خُزعبلات الكارب والبطل (1-2)
في دفع الإفتراء عن الشريف حسين الهندي وحزبه
بابكر فيصل بابكر
[email protected]
هذا مقالٌ حُمِلتُ على كتابتهِ حملاً، فليس من نهجي الدخول في سجالاتٍ تصرفني عن تناول قضايا الوطن المُلحِّة، والتحديات التي تعصفُ به من كل صوبٍ وجهة، ولكن المقال الذي سطرَّهُ الأخ الأستاذ مصطفى البطل بعنوان “محاولة لفض مغاليق وقائع غائبة، التجاني الكارب : قوميسار التاريخ السياسي” دفعني لكتابة هذه الكلمة آملاً أنْ أوفق في تناول ما أصبو إليه من خلالها بأقصى درجة من الموضوعية والإنصاف.
نقل الأستاذ البطل في مقاله عدداً من الإفادات التي قالها له الدكتور التجاني الكارب عن ” الفترتين السابقة والتالية مباشرة لإستيلاء القوات المسلحة بقيادة العقيد آنذاك جعفر محمد النميري على السلطة في مايو1969 وما يهُمني تناوله في هذا المقال هو إفادته بخصوص موقف المرحوم الشريف حسين الهندي من الإنقلاب بحسب رواية الكارب الذي نقل عنه البطل القول :
(بعد الانقلاب بحوالي ثلاثة ايام، بعث الشريف حسين الهندي برسالة الى جعفر نميري بواسطة صديقه بابكر كرار. في هذه الرسالة كتب الشريف حسين يصف الاوضاع وتجربة الديمقراطية الثانية قبل الانقلاب ويحدد موقفه من الانقلاب، ومما كتب: (ما كان يحدث لم يكن ليحله إلا الجيش والدبابة. إذا كان الجيش سيتولى السلطة بنفسه ولوحده فنحن مستعدون لتأييده. وانا شخصيا مستعد للتخلي عن السياسة تماماً ونترك الجيش يحكم. ولكننا لن نؤيد اذا كان بابكر عوض الله والشيوعيين سيقودون او يشاركون في النظام الجديد ).
(التقى بابكر كرار باللواء (آنذاك) جعفر نميري ونقل اليه رسالة الشريف حسين الهندي، ثم عاد ليلتقي بالشريف، حيث قال له: (ليس هناك خلاف بينك وبين جعفر نميري، ولكن النميري يقول لك أنه في الوقت الحاضر لن يستطيع ان يفعل شيئاً لأن بابكر عوض الله والشيوعيين جزء من الانقلاب وسيشاركون في الحكم ).
كذلك أورد الأستاذ البطل شهادة أدلى بها القيادي الإتحادي “سيد هارون” في برنامج تلفزيوني ذكر فيها – بحسب البطل – أن الشريف حسين الهندي ( قال لبعض من حوله بعد سويعات من إذاعة البيان رقم واحد بصوت العقيد جعفر نميري في الخامس والعشرين من مايو 1969 إنه كان قد أزمع إعلان تأييده للإنقلاب، ولكنه غيَّر رأيه وموقفه بعد أن إستمع إلى قرار مجلس قيادة الثورة بتشكيل مجلس الوزراء وعرف أن بابكر عوض الله هو الشخص الذي إختاره النظام رئيساً لمجلس الوزراء).
بعد ذلك قفز الأستاذ البطل للنتيجة التالية : ( إذن الشريف حسين الهندي، رحمه الله، لم يكن راهباً في محراب الديموقراطية، لا يرضي بغيرها، كما أريد لنا أن نفهم. بل أنه في حقيقة الأمر كان في أكمل إستعداد، وفق شهادات هؤلاء العدول، لتأييد إنقلاب الجيش. وإنما حال بينه وبين ذلك سبب عارض واحد فقط، وهو وجود بعض خصومه في حكومة العسكر. ولولا هؤلاء لكان إنقلاب الجيش في مايو سمناً وعسلاً على قلبه. وبالتالي فإن معارضته التي طالت واستطالت بعد ذلك للنظام المايوي لم تكن إذن معارضة مبدأ، إيمانا بالديموقراطية وتقديساً لها وتعظيماً لقيمتها. وإنما كانت معارضة لخصوم سياسيين نجحوا فيما فشل هو فيه).
وبنبرة واثقة من صدق الخلاصة أعلاه، وحُكم نهائي قاطع على صحة الإتهامات أضاف الأستاذ البطل :
(لا نقول ذلك قدحاً في الرجل وتشكيكاً في تاريخه، فهو عندنا، وأيم الحق، من أخيار هذا الوطن الغالي، قدم شهد العطاء في سبيل تقدمه ورفقعة بنيه. ونحن، علم الله، نحبه ولكننا نحب السودان أكثر. وإنما نريد لتاريخه السياسي أن يكتب بنقاء وصدق وتقوى، وأن ترصد وقائعه وفق سيرة علمية، تعتمد الإستقامة والموضوعية طريقاً ومنهاجاً حتى تأتي صفحاته خالصة مصفاة، خلية من التخاليط والتزيدات والاهواء والريب ).
في البدء أستميحُ القارىء عذراً، وللمرَّة الأولى منذ أن بدأتُ كتابة هذا المقال الأسبوعي الراتب منذ ست سنوات، أن أطلَّ عليه عبر منصتين إثنتين، أولاهما منصةٌ حزبية لم أعتد على الظهور منها عبر هذا الموقع إنطلاقاً من فلسفة أؤمن بها وأهدفُ من ورائها إلى النأي بإنتمائي السياسي بعيداً عن هذا المنبر العام، والمنصة الثانية هى تلك التي داومتُ على الإنطلاق منها وسعيتُ من خلالها لتناول القضايا العامة بالبحث الجاد والدراسة والتنقيب.
أقول في فاتحة حديثي هذا أنَّ الحزب الإتحادي الديموقراطي حزبٌ ليبراليٌ مفتوح، لا تكبله قيود وسلاسل الأحزاب العقائدية وأحزاب الآيدلوجيا، ولذلك فإنَّ ممارسة “النقد الذاتي” وقبول النقد من خارج الحزب يُعتبر ممارسة طبيعية مطلوبة، ولا مانع من أن يطال النقد الموضوعي مواقف الحزب ورموزه وزعمائه الكبار.
في هذا الإطار لم يتورع الحزب عن إنتقاد الموقف الذي إتخذته القيادة ممثلة في الزعيم الأزهري وبعض الأعضاء الآخرين في قضية حل الحزب الشيوعي، وهو الحزب الوحيد الذي أجرى دراسة علمية موثقة صدرت لاحقاً في كتاب قام الحزب الشيوعي نفسه بعرضهِ ضمن وثائق المعرض الذي أقامه بقاعة الصداقة في العام 1986 بمناسبة إحتفاله بمرور أربعين عاماً على تأسيسه.
كذلك قام الحزب الإتحادي في مدارس الكادر وفي الندوات الداخلية والجماهيرية وفي صحيفته الرسمية بإنتقاد العديد من المواقف التي إتخذتها زعامته التاريخية، ومن بينها عدم الوفاء بالعهد الذي قطعته عشية إعلان الإستقلال بإعطاء الجنوب حكماً فيدرالياً في إطار السودان الموحد، وهو ما كان سيُجنب البلاد كثيراً من المشاكل اللاحقة.
سقتُ هذه الأمثلة حتى أبيَّن أننا في حزب الحركة الوطنية لا نُقدِّس قياداتنا مثلما تفعل أحزاب أخرى صنعت من زعمائها أصناماً تحرسها بالسدانة، وآلهة تتوسل لها بالقرابين، وعلى الرغم من إدعاءات الحداثة والتقدمية فهي لا تجرؤ على إنتقادها وكشف أخطائها، فكم من “اللات والعُزَّى، ومناة الثالثة الأخرى” – بغير قصدٍ للجندر- تربعت وتتربعُ على عروش تلك الأحزاب، وأنا لستُ في حلٍ من ذكرها بالإسم ففي الماضي و الحاضر ما يكفي للتعريف بها وفي القارىء الحصيف فطانة لإدراكها.
ومن ناحية أخرى، فإنه كما أننا نقبل النقد الموضوعي بأريحية وسعة صدر، فنحنُ كذلك لا نتورَّعُ عن أن ننشب أظفارنا في وجه كل نقدٍ غير موضوعي، لا يتوخى الدقة والعلمية والإنصاف، ونتصدى له بكل ما نملك من أدوات فكرية وعتاد علمي وعدِّة منهجية حتى ندحضه ونكيل عليه تراب النسيان، فإذا هو زاهق .
الأمر الثاني الذي نودُّ توضيحه قبل الخوض في تفكيك الإتهامات التي أفاد بها الدكتور الكارب ونقلها الأستاذ البطل، هو أنَّ الحزب الإتحادي الديموقراطي، رضي الآخرون أم لم يرضوا، هو الحزب السوداني الوحيد الذي لم يتورَّط في زرع خلايا داخل الجيش، ولم يُدِّبر إنقلاباً عسكرياً على حكومة شرعية ديموقراطية، ولم يُسلم السلطة طواعية للجيش كما فعلت أحزابٌ أخرى، ولذلك فإنّنا نفهم لماذا يُحاول البعض ضربه من هذه الناحية والتشكيك في موقفه المبدئي من الديموقراطية.
كذلك فإنَّ موقف الحزب الإتحادي من معارضة النظام المايوي، والذي يمثل وجهاً مشرقاً آخراً من وجوه التمسك بالديموقراطية، يُهيِّج كثيراً من المشاعر السالبة والغيظ في نفوس المايويين وسدنة نظامهم البائد وأذيالهم من الذين “يبرطعون” – بحسب تعبير الأستاذ البطل – في سوح الأنظمة الدكتاتورية، ومزاد عطايا السلطان، لا يستحون عن توظيف قدراتهم و تقديم خدماتهم للحاكم الجائر المستبد كيفما إتفق !
وأبدأ، بحول الله، النظر في “الإتهامات” التي أسماها الاستاذ البطل “إفادات” فأقول إنَّ الواقعة اليتيمة التي ذكرها الدكتور الكارب هزيلةُ التأسيس، واهية المصدر، جميع شخوصها (بابكر كرار، الشريف حسين، نميري) بين يدي الله، ولا يوجد دليلٌ واحدٌ يسندها سوى إدعَّاء صاحبها، فهل الرسالة مكتوبة بخط يد الشريف الهندي كما يفهم القارىء حيث أوردها البطل بين معقوقتين ؟ وإذا كانت كذلك فأين هى ؟ هل هناك تسجيلٌ صوتي يسند رواية الكارب ؟
ولماذا صمت الدكتور الكارب لأكثر من أربعين سنة ولم يذكر هذه المعلومة وشهودها أحياء ؟ لماذا أوردها بعد أن رحلوا جميعاً للدار الآخرة وكان بوسعه تسطيرها في كتاب أو صحيفة أو بثها في إذاعةٍ أو تلفاز ؟
أمَّا الأستاذ البطل، فمن المؤسف أنه أستند على هذه الرواية اليتيمة والحديث التلفزيوني، ولم يسع حتى لقراءة المذكرات التي كتبها المرحوم الشريف حسين الهندي بخط يده وفيها الخبر اليقين بخصوص تلك الفترة، وهى مذكرات كتبت ونشرت في حلقات تحت عنوان “الهارب” في حياة الهندي كما أنها صدرت في العام 2008 في كتاب يحوي مذكرات الرجل.
وهل الإستناد على مثل هذه الروايات عديمة السند والمشكوك في مصدرها، والتجاهل المُتعمَّد للمصادر المكتوبة والمنشورة منذ عشرات السنين يؤسس لكتابة التاريخ ” بنقاء وصدق وتقوى، وأن ترصد وقائعه وفق سيرة علمية، تعتمد الإستقامة والموضوعية طريقاً ومنهاجاً حتى تأتي صفحاته خالصة مصفاة، خلية من التخاليط والتزيدات والاهواء والريب”، كما يقول الأستاذ البطل ؟
وإذا قام كاتب هذه السطور، على سبيل المثال، بإيراد شهادة سماعية “ونسة” بذات الطريقة التي أوردها الأستاذ البطل لشخصين ينفيان تماماً حدوث تلك الوقائع، فهل يكون ذلك هو الرصد العلمي للتاريخ ؟
هذه أمرٌ مثيرٌ للإستغراب، ويدعو للدهشة، خصوصاً وأن الأستاذ البطل كاتب حاذقٌ و مُجوِّد، فكيف فاتت عليه هذه الأمور الأولية وجعلتهُ يقفزُ لنتيجة حاسمة في غاية الخطورة تقول أنّ الشريف حسين” لم يكن راهباً في محراب الديموقراطية، لا يرضي بغيرها، كما أريد لنا أن نفهم. بل أنه في حقيقة الأمر كان في أكمل إستعداد، وفق شهادات هؤلاء العدول، لتأييد انقلاب الجيش”.
ولكن هذا التشويش سرعان ما يزول عندما يطَّلعُ المرءُ على سلسلة مقالات سابقة للأستاذ البطل بعنوان “دفاتر الديموقراطية البرلمانية الثالثة” يتعرَّضُ في إحداها بالنقد لممارسات المرحوم الشريف زين العابدين الهندي في تلك الفترة من حكم السودان، وهو نقدٌ صحيحٌ في مجمله، ولكنه ذهب في تفسيره أيضاً مذهباً غريباً ومريباً وذلك بإستناده على رواية شفاهية “برضو ونسة”، وحاول في سياق إثباته لذلك التفسير تمرير معلومات مغلوطة، قال الأستاذ البطل :
(أجود تحليل لشخصية الشريف زين العابدين، وأفضل تفسير وقفتُ عليه حتى الآن لسلوكه اللامبالي ومواقفه السياسية السالبة مصدره شخصية حزبية لست في حل من ذكر إسمها. من رأى هذه الشخصية أن الشريف لم يكن اتحادياً في الاساس، وأنه لم يحس قط بالانتماء لذلك الحزب واهله. وقد نُقل له ذات مرة أن الميرغني والاتحاديين غاضبون لأنه لم يُشر اليهم و يمجدهم في قصيدته الشهيرة التي أنشدها عبدالكريم الكابلي فرد الشريف: “طيب أنا أعمل ليكم شنو لو انتو ما عندكم دور وطني ).
يستطيع القارىء للحديث أعلاه الوصول لهدف الأستاذ البطل من ذكر تلك الرواية الواهية بسهولةٍ ويُسر وهو أنَّ : الإتحاديين ليس لهم دورٌ وطني، وهذا ليس قولي انا العبد الفقير لله “مصطفى البطل” إنما هذا هو قول الأمين العام لحزبهم، وبالتالي من هم أصحاب الدور الوطني ؟ هذا ما يفصح عنه البطل بالقول :
(ومعلوم أن والد الراحل الكبير كان استقلالياً، لا اتحادياً. وانه كان حليفاً للإمام عبد الرحمن المهدي. وقد أهداه الامام سراي الهندي الحالية في بري. كما أن الامام عبد الرحمن ارسل شقيقه حسين الهندي الى كلية فيكتوريا في صحبة الامام الهادي المهدي. قد ترشح حسين الهندي عن حزب الامة في دائرة الحوش عام 1953 ولم يحالفه التوفيق. والثابت أن الشريف حسين لم ينضم الى الحزب الاتحادي الا مؤخراً وفي اعقاب ثورة اكتوبر 1964. والاستنتاج الطبيعي هنا هو ان الشريف زين العابدين انخرط في الحزب الاتحادي، مع شقيقة، دون قناعة حقيقية ).
الأستاذ البطل الذي يدعو لقراءة التاريخ ورصد أحداثه بعلمية، يرتكب أخطاءاً تاريخية فادحة لا تليقُ بطالبٍ مبتدىء، وأنا أربأ به أن يكون دافعه من وراء ذلك هو الغرض، فالغرض مرض كما يقولون، فحبيبنا البطل ( وهذا تعبيرٌ مستلفٌ منه ) قال لنا أنه يُريد تأسيس قراءة التاريخ بطريقة تعتمد “الإستقامة والموضوعية طريقاً ومنهاجاً حتى تأتي صفحاته خالصة مصفاة، خالية من التخاليط والتزيدات والأهواء والريب”.
الشريف حسين الهندي – يا أستاذ البطل – لم ينتم في يوم من الأيام لحزب الأمة كما ذكرت أنت، ولم يترشح في دائرة الحوش عن حزب الأمة في إنتخابات 1953، ولكنه ترشح مستقلاً، وكان لحزب الأمة مرشحٌ في تلك الدائرة هو الناظر “قسم السيد عبد الله النور” ناظر عموم الكواهلة الذي فاز بالإنتخابات ودخل البرلمان، هذه هى السقطة الأولى التي وقع فيها الأستاذ البطل.
أمَّا الخطأ الثاني، وهو أيضاً خطأ لا يُمكن أن يقع فيه شخصٌ دارسٌ للتاريخ السياسي لبلادنا، فيتمثل في قوله أنه من “الثابت” أنَّ الشريف حسين إنضمَّ للحزب الإتحادي بعد ثورة أكتوبر1964، فمن المعروف للجميع أنَّ إنضمام الشريف حسين للحزب الإتحادي كان قبل ذلك بثمانية أعوام، أي في العام 1956، وذلك في أعقاب إنقسام حزب الشعب الديموقراطي عن الحزب الوطني الإتحادي، وقد كان لإنضمامه قصة سنرويها لاحقاً.
لا بدَّ أن القارىء الألمعي قد توصل للجهة التي يُريد الأستاذ البطل أن يقول أنها صاحبة الدور الوطني الحقيقي، ومن أجلها جازف بتمرير هذه المعلومات المغلوطة التي لا تليقُ بكاتبٍ مثله يُريد لصفحات التاريخ أن تكون خالية من التخاليط والأهواء !
من المؤكد أنَّ هذا المنهج العبثي في تناول التاريخ وتزوير أحداثه والخروج بخلاصات خطيرة لم يكن هدفهُ هو وجه الوطن والحقيقة، بل قُصد منه القول أنَّ الديموقراطية ليست مُكوناً أصيلاً من المكونات الفكرية للإتحاديين ولقيادتهم، وأنهم ليسوا إستثناءاً من الأحزاب التي إنقلبت على الديموقراطية، وهم كذلك لا يختلفون عن ذلك الحزب صاحب الدور الوطني الأكبر! الذي سلمها للعسكر لأول مّرة في تاريخ السودان الحديث.