Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

في نقد خطاب السودان الجديد (1)

ملاحظاتٌ من وحي قراءة كتاب ” حرب أيما ” للكاتبة الأمريكية دبرا سكرووجنز

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

(أعيد نشر هذا المقال والمقال الذي يليه بمناسبة تجدُّد العنف والقتال في دولة جنوب السودان الوليدة، وكنتُ قد نشرتُ المقالين قبل أربعة عشر عاماً. كان الحزب الذي أنتمي إليه – الحزب الإتحادي الديموقراطي في ذلك الوقت هو الحليف الأكبر للحركة الشعبية، وقد أثار تناولي لهذا الموضوع غضب قيادة الحزب حينها ووصلتني رسالة بطريقة غير مباشرة من رئيسه تقول : “قولوا ليهو الوقت ما مناسب لنشر الكلام ده” ).

توطئة :

” حرب أيما ” هو الإسم الذي أطلقه بعض المنتسبين للحركة الشعبية لتحرير السودان لوصف الصراع الذي نشب في العام 1991 بين أتباع جون قرنق قائد الحركة ومناصري ثلاثة من مساعديه: رياك مشار ، لام أكول و غوردون كونق . تزوج رياك مشار من عاملة الإغاثة البريطانية ” أيما ماك كون ” Emma McCune قبل شهرين فقط من إنقلابه مع بعض زملائه علي قرنق .

وعلي الرغم من أن أيما لم تلعب دوراً يُذكر في ذلك الإنقلاب أو العنف الذي تبعه الا أنَّ قرنق القى عليها باللوم في الإنشقاق الذي وقع في صفوف الحركة . لقد إستمرت حرب الفصائل التي إندلعت داخل الحركة الشعبية لعدة سنوات بعد موت أيما ، والمرجح أن أسباب الحرب التي أدت الي موت الآلاف من أهل جنوب السودان قد تراوحت بين السياسية والفلسفية والعرقية ( القبلية ) . إنَّ صراع الفصائل داخل الحركة الشعبية يعتبر واحداً من عدة صراعات ثانوية أدت الي إطالة أمد الحرب الأساسية بين الشمال والجنوب لتصبح أطول حروب القارة الافريقية “.

الكلام أعلاهُ مقتبسٌ من المقدمة التي كتبتها المؤلفة ” دبرا سكرووجنز” عن كتابها الموسوم بـ ( حرب أيما ) Emma’s War والذي يتناول صراع الفصائل داخل الحركة الشعبية من خلال تناول أشمل لقضية الحرب في جنوب السودان وتاريخ العلاقات بين الشمال والجنوب . والكاتبة صحفية أمريكية كانت تعمل مراسلة لصحيفة ” أتلانتا ” وقد قامت بتغطية الحرب في جنوب السودان منذ العام 1988م وقد إلتقت “أيما” في شتاء العام 1990م بمدينة الناصر . والكتاب في مجمله محصلة مشاهدات ومحاورات عن الحرب تتوزع بين غابات الجنوب ومدنه والخرطوم ومعسكرات اللاجئين في شرق السودان وغربه ولندن ونيروبي وأمريكا .وأيما هي عاملة الأغاثة البريطانية المولودة في الهند وصاحبة الحياة المضطربة الموزعة بين قارات آسيا وأفريقيا وأوروبا والمولعة بالأفارقة منذ أيام نشأتها بمقاطعة ” يوركشير” البريطانية والتي عّبرت دوماً عن إنجذابها للرجال السود واعتبرتهم أجمل من الرجال البيض وأعجبت دائماً بإبتسامتهم الدافئة وإيقاعات موسيقاهم وما فتئت تَردد أن الأفارقة ظلوا برغم معاناتهم ومشاكلهم يستمتعون بالحياة أكثر من الغربيين .

ساقتها الأقدار للعمل في جنوب السودان حيث إلتقت بالدكتور رياك مشار ، وأحبته وتزوجته قبل شهرين من إنشقاقه عن جون قرنق . آمنت بقضيته وأخلصت لها وأحبَّت أهله النوير الذين بادلوها الود وإعتبرت نفسها فرداً منهم رغماً عن بشرتها البيضاء فقررت الإنجاب من مشار حتي لا ينظر لها كغريبة . بذلت كل جهدها لخدمة فصيل الناصر وقدّمت رياك للإعلام الغربي ولأهلها في بريطانيا ودافعت عنه في مجتمع منظمات الإغاثة بكل ما تملك حتي توفيت في حادث سيارة بنيروبي في نوفمبر من العام 1993م .

حول خطاب السودان الجديد :-

خطاب السودان الجديد الذي تتبناهُ الحركة الشعبية يستمد قوته الأساسية من نقد السودان الحالي أو القديم بحسب رؤيتهم . ويمثل سودان اليوم – في وجهة نظرالخطاب- حقبة تاريخية طويلة من الإستعلاء الثقافي والإجتماعي والهيمنة الإقتصادية للعناصر المنحدرة من الشمال النيلي أو التي تمثل الثقافة العربية الإسلامية علي العناصر الزنجية أو الأقوام التي لم تختلط بالعرب . ويستلهم هذا الخطاب بعض المقولات الإقتصادية التي قال بها الماركسيين الجدد في توصيف التقسيم الاقتصادي الدولي ( مقولات المركز والهامش ) ويسقطها علي التحليل الثقافي لخارطة السودان مع بعض المفاهيم التاريخية المرتبطة بأوضاع قوميات السودان المختلفة والتي تؤدي في المحصلة النهائية إلي ضرورة الإنقلاب علي ذلك السودان القديم وتأسيس السودان الجديد . ويلف الغموض كثيراً من المفاهيم التي ترتبط بهذا الخطاب إذ يجنح كثيراً للتعميم والخلط وإطلاق المقولات دون ضبط علمي ويفتقرُ في كثير من جوانبه الي التناول العلمي والموضوعي لقضايا الثقافة والتاريخ والاجتماع والسياسة في السودان .

ومن أكثر جوانب الضعف فى هذا الخطاب هو عدم الإتساق “consistency” في إطلاق المقولات وإسقاط الأحكام القطعية علي ممارسات يعتبرها من المثالب وشواهد القصور في السودان القديم بينما تتم ذات الممارسات من قبل الحركة الشعبية التي تمثل نظرياً التجسيد الحي للسودان الجديد، ولا يعفي دعاة السودان الجديد أنهم حركة ثورية أو تنظيم خارج إطارالسلطة لأن ممارسة السلطة لا ترتبط بالضرورة بالحكم الكامل، وأنَّ أحد مستويات هذه الممارسة هي المناطق التي سيطرت عليها الحركة وقامت فيها مقام الحكومة ، والمستوي الثاني هو الممارسة الداخلية للسلطة ( داخل الحركة) وما يرتبط بها من قضايا المحاسبة والشفافية والديمقراطية ، وغني عن القول أن خطاب السودان الجديد قد تبناه كثيرٌ من المثقفين الشماليين وإنعكست بعض جوانبه في الإنتاج الفكرى للعديد منهم وخصوصاً ذلك الذي يتناول موضوع الهوية وما يرتبط به من قضايا تتعلق بالإستعلاء والإضطهاد والتهميش .

ينعي خطاب السودان الجديد علي السودان القديم أنه سودان عنصري يُهمِّش الآخر الذي يختلف معه ، وهذا الآخر هو الأفريقي ( الزنجي ) وبعض القوميات الأخري في شمال و شرق السودان وغربه ، ويعتبر ذلك الخطاب أن نظام الحكم القائم في السودان اليوم يعتبر بمثابة التكثيف أو المرحلة العليا والأخيرة من مراحل هيمنة العنصر العربي الإسلامي و التي بدأت في فترات تاريخية سابقة ومعالم هذا الهيمنة التي توجتها الجبهة الإسلامية بنظامها الحالي تشتمل ولا تقتصر علي التالي :-

(أ‌) إستخدام الدين كأداة للكسب السياسي ومبرر للقمع وإستمرار الهيمنة .
(ب‌) إسترقاق الجنوبيين وإرتكاب جرائم الإبادة والتطهير العرقي في إطار عملية ظلت مستمرة منذ فترة طويلة وبتواطؤ مختلف الحكومات الوطنية ( الشمالية بحسب ذلك الخطاب ) .
(ت‌) إرتباط العنصر الذي يهيمن علي السلطة بالعالم العربي وهروبه من العالم الأفريقي لعقدة نقص نفسية أدخلته في “متاهة القوم السود ذوي الثقافة البيضاء” .
(ث‌) إمتياز السيطرة علي السلطة من منطلق الوضع القبلي ( العنصري ) وليس الكفاءة والمقدرة والجدارة الشخصية .

هذه بعض مآخذ خطاب السودان الجديد علي السودان القديم وبالطبع فإن هناك مآخذ أخري ولكنني سأكتفي بهذه لأغراض المقال وللتدليل علي أن هذه المآخذ ينضحُ بها إناء الحركة الشعبية التي تطمع في أن تكون التجسيد الأكمل للبديل الجديد. وكشف نقاط الضعف في ذلك الخطاب من خلال كتاب ” حرب أيما ” لا يشي بأي نوع من التحيز الآيدولوجي فالكاتبة الأمريكية حرصت علي نقل الأحداث بأسلوب علمي أقل ما يوصف به أنه موضوعي .

في نقد خطاب السودان الجديد ( مقارنة الأقوال بالأفعال ) :-

في شهر سبتمبر من العام 1991م ظهر نبىٌّ جديد في أرض النوير يدعي ” وت نيانق ” Wut Nyang أو ” الرجل التمساح ” وقد لعب هذا النبي دوراً كبيراً في حشد النوير وتوحيد صفوفهم في مواجهة الدينكا ، وتصف الكاتبة الطريقة التي تمت بها التعبئة بالتالي :

( وبعد ذلك قامت قوات مشار بهجوم مضاد يقوده النبي ” وت نيانق ” ومقاتلو الأنانيا(2) وجنود الحركة الشعبية من فصيل الناصر إضافة لرجال الميليشا من قري النوير ، وأستخدم مشار كل الرموز” الدينية” عند النوير لحشد الناس إلي جانبه ، وقد أقسم النبي التمساح علي أن أي رجل يتخلف عن الإنضمام للجيش سيموت من المرض أو ستأكله التماسيح ).

إنها نبوءة نبي النوير ” للمنافقين ” بحسب التعبير الإسلامي !

قرأتُ هذه السطور وجالت بخاطري صور حشود شباب الجبهة الإسلامية وهم يستمعون في نشوة لرؤي أنبيائهم الكذبة عن القرود تهبط من الأشجار لتزيل الألغام وعن روائح العطر تفوح في القبور والسحاب يُظلل مسير الجنود ثم وعيدهم لنا نحن المتخلفون عن الخروج للقتال بالخسران المبين ، ثم تخيلتُ أنبياء الدينكا علي الجانب الآخر يدعون في أهلهم : من لم يخرج لقتال” كفار النوير” ستبور تجارته ويصبح من النادمين . إنه ذات السودان القديم في نسخته الجنوبية !

ويستمر توظيف الدين للغرض السياسي في النبوءة التي قال بها نبيٌ آخر من أنبياء النوير هو ” نقونق دينق ” Ngung Deng :

( يقول النوير أن نقونق دينق قد قال في نبوءة له أنه سيظهر رجل يقود النوير ومن دلائله أنّ ليس له علامات النوير المعروفة علي جبينه ويستخدم يده اليسري ، ثم إنه يأتي من جهة الغرب ، وقد إنطبقت كل هذه المواصفات علي رياك مشار الذي يستخدم يده اليسرى وليس علي جبينه علامات النوير المميزة ثم أنه جاء من غرب أعالي النيل ، وقد بدأ الناس يرددون أنه المخلّص الذي تنبأ به النبي نقونق دينق ! ).

إنَّ هذا السودان أقدم بكثير من سودان الجبهة الاسلامية!

وعند الحديث عن الصراع الذي نشب بين النوير والدينكا تتعرض الكاتبة لوصف ما عرف حينئذٍ” بمذبحة بور” التي قامت بها قوات مشار ضد الدينكا فتقول :

( لقد تم تعريفها بمذبحة بور ولكنها في الحقيقة أكثر من ذلك ، إنها سلسلة من الهجمات والمذابح ، لقد قدّرت منظمة العفو الدولية أن أكثر من ألفي شخص قد ماتوا خلال أسبوعين من القتل المتواصل ، لقد استولي النوير علي آلاف من قطعان الماشية من الدينكا قبل أن يهرب أكثر من مائة الف منهم في وجه زحف النوير ، ثم قررت الأمم المتحدة إخلاء المنطقة وكلّفت أحد موظفيها بالذهاب لتغطية المشهد وقد جاء في وصفه : في كل مكان حولك تري جثث البشر ، والأبقار والأجساد المشنوقة تتدلي من الأشجار ، لقد أجبرنا علي قيادة السيارة خارج الطرق حتي نتفادي الجثث ، هذه جثث ثلاثة من الأطفال ملتصقين ببعضهم بعد أن ذبحوا وتلك جثة إمراة أٌنتزعت أحشاءها. لقد فعل النوير كل ما يريدونه : إغتصبوا النساء وخطفوهم ).

ولم تقتصر المعركة علي النوير والدينكا داخل السودان بل إمتدت للخارج فهاهو طالب من جنوب السودان يدرس بالقاهرة يتذكر ما جري بمدرسته : ” عندما سمع طلاب الدينكا والنوير بالمدرسة عن مذبحة بور هاجموا بعضهم البعض في حجرة الطعام مستخدمين السكاكين ” ، وكذلك عندما طارت أخبار المذبحة إلي معسكر اللاجئين في كاكوما بكينيا إندلع القتال في كل مكان حتي أضطرت الأمم المتحدة لفصل النوير عن الدينكا وقد قال أحد موظفي الأمم المتحدة ” حتي الأطفال حاولوا قتل بعضهم البعض “.

طالعتُ هذه الصفحات من كتاب ” حرب أيما ” وتذكرت خطاب السودان الجديد والمدافعين عنه في الشمال والجنوب وعجبت لكيف يتوقعون أن تنتقل بنا حركة تستند إلي القبيلة والتي هي تشكيلة إجتماعية متخلفة عن الطائفة والحزب السياسي الي سودان جديد ينعم بالحرية والديمقراطية ؟ .

إنَّ هذا الخطاب يُخالف سنن التطور في المجتمعات ويتبني دعوات متقدمة بوسائل متخلفة، ثم عرَّجت علي خطاب الحركة الشعبية ومن لف لفهّا حول الإسترقاق والمذابح والتطهير العرقي الذي تقوم به حكومة الجبهة وكيف أن ذات الممارسة التى تسمي رقاً “slavery ” عندما تمارسها قبائل عربية يطلق عليها إختطافاً “abduction ” عندما تقوم بين قبائل جنوبية ، وفي هذا الشأن قرأتُ قولاً صائباً للدكتور عبد الله علي إبراهيم حول إتفاقية أونليت بين قادة المجتمع المدني والكنيسة للصلح بين النوير والدينكا في فبراير/ مارس 1999م :

( تعرضت الإتفاقية لأوضاع المختطفين من الجانبين بوضوح كبير فقد قرر أهل
الصلح إعادة البنات المختطفات ممن لم يتزوجن بخاطفيهن الي أهلهم ، وقررت كذلك عودة الصبيان والرجال المحتجزين إلي أهلهم ، ونشأت بموجب الإتفاقية فرق للتعرف علي المختطفين تفتش مناطق النويروالدينكا لحصرهم . وحالف الإتفاقية توفيق كبير حيث أعلن مجلس الكنائس السوداني أنها نجحت في إعادة 148 مختطفاً من النويرو الدينكا ، وقد لاحظت أن الاتفاقية لا تسمي المحتجزين من النوير أو الدينكا ” أرقاء ” بل تطلق عليهم لفظة” مختطفين” في حين لا تقبل المعارضة الشمالية هذه اللفظة إذا أطلقت علي من يحتجزهم العرب من الجنوبيين فكيف يكون إختطاف العربي للجنوبي رقاً ( يرجعون بروافده الي نصوص الإسلام ) في حين يكون إحتجاز الدينكاوي للنويراوي إختطافاً ؟، هذا لعب علي ذقون المصطلح وطريق معبد الي الجهل وفساد المنطق ).

ثم تسير الكاتبة خطوة الي الأمام في تبيان السبب الذي أدى إلي نشوب الصراع بين النوير والدينكا ، وتورد شهادة السيد” صمويل توت بول” المدرّس النويراوي الذي قال :

( عندما جاءت الحركة الشعبية إلي أرض النوير بدأت في وضع الدينكا فوق النوير ، وقد رأي النوير في ذلك غزواً لأرضهم ، فعلي الرغم من أنهم أعطوا الحركة الشعبية كل ما يملكونه من محصول وماشية فقد عمل الدينكا علي إغتصاب بناتهم وإجبار إبناءهم علي التجنيد للقتال بالقوة ).

إنه إستعلاء الدينكا إذاً وإمتيازهم علي بقية القبائل بسبب الكثرة والغلبة وهي الحقيقة التي يحاول دعاة السودان الجديد الإلتفاف حولها بصبغ الحركة الشعبية بالصبغة القومية برغم الشواهد الماثلة في أرض الواقع .

لقد زعم الدكتور الباقر العفيف في ورقته الموسومة بـ( أزمة الهوية في شمال السودان : متاهة قوم سود ذوي ثقافة بيضاء ) أنّ الشماليين يعانون من أزمة حقيقية تتجلي في كون لون بشرتهم سوداء بينما ثقافتهم بيضاء تتمثل العرب ولونهم ، ومن ضمن الأدلة التي ساقها لإثبات فرضيته تلك قوله أن الشماليين الذين سافروا الي أوروبا فضَّلوا الزواج بالأوربيات بدلاً عن بنات جلدتهم لعُقدتهِم تجاه اللون الابيض ، وفي ظني أن الدكتور قد جانبه الصواب في هذا الخصوص إذ أن التفسير الأقرب لهذه الظاهرة علي قلتها هو أن الرُّواد الأوائل من المتعلمين الذين سافروا للغرب طمحوا في الزواج من نساء لهنَّ ذات المستوي التعليمي والثقافي ويمتلكن القدرة علي مجاراتهم في إهتماماتهم ومشاغلهم ولم يكن ذلك حال معظم نساء السودان في ذلك الوقت ، ذلك ما فعله المرحوم البروفسير عبد الله الطيب والمرحوم الدكتور أحمد الطيب وهما من أوائل السودانيين الذين ذهبوا للدراسة بالغرب ومهما يكن من أمر فإن هذه ظاهرة ” نادرة ” لا يجوز تعميمها علي كل السودان الشمالي وإتخاذها دليلاً علي أن إنسان الشمال يعيش في أزمة ومتاهة . ذلك في تقديري حديث بائر وحجة واهية . وما بال العفيف لا يذكر ولع أعداد كبيرة من الجنوبيين ومن العناصر الزنجية الأخري في السودان بالزواج من البيضان ؟ وهل هم كذلك يعانون أزمة هوية أم لا ؟

علي أنَّ كتاب ” حرب أيما ” يعرض لقصة الدكتور مشار الذي تزوج من عاملة الإغاثة مخالفاً تقاليد قبيلته ثم تزوج مرة أخري من إمراة أمريكية بعد وفاة زوجته أيما وكلاهن من صاحبات البشرة البيضاء بل ذهب في ذلك مذهباً يتوسل بالأسطورة والدين حتي يتقرب من بنت الفرنجة ، وفي ذلك تقول الكاتبة :

( سأل مشار أيما : هل تعرفين شيئاً عن النبي نقونق دينق وتقاليد النوير في النبوءات ؟ فاجابته بأنها تعرف القليل . فقال لها هل نما الى علمك أن هنالك نبوءة تقول أنه سياتي يوم يتزوج فيه زعيم نويراوي لا يحمل علامات النوير علي جبينه ويستخدم يده اليسري من إمرأة بيضاء ؟ فأجابته إنها لا تعلم شيئاً عن تلك النبوءة ، فأمسك يدها بيده اليسري وقال لها أنا ذلك الرجل فهل تقبلين أن تكونين تلك المرأة ؟ فقالت له سأفكر في هذا الأمر).

ليس ذلك فحسب بل أن جيش النوير الذي حارب الدينكا أطلق علي نفسه تسمية ” فيش مابور ” Fiech Mabor أو الجيش الابيض ، وفي ذلك تقول الكاتبة :

( وجيش النوير تحت قيادة النبي ” وت نيانق ” غطّوا أجسادهم بالرماد الأبيض وربطوا ملاءات بيضاء علي كتوفهم علي أمل أن تحميهم من الرصاص ، ثم أطلقوا علي أنفسهم إسم الجيش الأبيض وبما يتوافق مع بياض الحراب التي يحملونها ).

فها نحن أمام شعب يعشق اللون الأبيض للدرجة التي رفعته علي كل الألوان في ما توحي به الرموز الحربية : الرماد ، الملاءات ، الحراب ولم ينهض أحد دعاة السودان الجديد ليرميهم بتهمة الخروج من جلودهم السوداء ، ولست عليماً بدلالة اللون الأبيض في ثقافة النوير ولكنني قطعاً لن أزعم أنهم يعانون أزمة او محنة .

ثم ندلف لنقطة أخري من النقاط التي يثيرها خطاب السودان الجديد ويضعها في قائمة مآخذه علي السودان القديم وهي التواطؤ مع أبناء الجلدة في سبيل السيطرة علي السلطة وحرمان الآخرين منها فها هو الكتاب يصف الأو ضاع في الإستوائية بالقول :

( إنّ سيطرة الحركة الشعبية علي الإستوائية قد جعلت من كول مانيانق Kuol Manyang الحاكم المطلق للمنطقة ، وفي الحقيقة أن الرجل الوحيد الذي كان يحق له مراجعة قرارت كول هو جون قرنق ( قريبه ) وذلك لأن قرنق كان يسيطر بالكامل علي الجهات التي تمد الحركة بالأموال وبالتالي كان في إستطاعته قطع الإمدادات والأسلحة عن كول ).

المُلا كول هذا (علي وزن المُلا عمر) من أبناء الدينكا تويك “Twic Dinka ” وتخرج في جامعة الخرطوم ، كان طاغية زمانه وقد لقبه المراسلون الصحفيون “بجزار الإستوائية” ويقال أنه هو ملهم أحدي الأهازيج العسكرية التي تُدَّرس للمجندين ليتغنوا بها عند تخرجهم من التدريب العسكري ، وتبدأ تلك الأهزوجة بالمطلع التالي :” حتي أمك أطلق عليها رصاصة” ، أما أكبر جرائمه فقد كانت الإشراف علي معسكرات تدريب الاطفال القُصَّر المختطفين من ذويهم ، وتشرح الكاتبة كيف أنه في مارس من العالم 1990م وبينما أيما ومعها بعض موظفي الإغاثة يمرون بالقرب من حطام مباني إرسالية كاثوليكية إيطالية تسمي بلتاكا (Paltaka ) علي بعد ثلاثين ميلاً جنوب شرق كبويتا ولدهشتهم وفزعهم وجدوا أكثر من أربعة ألف طفل بين سن العاشرة والحادية عشر بعيشون في ذلك المكان المهجور والذي إتضح فيما بعد أنه ” أحد معسكرات الحركة الشعبية السرية لتجنيد وتدريب الأطفال” .

ما بال دعاة السودان الجديد يغُضون الطرف عن هذه الممارسات ولا يُساءلون الحركة الشعبية عنها ؟ وقد يُسارع البعض مِمَّن أدمن إيجاد الأعذار للحركة الشعبية للقول بأنها كانت في حالة حرب ، إذاً لماذا ثار أهل السودان – ونحن منهم – علي حكومة الجبهة عندما كانت تمارس ذات الممارسة بمطاردة الشباب والقبض عليهم في كشات التجنيد الإجباري بدعوى أنها في حالة حرب ؟ ولماذا ذرف دعاة السودان الجديد من أهل الشمال الدموع وتسابقوا نحو منظمات حقوق الأنسان يشتكون جور الحكومة وظلمها عندما وقع حادث العيلفون الذي راح ضحيته عشرات المجندين غرقاً ؟

ولا تقف تناقضات أهل السودان الجديد عند ذلك الحد بل تدهشنا ببعض غرائبها التي ما فتئت تستنكرها علي أهل السودان القديم بزعمهم ، ومنها تبشيرنا بأن هذا السودان الجديد سيسع الجميع وفق معايير الكفاءة والجدارة الشخصية بعيداً عن توازنات القبيلة أو الطائفة أو الجهة فأنظر قول الكتاب في هذه القصة :

( في يوليو من العام 1992م عقدت الحكومة وفصيلي الحركة الشعبية جولة من مفاوضات السلام في مدينة أبوجا النيجرية وعلي الرغم من أن الجولة لم تحقق تقدماً يذكر إلا أن رئيس أركان قرنق وقائد وفده للمفاوضات وليم نون ( نويراوي) قام بخطوة مفاجئة لتوحيد وفدي الحركة بغرضِ الدخول لطاولة المفاوضات بوفد واحد ، وقد لعب لام أكول دوراً أساسياً في إقناع ” نون ” بإتخاذ هذه الخطوة . ولكن أحد الكتاب الجنوبيين ( يدعي نيابا ) كتب يقول : إنّ لام أكول إستغل ضعف وليم نون أمام المال والحوافز المادية . أما جون قرنق فقد إستنكر خطوة رئيس أركانه وصرّح لصحيفة Focus on Africa بأن وليم نون رجل أٌميّ illiterate متزوج من خمسة عشر إمرأة وقد حدثت له ربكة من جراء تعقيدات العالم الخارجي الذي لم يتعود عليه ).

إنها فضيحة كاملة لأهل السودان الجديد وللمدافعين عنه ، تري هل إكتشف الدكتور قرنق فجأة أنَّ رئيس أركانه شخصٌ أّميٌّ لا يقرأ ولا يكتب ؟ وكيف إرتقي هذا الأميُّ لهذه المرتبة الرفيعة في الحركة ؟ هل هي التوازنات القبلية ؟ وهل ثقافة الرشوةِ هذه تختلف كثيراً عما يُمارسُ الآن في سودان الجبهة ؟ وكيف تسنى لرجلٍ مثل وليم نون لا يعرف شيئاً عن العالم خارج الغابات التي يعيش فيها أن يُفاوض من أجلِ إيقاف الحرب التي روَّعت الملايين ؟

خــــــــــاتمة :

وأنا أتأهبُ لنشر هذا المقال علمتُ أنَّ نجمة هوليوود الأسترالية الأصل ” نيكول كيدمان ” قد قررت القيام بدور أيما في الفيلم الذي سيستند علي قصة هذا الكتاب ، أرجو أن يعكس الفيلم الصورة الحقيقية عن تلك الحقبة من تاريخ الحرب في جنوب السودان ، كما يحدوني الأمل في أن يعيد أصحاب دعوة السودان الجديد النظر في تماسك خطابهم وأن يهِّونوا علي أنفسهم ويهبطوا من سماء التجريد النظري إلي أرض الواقع خصوصاً وأن السودان مُقبلٌ على مرحلة جديدة من تاريخه ستكون الحركة الشعبية فيها تنظيماً حاكماً يمسك بزمام السلطة ، والسلطة علي مستوى الدولة ستكشف حقيقة هذا الخطاب وتلك الدعوة .

الهوامش :

(*) كل الإقتباسات الموضوعة بين أقواس من كتاب :
” Emma’s War” Deborah Scroggins
Bantheon Books، New York، 2002

ويمكن الرجوع دون ترتيب لهذه الصفحات
192،150،256،146،228،297،190،262،263،262،199

(*) الإقتباس من كتاب الدكتور عبد الله علي إبراهيم :
الرق في السودان : نحو أنثروبولوجيا الخبر : صفحة 75/74
الشركة العالمية للطباعة والنشر ، الخرطوم 2003

(*) ورقة الدكتور الباقر العفيف بذات العنوان / ترجمة الخاتم عدلان .

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *