إنهُ الفشل بعينهِ يا دكتور حسن مكي ؟
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
ظللتُ على الدوام أطالبُ رموز الأخوان المسلمين الذين كانوا جزءاً من إنقلاب الإنقاذ ثم خرجوا على النظام الحاكم بأن يقوموا بنقد الأفكار التي تسببت في الكوارث الكبيرة التي منيت بها بلادنا جرَّاء الإستبداد الطويل وألا يكتفوا فقط بنقد الممارسات التي أفرزتها التجربة ذلك لأنَّ الفشل كان في الأساس وليد التصورات العقلية البائسة التي إنبنى عليها الحكم المستمر منذ أكثر من ربع قرن من الزمان.
وكانت فئة “المفكرين” هى أكثر الفئات التي طالبتها بممارسة ذلك النقد لأنَّ شغلهم الأساسي هو إنتاج الأفكار، ومن بين هؤلاء الدكتور حسن مكي الأستاذ الجامعي الذي يُوصف “بالمحلل الإستراتيجي” و”المفكر الإسلامي”، والذي أصبح في الآونة الأخيرة من أكثر الناقدين لتجربة الحكم وإفرازاتها السالبة.
في حواره الأخير مع صحيفة “الصيحة” بدا حسن مكي أكثر جرأة وشجاعة في تناول “المسكوت عنه” من جوانب الخلل الجوهرية في فكر الأخوان المسلمين، وقال في إطار تعليقه على إجتهادات حركة النهضة التونسية أنَّ ( الدولة القومية الحديثة تقوم على فكرة الحدود الترابية وفكرة المواطنة بينما الدولة الإسلامية تقوم على فكرة جنسية المسلم هي عقيدته هذا غير موجود الآن والذي يحكم هي جغرافية المواطنة ).
وكذلك إنتقد “هوجة” الأسلمة التي جاءت بها الإنقاذ دون أن تراعي التعدد الثقافي والديني والعرقي في السودان وقال ( ناسنا قفزوا على فقه المواطنة والدولة، إفتكروا أنهم أنداد لأمريكا ومعهم في ذلك السلفية الجهادية وبن لادن وكلنا شركاء في ارتكابنا أكثر من جريمة لأننا أخطأنا التقدير وأنا الذي اتحدث معك شريك في خطأ).
كذلك إنتقد ما أسماهُ بفقه “الطابور” والذي هو وليد فكرة “الطاعة المطلقة” و”الإذعان للقيادة” التي نادى بها المرشد المؤسس حسن البنا، وقال ( أكبر الأخطاء وأنا جزء منها أننا إعتمدنا فقه الطابور، وافتكرنا طابورالدفاع الشعبي والجيش ممكن به يتغمض الشعب، وكنا نجهل حقيقة أن الشعب بإبداعاته وتجليات ثقافاته وفروقاته لا يمكن أن يتغمض على فقه الطابور والدفاع الشعبي ).
وكل ذلك جيِّد ويُمثل إنتقالاً صحيحاً ومطلوباً لخانة نقد “الأفكار” ولكن يبدو أنه ما زال في نفس الدكتور “شىء من حتى” وتنازعٌ داخلي يمنعهُ من كسر قيود الماضي والإنطلاق في آفاق رحبة جديدة، فعندما سُئل : هل تحررت من أفكار الماضي ؟ أجاب بالقول : ( أنت لا تستطيع أن تتحرر من أفكارك وضميرك، لكنا أصبحنا قادرين على الرؤية ).
هذا حديثٌ يعكس التردد وعدم القدرة على “التحرر” من القديم حتى ولو كان بالياً، وهو أمرٌ لا يليق بالمفكرين الذين هم أصلاً لا يأبهون بشىء سوى “قناعاتهم” التي تقودهم حيثما شاءت، ويصدحون بآرائهم ولو ساقتهم للموت، فصاحب “الضمير” الحى والصادق لا يستسلم “للخطأ” لمجرَّد أنه أنفق ردحاً طويلاً من عُمرهِ يُدافعُ عنه، ولكنهُ ينتقل لخانة “الصواب” ولو كلفه ذلك إنقطاع حبال الوصل مع محيطه كله.
والدليل على أن الدكتور مكي لم يزل متردداً في قناعاته ومشدوداً “لأخوته” هو إجابته على السؤال حول فشل تجربة حكم الإنقاذ حيث قال (لا أعتقد أن الإسلاميين في السودان فشلوا، لكن قطع شك ليست هناك نجاحات).
تُرى ما هو تعريف الفشل عند الدكتور حسن مكي ؟ وماذا يُسمي حصاد سبعةٍ وعشرين عاماً من حكم الإنقاذ؟
أليس الفشل هو إنفصال ثلث الأرض والشعب بسبب الشعارات والأوهام الأممية البائدة عن عودة الخلافة ووراثة حكم العالم وتوريط البلد في إتفاق سلام “بائس” لم تجن من ورائه سوى إستمرار الحرب والموت ؟
أليس الفشل هو صناعة القتل والدمار في دارفور بسبب خلافات “الأخوة الأعداء”، وخروج جيل كامل من الأطفال من معسكرات النزوح، وتواجد أكثر من عشرين ألف جندي أجنبي على تراب الوطن “عشرة أضعاف جنود المستعمر البريطاني” ؟ أليس الفشل هو إحتلال “الفشقة” و “حلايب” وبيع الأرض في صفقات “سرية” لا يحق لأية طرف ثالث الإطلاع عليها سوى الحكومة والدول الأجنبية المستفيدة ؟
أليس الفشل هو تدمير أكبر مشروع زراعى في البلاد، وتحطيم الخدمية المدنية، والسكة حديد، وبيع ممتلكات الدولة لأتباع النظام و ضياع حقوق الشعب في مؤسساته وشركاته العامة (سودانير، سودان لاين) وغيرها ؟ أليس الفشل هو تشجيع الفساد عبر فقه “السترة” و “التحلل” وسياسة “التمكين” البغيضة ؟
أليس الفشل هو التدهور الأخلاقي المُريع و إنتشار المخدرات والتزايد المخيف في أعداد الأطفال مجهولي الوالدين و النفاق و الرشوة والمحسوبية التي نخرت عظام المجتمع، وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماَ وعويلاَ ؟
أليس الفشل هو هروب الآلاف بل الملايين خارج البلاد بحثاَ عن المأوى والعيش الكريم حتى ولو كان ذلك في دولة الكيان الصهيوني أو عبر قوارب الموت في هجرة محفوفة بالمخاطر عبر البحار والمحيطات ؟ إذا لم يكن هذا هو الفشل فماذا يكون يا دكتور حسن ؟
وعندما سُئل الدكتور حسن في ذات الحوار : بصراحة هل أنت نادم على مشاركتك في التخطيط والمشاركة في الإنقاذ وتعتذر لأهل السودان ؟ أجاب قائلاً ( لست نادماَ لكني أحس بأنني إرتكبت أخطاء في التقدير كبيرة والذي أوقعنا فيها حبنا للثقافة الإسلامية والتركيبة الأيدولوجية ).
يستغربُ المرء لهذه الإجابة الماكرة فالدكتور الذي شارك في الكثير من المآسي التي أصابت الوطن لا يشعر بالندم والذي هو السبيل الوحيد لغسيل النفس وتنقيتها ولولاه لما شعر الإنسان بخطئه ومات ضميره، فأىُّ حبٍّ للثقافة الإسلامية و للآيدلوجيا هذا الذي لا يثمر سوى الموت والخراب والدموع والدماء ثم لا يشعر صاحبه بالندم ؟
ولكن هذا الإستغراب حتماً سيزول إذا ما عرفنا أن ذلك هو نتاج الغرس الطبيعي للآيدلوجيا “الإستعلائية” التي يُحقن بها كادر الأخوان المسلمين منذ إنضمامه للجماعة، وهو ما يُفسر تمنُّع الذين يدعون أنهم إكتشفوا أخطاء الممارسة عن الإعتذار للشعب حيث أن الندم هو المقدمة الأولى الصحيحة للإعتذار بعد إدراك الخطأ.
قد إستعصى على جميع الذين خرجوا على “الإنقاذ” أن يقدموا إعتذاراً للشعب وفي مقدمتهم المرحوم الدكتور الترابي الذي بحسب كلمات حسن مكي في الحوار ( وحتى الترابي في عام (99) انسحب وقال نتوب إلى الله لأنه أحس أنه قد إرتكب جريمة كبيرة، واستعمل مصطلح التوبة ).
إنَّ “التوبة” إلى الله تعالى وطلب المغفرة منه أمرٌ مطلوبٌ في كل الأوقات ولكنه أمرٌ يخصُّ العلاقة الفردية للتائب وطالب العفو مع المولى عزَّ وجل، أمَّا الجانب الذي يجب أن يعتذر عنه الشخص فهو موضوع مرتبط بأخطاء مباشرة في حق الناس ذلك لأنَّ الإعتذار في أصله تعبير عن الشعور بالندم أو الذنب على فعلٍ أو قولٍ تسبَّب فى ألمٍ أو إساءةٍ لشخصٍ أو جماعةٍ أخرى وذلك بطلب العفو من الذى تأذى بذلك.
إنَّ الذي تأذَّى من الإنقلاب الإنقاذي وما ترتب عليه من مآسٍ ومصائب يدفعُ ثمنها يومياً الملايين من البشر ليس هو الله ( تعالى عن كل شىء) ولكنه الشعب السوداني، وبالتالي فإنَّ المطلوب هو الإعتذار للشعب وأمَّا توبة الترابي وغيره من أهل الحكم فهي شأنٌ فردي يخصه ونسأل الله أن يستجيب له.
الإعتذار ليس قيمة غير ذات جدوى ولكنه ضرورة، ومطلب أساسي للتعافي، وإعتذار السياسي على وجه الخصوص أمرٌ في غاية الأهميَّة لأنه يرتبط بالمصلحة العامة والشأن الوطني، و هو الأمر الذي من شأنه أن يجعل السياسي يُفكر مرتين قبل أن يُقدم على أي تصرف قد يجر بلاده إلى فتن و نزاعات لا تحمد عقباها.
إنَّ المثقف الجاد الباحث عن الحقيقة لا يتوانى عن تغيير إتجاهاته وقناعاته الفكرية إذا ثبت له عدم جدواها، ومن الصعب جداَ إطلاق تلك الصفة على المترددين الذين يتوجهون بعينٍ للمستقبل بينما هم يرنون بالأخرى للماضي البائس الذي يدَّعون أنهم قد تخلوا عنه.