشع وأستغلال المجحف لأداة الدولة التى بنتها بعمالتها مع المستعمر، بل فى الحيقية التى ورثتها من المستعمر فى 1956.

معظم أن لم يكن كل عناوين وبرنامج الاحزاب النيلية السياسية تدعى بأنها قومية، ولكل مكونات الشعوب السودانية. و فى واقع الأمر ما هى الا تغليف وشعارات زائفة رنانة ليس لديها أى سند حقيقي على أرض الواقع، وهذا هو ديدن العقلية النيلية. فممارسات هذه العقلية و الأحزابها تفضح هذا الزعم بلا لبس. ولكننا نلاحظ فى بعض برنامج الاحزاب العقائدية توجد دعوة عامة للانضمام إليها و أيضا نري في بعض فقرات برنامجها بعض الإشارات الى شرائح اجتماعية معينة (العمال، المزارعين، الرعاة، وعامة الكادحين)، والمناداة بحقوقهم. ولكنها فى الحقيقة لم تشير من قريب أو بعيد الى المعضلة الحقيقية التي تقف حجر عثرة في سبيل أقامة منظومة سياسية يمكن ان يطلق عليها صفة الوطنية، والتى تمثل أمانى وطموحات وتطلعات كل الشعوب السودانية. كما غضت هذه الأحزاب الطرف عن واقع انقسام شعوب السودان الي عقليتين متنافرتين، متوازيتين ومتناقضتين. وايضا غضت الطرف عن العوامل التى ساهمت فى وجود هذين العقليتين، والظروف التى كانت محيطة بهما. حيث كان خطاب هذه الاحزاب عموميا ويفتقر الى التحليل المتأني، الدقيق والعلمي، والذي كان من الممكن ان يعينها في خلق وضع برامج تبذر اللبنة الأولى للإصلاح ورتق النسيج الأجتماعى للشعوب السودانية، ومحاولة أعادة الثقة بين هاتين العقليتان اللتان أصبحتا تعبران عن الواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي في أرص السودان الحديث، أى سودان ما بعد الاستعمار الانجليزي المصرى.

ولكن عندما ننظر الي الآمر بجلاء، نري ان العقلية المهيمنة علي الدولة و الأحزاب المنبثقة منها، نجدها ما زالت تحمل تشوهاتها، وترهلها، وأزماتها، وضبابية ورؤاها والذى جعلها فى وضع لا يسمح لها رؤية الواقع بعين فاحصة ثاقبة، نقدية، ومحايدة تمكنها من رؤية واقعها بمصداقية وواقعية تدفعها وتقنعها بموضوعية التغيير الجذري الذي سيعيد الآمور الى وضعها الطبيعى بين شعوب السودان. ولكن أزمتها، و تشوهها، وضبابيتها، جعلتها تلعب علي حبلين، وهما الحفاظ علي مكتسباتها السياسية والمادية، والاجتماعية التى أكتسبتها من المستعمر خلال صراعها مع غريمتها الغربية. و فى نفس الوقت تعمل على أستغلال واحتواء شريحة من العقلية الغربية وبصورة اكثر سلاسة وبهدوء، وذلك لتقوية نفسها بهواؤلاء النفر فى صراعها مع بنى جلدتها من أجل السطة والثروة، وليس للتغيير الجذرى الجاد، أو لخلق وطن معافي يسع الجميع، فهى ترى فى ذلك مضيعة لحقوقها المكتسبة تاريخيا، ولا يذكر هذا الأمر الا همسا. ومع العلم با ان الشريحة الاخري من العقليه النيلية التى تمحورت حول الطائفية، كانت تمارس نفس التدليس والمغازلة مع العقلية الغربية. وهذا مما يقودنا الي انطباعا لا يجافى الواقع الحقيقى، بأن طرفى العقلية النيلية لم يتغيرا اصلا، ولم يغادرا محطتهما الأولى. بل أصبحت العقلية النيلية بشقيها تأسس لمقولة عجز العقلية الغربة، وذلك حتى لا تستطيع ان تفكر فى نفسها ومعاناتها، أو فى أدارة شؤونها الخاصة. وعندها توصف بأنها غير مؤهلة للمساهمة أو لعب دورقيادي لا فى السياسة أو العمل الادارى ولا حتى الاجتماعي لأنها وفى الأساس انه مكون عاجز بطبعه، بل يحتاج الى الرعاية والتوجيه، وأن يقاد ولا يقود، وسيظل خلف الكواليس والى الأبد، وكما يجب ان يستخدم فى الأعمال الشاقة والوضيعة التى لا تناسب سمو ومكانة أبناء العقلية النيلية. ومن المؤسف حقا ان بعض من أبناء العقلية الغربية اذعن لهذه الخدعة، سواء كان بوعى أو غير وعى، أو تحت ضغط الظروف وضروريات الحياة اليومية. ولقد أصبح البعض منهم يركض خلف سيده ويتحدث لغته، ويعتنق أفكاره وتطلعاته، و يردد أقواله بببغاوية حتى يماثل سيده تماما. وفى الواقع، هذا المدجن المستقطب من أفراد العقلية الغربية، مهما أجتهد وأجهد نفسه، و بكل طاقته وضاعف جهده لإرضاء سيده، فلن يحمد له ذلك، بل سيظل هو هو فى عقلية سيده النيلى. وفي خضم هذا الصراع، كانت هنالك فلتات مشرفة من قبل الطرفين (العقليتين-الغربى والنيلى). حيث برزت بعض الشخصيات ترى فى الذى جرى غير مقبول، بل يجب الوقوف عنده وإصلاحه. ولكن دائما كانت العقلية النيلية تخرس هذه الأصوات، وبشتى السبل. مثلا، أذا كان هذا الفرد من أبناء العقلية النيلية فيعد نشازا فيردع و يقوم و بكل السبل. أما أذا كان من الطرف الاخر (الغربى)، فتنصب له الفخاخ حتي يوقع فيها متلبسا فيبتر بترا تاما من أرض الواقع، وغير مأسوفا عليه، و ليصبح عبرة لمن أعتبر. وهذا ان دل أنما يدل على ان الحراك الاجتماعي متواصل وبكل الاتجاهات، تارة يصعد الى الأمام و تارة اخرى الى الخلف.

أما فيما يخص العقلية الاخري , التي أطلقنا عليها (الغربية )، شملناها فى كل من (شرق السودان، كردفان، جنوب النيل الأزرق، ودارفور، وجنوب السودان/دولة جنوب السودان الحالية)، وذلك لأن هذه المجموعات تمتلك عوامل تقارب، وأقرب عوامل تقاربها(باستثناء طفيف لجنوب السودان)، هى الثورة المهدية، ودولة الخليفة عبدالله التعايشى. وأيضا تربطها عوامل أخرى ومجتمعة بأنها لا تدعى العروبة (مع العلم ان هناك بعض من القبائل العربية داخل تركيبة المكون الغربى)، وحتى العروبة التى تنتمى اليها تختلف تماما عن مفهوم العروبة النيلية، فضلا ان الوسط النيلى يشكك كثيرا فى عروبة هذه الشرحة الغربية، ولا تعترف بها الا فى حالات نادرة وعندما تخدم مصالحها الذاتية. أن المكون الغربى، وعلى الرغم من تعدد لغاته، ودياناته، وبعض عادته، الا أنها اي مكوناتة لا تتهيب فى الأختلاط فيما بينها. حيث نجد ان لديها تاريخ مشترك مما جعلهم أقرب الى بعضهم البعض، ومترابط وجدانبا، وأكثر أرطباتا بالأرض. حيث كانت لهذه المكونات ممالك وسلطنات ممتدة عبر الأزمان، وحتى التاريخ القريب. ومعظم مكونات المكون الغربى تعتنق الإسلام المتسامح والمتشبع بثقافاتها المحلية ولا سيما الافريقية منها. و هذا الطابع من الاسلام يختلف قليلا عن اسلام الوسط النيلى وخصوصا فى بعض محتويات طقوسها الحياتية.

ومع العلم ان الوسط النيلي تفوق علي رصيفه الغربي فيما يخص الاستحواذ علي أجهزة الدولة، وتسخير مقدراتها الكاملة وتوظيفها فى خدمة مصالحه. ولكنه، ومع ذلك كان موسوما بالضعف، والخوار، وضبابية الرؤية. وحتى في حالة التمكين هذه، أنه ظل في حالة تشتت وأنقسام، وصراع فيما بينه من أجل السلطة والثروة. ويظهر هذا الخلاف جليا بين الاحزاب الطائفية المتمثلة فى (الختمية والأنصار)، والتى جعلت الدولة فى حالة عدم استقرار دائم. وفى هذا الخضم، بدأت بوادر نهوض الوسط الغربى، وأنشأت بعض التجمعات والمنظمات السياسية فى أربعينات وخمسينات القرن العشرين، مثل (اللهيب الأحمر وحركة سونى فى دارفور، ومؤتمر البجا فى شرق السودان، وحزب سانو فى جنوب السودان، والحزب القومى السودانى فى كردفان)، وبجانب عدم الثقة فى الذات، كان طرحها هى أيضا معلولا ومصابا بنفس الداء الذى اصاب غريمتها فى الوسط النيلى. وكما أنصب جل طرح هذه ا لتجمعات والمنظمات حول مطالب محلية لا ترتقي الي طرح الأسئلة الإستراتيجية التى تخص البلاد برمتها. ومع ضعفها هذا، فقد رفضت من قبل الوسط النيلى، بل استنكرت ووصفت بالعنصرية، والجهوية، والأنفصالية.

وبحلول ساعة رحيل المستعمر، كانت الثقة معدومة تماما بين هاتين العقليتين وهذين الوسطين (الغربى والنيلى). وقد كان ذلك جليا فى برنامج ما سمي بالسودنة. فكانت الغلبة للوسط النيلي وقواه الطائفية في ادارة البلاد. ولكنها هى الاخرى(الوسط النيلى)، لم تكن علي وفاق تام,، فنها كانت متنازعة الامر حول شعارين، احداهما تنادى بوحدة وادي النيل مع مصر، والأخر رافعة شعار السودان للسودانيين. وهذا يؤكد الانقسام التاريخى بينهما منذ يوم صناعتهما من قبل المستعمر. ومن هنا نستطيع أن نقول، أن أزمة العقلية السودانية عامة، خلقت واقعا سياسيا لا يطاق. وساهم هذا الواقع مساهمة كبرى فى تشرذم البلاد كله. حيث ظهرت بوادر التذمر والتململ الجماهيري، وكانت أبرزها اشتعال التمرد المسلح فى جنوب السودان فى عام 1952، وكانت تنادى بالعدالة والمساواة فى الحقوق والواجبات، وفى شؤون إدارة الدولة ومواردها. ولكن قد تعاملت معها العقلية النيلية صاحبة الشأن، مع هذا التمرد بالأنفة والتعالي والازدراء، وسعت الي حسمه بالقوة والعنف. وسلوكيات هذه العقلية النيلية وتعاملها مع تمرد الجنوب زاد الطين بلة، وعقدت الاوضاع التى هى كانت اصلا مأزومة وملتهبة بين العقلية النيلية والعقلية الغربية. حقا، لقد عجزت العقلية النيلية عن أنتاج فعل أيحابى تساعد وتساهم فى إطفاء بوادر الحريق وتجنيب البلاد تعقيدا جديدا يضاف الى ما وصلت إليه من تردى. وهذا يعتبر وانغلاق الأفق دون بصيص اى أمل فى لملمة الأطراف وإيقاف انحدار الدولة نحو الهاوية. ولكن من اين لهم ذلك، وهى العقلية التى خلقت مشوهة عاجزة عن التفكير السليم فى بناء دولة المواطنة التى تسع كل الشعوب السودانية.

حيث تسارعت الأزمات تتراكم واحدة تلو ألأخرى وكل أزمة تتوج بأزمة أعقد منها. فكان العجز وتوهان العقلية السودانية يوحى بأنها غير مدركة لماهية ذاتها، وفى أى وضع هي، فضلا عن انها غير قادرة على التمعن فى ذاتها وتجاربها، بل فاقدة القدرة على التعلم من تجربتها التاريخية، ومحيطها، وواقعها. حيث أمعنت هذه العقلية في الغلو والتنكر الي واقعها وقننت كل أجهزة الدولة بثقافتها، ولغاتها، ودينها، وقيمها ومثلها، ولم تراعى فى ذلك الاخر المختلف المتعدد. وتفاقمت الأوضاع فى جنوب البلاد بسبب المعالجات الخاطئة المنطلقة من رؤى مضللة ومأزومة التى تسببت فى تدهور الأوضاع. ,ايضا هذه العقلية تسببت فى الأنقلابات العسكرية المتتالية. وحتى هذه الانقلابات العسكرية التى أدعت هى الأخرى الاصلاح، لم تأتى بحلول تذكر، بل هى أيضا كانت تعبر فى جوهرها وممارستها عن عجز العلقية السودانية التى فشلت فى مراجعة نفسها، وطرحها من برنامج لمعالجة أوضاع البلاد المأزمومة. وفى هذه الأثناء ظهرت تكوينات لنخب اجتماعية سياسية، ومنتديات ثقافية كانت تحاول أجاد حلول ومخرج من هذه الأزمات ولكن نجد أن هذه النخب أيضا مكبلة بموروثها العاجز عن أيجاد مخرج من هذا المأزق. بل كررت هذه النخب نفس التجارب وبصورة أقبح من سابقاتها.

وعلى الرغم من كل هذا، لم يتوقف الحراك الاجتماعي السياسى فى السودان، ولكنه يدور حول حلقات مفرغة. وما تكاد أن تكتمل دورات هذه الحلقات حتى تجد العقلية السودانية نفسها في المربع الأول من جديد. فلا يوجد منقذ لها من أزماتها، وكذلك أزمات البلاد، رغم تخرج العديد من أبنائها من المدارس الثانوية، والمعاهد العليا، والجامعات المحلية والعالمية. وكاد وصف حال التعليم والوعى فى السودان أن ينفى مقولة الديالكتيك فى التحول (تحول التراكم الكمى ألى فعل نوعى). وعلى رغم المحاولات العديدة الفاشلة من بعض النخب لتجاوز هذه الأزمات، ولكن كما أسلفنا، كانت دائما ما تثمر جهودها فشلا ذريعا، وكانت فى غالب الأحيان تأتى بعكس ما كان متوقعا منها. وما يحضر في الذاكرة لهذا النخب ما قامت به من محاولات ما سميت بالمدارس الأم درمانية. فقد فوضت هذه النخب نفسها على أنها الوعاء الجامع لكل أهل السودان وربوعه. بل توجت فعلها وادعائها هذا فى إعلانها بأنها هى المركز الذى يشع ويبشر بالثقافة ذات البعد الاستراتيجي ، والذى سوف يصبح القاسم الوطنى المشترك لكل شعوب السودان فى المستقبل القريب. ولكن كانت الحقيقة تقول غير ذلك، بل عكسه تماما. فما فعلتها هذه النخب الأم درمانية، إذا كانت تدرى أم لا تدري، انها انحازت الى احد أطراف الصراع دون الاخر ومكنته وثبتت ادعاءاته وحلمه. فى الواقع، أن الذهنية أو ثقافة النخب الأمدرمانية هذه لم تكن سوى الثقافة النيلية بعينها، ولكن بلسان المهزومين، والمستقطبون من الذين أطلقنا عليهم بعض مكونات مجموعة المكون الغربى. لذلك لم يغادر طرحهم الطرح النيلى المأزوم أصلا والفاقد لمقدرة الفعل الذكى لإيجاد مخرجا حقيقى يخرج البلاد من الفوضى والتدهور. وبمعنى اخر، أن المحور الأمدرمانى نشأ وترعرع فى كنف الوسط النيلى، وحاول تكريس الهزيمة وتمريرها على غالبية الشعوب السودانية، لذلك كان كل إنتاجه باطل وبلا منازع.

فكل ما أنتج من فكر وثقافة لا يمثل غالبية الشعوب السودانية، بل يمثل جوهر أزمة السودان وشعوبه ونخبه السياسية. ولقد عجزت العقلية السودانية ونخبها في أدارة الصراع وسط هذا الكم من التنوع الغزير، والغنى بكل ما تتمناه النفس البشرية. وقاد هذا العجز الى تدهور هذه الشعوب وجعلها فى مؤخرة سلم التقدم والتطور بين شعوب العالم الأخرى. وعلى الرغم من هذا العجز، ألا أننا نجد كذلك هذا النخب (الأمدرمانية/النيلية)، تتباهى با نها قادت شعوبها الي مقدمة الشعوب المحيطة بها. حيث أنها تدعى بأنها فجرت في التاريخ الحديث، ثورة شعبية، وانتفاضة جماهيرية قوضت بها حكومتين ديكتاتوريتين ولكن الواقع والحقيقة تقولان غير ذلك، بل العكس تماما. فالحقيقة، أن طلاب جامعة الخرطوم، ونتيجة لعجز القوى والنخب السياسية ومفكريها، وانكفائها وعدم قدرتها، علي اداء ودورها المناط بها أفتراضا، فتحركت طليعة من الطلاب، وازرتهم وساندتهم النقابات العمالية والمهنية وتم اسقاط نظام الدكتاتور إبراهيم عبود (1958-1964). ولكن لم يدم أنجاز طلاب جامعة الخرطوم طويلا، فسطت هذه النخب والقوى السياسية على هذه الانجاز وأجهضته فى زمن وجيز بخلافاتها، وطموحاتها المريضة، والغير موضوعية واللا واقعية. وهذا يرجع الى أزمات هذه النحب المعروفة، وخوائهم من أى عامل منهجى يقود الى نجاح مشرف. نعم، ربما قد تكون هناك استثناءات للحزب الشيوعى. حيث كان للحزب الشيوعى نفوذا واسعا وسط العمال والمزارعين، ولكنه لم يستمر هذا النفوذ وبصورة فعالة تمكنه من أنجاز أى عمل ملموس، وايجابي بقدر تحدى أزمات البلاد، والذى حاله يغنى عن سؤاله. وما أنتفاضة طلائع طلاب جامعة أم درمان الإسلامية فى مارس-أبريل 1986 الا تأكيدا اخر على الأزمة والفشل البنيوى للعقلية السودانية ونخبها السياسية. حيث أمتد هذا الفشل والعجز البنيوى حتى على نطاق القوى التى كانت ومن المفترض أن تحاول أن تستفيد من هذه ألانتفاضة (1986)، وتتخلص من أرثها المخزي، والمثبط للهمم. هذا الإرث الذى اقعد العقلية السودانية من النهوض والتغيير وخلاص الشعوب السودانية من ورطتها وأزماتها التى اقعدها طويلا عن الاستقرار، والتقدم والازدهار.

أن الحراك الاجتماعى والسياسى للشعوب لا يسير على رغبات مجموعة محددة دون الأخرى. بل، يكون بصورة ظرفية وموضوعية تشمل الواقع والواقع المحيط ، ومكوناته. لذا، فكان لابد لهذا الحراك والصراع أن ينتج بعض الظواهر الايجابية من طرفى العقلية السودانية (العقلية الغربية والنيلية). وما ظاهرة الحركات السياسية من بعض شرائح الشعوب السودانية المستنيرة، وحتى الانقلابات العسكرية، ما هى إلا تعبيرا حيا عن الحراك الاجتماعى والسياسى التى تشير على ان هناك بعض التغييرات الماثلة فى طريقة تفكير وسلوك بعض الشعوب السودانية. وأيضا توحى بأنها تجاوزت وتخطت نخبها السياسية والفكرية. ولكن ولمرات عدة، سرعان ما تذبل وتهبط هذه التحركات، وتعود الأمور الى سالف وضعها القديم. عليه، أن الضرورة الموضوعية تقول لابد من كسر هذا الطوق الذى لفته العقلية السودانية حول رقبتها، وأيضا لابد من التحرر منه. ولكن لم يكن هذا الأنفكاك والتحرر دون ثمن، وربما يكون ثمنه غالى ومضنى. ولكن لابد من دفع هذا الثمن وذلك من أجل أن تتخلص العقلية السودانية من أزمتها، وتخبطها، وفشلها المتواصل.

لقد سردنا بعض المشكلة السودانية، وأرجعنا بعض هذه الاسباب الى العقلية السودانية، وعدم قدرتها على القيام بدورها الريادي في الفترات السابقة. وهذه هو جوهر أزمات السودان. وبمعنى أخر أن معظم اسباب الأزمة السودانية، تكمن فى ضبابية المواقف التى صاحبت تكوين ونمو العقلية السودانية. وانعكس ذلك فى تكوين النخب السياسية، واحزابها، ومنظماتها التى تسمى (وطنية). حيث أنها ظهرت الى الوجود وهى تعانى من خلل بنيوى فى تكوينها ونشأتها. وقادها هذا الخلل ودفعها نحو عدم وإيجاد الرؤية الثاقبة، وغياب النظرة الواقعية للشعوب السودانية. وينعكس هذا التقصير، وبصورة عامة، علي كل القوى السياسية، والمنظمات المدنية، ولكن تزداد وتنخفض وتيرة هذا الخلل من تنظيم لاخر. حيث نرى هذا التباين أكثر وضوحا فى برنامج هذه التنظيمات. ولكن نجد جميع هذه التنظيمات تشترك فى عدم القدرة على استشفاف الواقع السياسى والاجتماعي للشعوب السودانية. وخير شاهد على قولنا هذا، هو الواقع المعاش اليوم من فشل وتخبط الاحزاب والتنظيمات السياسية السودانية في قرأءة الواقع الاجتماعي، والسياسي، وأيضا عجزها فى أقناع المواطن السودانى بجدية نضالها وصلاحية برنامجها فى التغيير الجذى الذى يتوق له غالبية مكونات الشعوب السودانية المختلفة. وهذا الفشل جعل الساحة السياسية ممهدة للقوى العروبية-الإسلامية، وأيضا السلفية السياسية لتسيطر على الوضع فى البلاد. وقد أصبح الوطن والمواطن حقل تجارب لتروهاتها، وأوهامها الوردية التى دفعت ومازالت تدفع ثمنها الشعوب السودانية حروبا، وفقرا، وجوعا، وتخلفا، وجهلا، وتشريدا، حتى وصل الحال الى تقطيع أوصال الوطن، ولا زال التردى والانحطاط والانهيارات مستمرة، وتتوالى على الوطن.

علينا أن نقر صدقا، أن هناك محاولات جادة ومن قبل بعض المهتمين بالشأن السوداني. حيث أنهم حريصون على أيجاد الحلول المناسبة لأزمة الشعوب السودانية. وأنا أكتب الان، وهناك اخبار طاغية على الاعلام السوداني، وهو ظهور أجسام وتنظيمات عدة تبحث عن الحلول. وخير مثال على ذلك الجسم الذى أطلق عليه (نداء السودان)، وأيضا سبقتها أجسام أخرى مثل(الفجر الجديد)، وقبلها (الجبهة الثورية، وتحالف كاودا، قوى الإجماع الوطني، الحركة الشعبية قطاع الشمال، فصائل دارفور، الخ). فكل هذه الأجسام والتنظيمات لا تختلف عن سابقاتها من حيث المحتوى وطريقة التفكير. وبعبارة أخرى انها تجريب المجرب. وفى تقديرنا أنها فقط تغيير الشعار ولكن لم يتغير المحتوى أو الجوهر، فكل شيء ثابت كما هو (حزب الأمة، الأتحادى، الحزب الشيوعى، الحركة الشعبية، حركات وفصائل دارفور المسلحة). وتعتبر معظم هذه التنظيمات مضيعة للوقت، وتثبط للهمم، لأنها ما هى إلا امتدادا طبيعيا لحقيقة وطبيعة العقلية السودانية، ومثقفيها، وأحزابها وقواها السياسية التى أوصلت البلاد الى هذا الدرك الاسفل من المأساه. وبمعنى، تدار هذه التنظيمات بنفس العقلية التى تسببت فى الأزمة (العقلية النيلية، والعقلية الغربية)، والأكثر من ذلك، انها تدور حول نفسها لتقنعها قسرا لأنها تفعل فى شىء أيجابى، وفى الحقيقة انها تفعل فى أشياء بلا رائحة، ولا طعم، أو محتوى يذكر. لذا، سوف سيذوب نداء السودان كما ذابت من قبلها الفجر الجديد وسابقاتها من شعارات رنانة، وأسماء براقة دون احداث اى تقدم أو تغيير. ويرجع ذلك لأن الداء مازال كامنا، ولم يشخص بعد حتى يتم علاجه. فموهوم من ظن أن بهلوانات سياسية فارغة قادرة على أنجاز تغيير. وعلى الرغم من أن النظام الحالى (حكومة المؤتمر الوطنى) ساقط ومتساقط من تلقاء نفسه، وأيضا بمساعدة منسوبيها، ولكن أيضا عقلية وسلوكيات التنظيمات التى تسمى نفسها بالمعارضة ساعدت اكثر فى بقاء المؤتمر الوطنى طويلا ولهذه الفترة. وحتى لو قدر لهذه التنظيمات المعارضة أن تحل محل النظام الحالى (المؤتمر الوطنى)، فأنها لا تستطيع أن تقدم اى عمل أيجابى لشعوب السودان. بل، وربما تكون هذه التنظيمات المعارضه ذات نفسا هى الوجهه الاخر للعملة (المؤتمر الوطنى، وحلفائه من الإسلاميين والسلفيين) سلوكا وفعلا. فإذا قدر لهذه التنظيمات ان تصل الى السلطة، سوف لا تستطيع أن تقدم أكثر من مأوى وبعض الوظائف الى بعض منتسبيها والى حين. ولكن بالقطع لا تستطيع هذه التنظيمات أن تقدم شيئا يذكر للشعوب السودانية، لان ما بنى على أساس خطأ لن يكون صحيحا فى يوم من الأيام. فلنكن صادقين مع أنفسنا وأمام شعوبنا، هل ينجح أى تحالف بين حزب الامة القومي مع الاتحادي الديمقراطي، أو المؤتمر الشعبي، الحزب الشيوعي، الحركة الشعبية قطاع الشمال، حركات وفصائل دارفور المسلحة،….الخ؟ لا أعتقد ذلك. لأنه لا يوجد اى تجانس أو تقارب، أو برنامج يجمع بين هذه التنظيمات المتناقضة. لذا، يعتبر الركون الى هذه التنظيمات مضيعة للوقت، وهدر للطاقات، والفرص الأيجابية فى حق الشعوب السودانية ان تعيش فى سلام وتتطلع الى الأفضل.

أن الشعوب السودانية تريد تغييرا جذريا يعيد ترتيب أوضاع البلاد وبصورة ترضى طموحاتها وتطلعاتها. ولا يتم هذا التغيير الا بخطوات واثقات تحدد فى البدء مصلحة هذه الشعوب، ومن ثم وضع آلية ديناميكية موضوعية لنسف ما علق سلبا على عقلية الشخصية السودانية من إشكالات مأزومة. ولا يكون ذلك الأ بالنقد الموضوعى والبناء، والصريح، وبشفافية تامة لكل ما دار ويدور منذ أن وضعت الحدود الجغرافية للسودان الحديث، والى يومنا هذا. هنالك أمل مشرق تجاه تلبية طموحات وتطلعات شعوب السودان، وذلك أبتداء بإصلاح أخطاء الماضى والحاضر بعملية جراحية دقيقة. وتحتاج هذه العملية الى فريق عمل مختص، وماهر كامل الأعداد العلمى والاستعداد لأجراء هذه العملية، ويضمد جرحها. وبهذا الإنجاز، سوف يتعافى المريض(الأزمة/العقلية السودانية). وبعد فترة النقاهة وترويض جثمانى كافى، سوف يتعافى بتمام كاملا ، ويصبح فى مقدوره القيام بدوره المنوط به فى لملمة جراح الوطن ورتق نسيجه الاجتماعى وتقريب الشقة بين أطرافه. ومن ثم وضع الطرق والسبل التى تؤدى الى ما ترنو اليه شعوب السودان من أمن واستقرار ونماء. وهذا هو التغيير الجذرى والبنيوي الذى نقصده. ويجب ان يعم هذا التغيير كل الشعوب السودانية، دون التحيز الى النخب ووجهائها ومثقفيها، الذين هم اساسا أس البلاء الذى حل بالبلاد. ولوضع برنامج شامل تلتف حوله كل الشعوب السودانية، لا بد من مراعاة الثوابت والحقوق الطبيعية، وليست تلك التى فرضت على هذه الشعوب فرضا وشرعنت من قبل طرف واحد، وهو حتى لا يمثل ربع تعداد هذه الشعوب. وأيضا يجب أن تكون هذه الحقوق مبنية على ثوابت وحقوق إنسانية لا تفرق بين البشر في حقوقهم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، والدينية،… الخ.

أن حقوق الإنسان مفهوم شامل وكامل، وغير قابل للتجزئة. فأن الفرد كما المجموعة، هو الأصل فى معادلة حقوق الإنسان. ومن العبث أن نقول بأن حقوق الفرد لا يرتقى لمساواة حقوق المجموعة، أو المجموعات السودانية الأخرى. فحرية الفرد لا تنقص مثقال ذرة عن حرية الجماعة، فالكل لهم الحق والشرعية الكاملة والغير منقوصة. وبصريح العبارة، أن حقوق الإنسان لا تعرف هذه أقلية، أو تلك أغلبية فى الممارسة والتنفيذ، ودون ذلك سوف نعود الى المربع الأول، وهو التخبط، والتوهان، وضياع البوصلة. وهذا هو مربط الفرس لأى برنامج تغيير يلبى مصالح وطموحات الشعوب السودانية. لذا، لا يوجد خيار دون التغيير، والتى فى مقدمتها التغيير الجذرى للعقلية (العقلية النيلية والغربية) البائدة. هذا التغيير المنشود هو المعبر الأمثل نحو الأمن والأستقرار، والرفاهية، والأزدهار، والتقدم فى شتى مجالات الحياة. بل أنه صمام الأمان، والعامل الجذاب لتماسك شعوب السودان مع بعضها البعض، وأيضا لتماسك البلاد ووحدتها، وتقدمها ورخائها. ولا يمكن أن نصل الى هذا المرتجى ألا بإيقاف الانهيار أولا وقبل كل شيء. ولا يتم ذلك ألا بتشخيص داء البلاد وبصورة علمية وموضوعية تمكننا من تحسس مواطن بنية الخلل عند الشخصية السودانية، ومن ثم أعادة بناء هذه الشخصية و تكوينها وبالشكل الذى يتماشى مع الطموح الأكبر لشعوب السودان المختلفة. وبذلك قد نكون خطونا الخطوة الاولى فى الأتجاه الصحيح، والذى بإمكانه أعادة بناء الوطن، وبالصورة التى تلبى طموحات شعوبه. لذا، لزاما علينا أن ننظر الى محور القضية وموضوعها الأساسي ما هى أسباب أزمات الشعوب السودانية؟ وماذا تريد هذه الشعوب؟ وما هو المخرج الأمثل الذى يلبى طموحاته؟ هذه الأسئلة تحتاج الى مزيد من البحث والتقصى. عليه، سوف نواصل فى المزيد من البحث والتنقيب عن الأجوبة لهذه الأسئلة. وأيضا سوف نواصل طرح المزيد من الأسئلة، رؤيتنا عن كيفية الحلول، وذلك مساهمة منا فى أيجاد البوصلة التى تساعد فى أخراج السودان من مستنقعه الاسن الى بر الأمان الى دولة تسود فيها قيم العدل وحقوق الإنسان، والوحدة والتقدم والرفاهية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *