هيئة عُلماء السُّلطان
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
عنوان هذا المقال لا يرمي للتهكم من “هيئة علماء السودان” ولكنه مُجرَّد “توصيف” للوظيفة التاريخية التي ظلت تقوم بها المؤسسة الفقهية الرسمية والمتمثلة في إضفاء الصبغة الشرعية على الأمر الواقع والدفاع عن “السلطان” في كل الأوقات والمواقف عن طريق تطويع “النصوص” حتى تتفق مع طبيعة السلطة الحاكمة.
ما دفعني لتسطير هذا المقال هو تصريحٌ للأمين العام لهيئة علماء السودان “إبراهيم الكاروري” أوردته صحيفة “الجريدة” أفتى فيه ( بعدم جواز الخروج على الحاكم حتى لو كان ظالماً ) وقال ( إن حق الاحتجاج مشروع، ولكن أحياناً يتم استغلاله للتدمير ونحن نرفض الاحتجاج الذي يؤدي إلى فساد).
هذا الحديث لا يخرج من إطار الوظيفة التاريخية لمؤسسة الفقه المُعبرة عن تيار “أهل السنة والجماعة”، وهى المؤسسة التي إنبنت أفكارها على عقيدتي “الجبر” و” الإرجاء” وهى العقائد التي وضع عمادها الأول مؤسس دولة بني أميَّة “معاوية بن أبي سفيان” عبر ترسيخ مفهوم “القضاء والقدر” وثبَّت ركنها الثاني الخليفة “مروان بن الحكم” عبر إرساء مفهوم “الطاعة”.
تذهبُ عقيدة الجبر إلى أنَّ جميع ما يقعُ من أفعال إنما هو بقَدَرِ الله تعالى، و أنَّ الإنسان كالريشة في مهبِّ الرِّيح، لا فعل له على الحقيقة إلاَّ الإستسلام لذلك القدر، وأنَّ الملوك الظلمة هم عقابٌ من الله وإنما ظلمهم وبطشهم ما هو إلا شيء خارج عن إرادتهم.
ويرتبطُ الإرجاء إرتباطاُ وثيقاً بالجبر، فهو يُفيدُ بأنَّ الخلفاء والأمراء مهما استحلوا من المُحرًّمات وفعلوا من الموبقات وارتكبوا من الإنحرافات فإنهم لا يخرُجون من دائرة الإسلام ما داموا يُقرُّون بالشهادتين، وأنَّ حسابهم والحُكم عليهم يجبُ أن “يُرجأ” إلى يوم القيامة.
رسخت هذه العقائد في عقول الناس، وشكلت قيمهم “الأخلاقية” طوال ثمانيةٍ وثمانين عاماً هى عُمر الدولة الأمويَّة، ومن ثمَّ إلتقطها خلفاء بني العباس، وأضافوا إليها بعداً أعمق من القداسة الدينية، فما أن إعتلى “أبو جعغر المنصور” كرسي السُّلطة حتى خاطب الناس بالقول :
( إنما أنا سُلطانُ الله في أرضهٍ أسوسُكم بتوفيقهِ وتسديدهِ وتأييدهِ وحارسهُ على مالٍ أعملُ فيه بمشيئتهِ وإرادتهِ وأعطي بإذنه وجعلني قِفلاً إنْ شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم و قسمة أرزاقكم وإنْ شاء أن يقفلني أقفلني ).
أحدث إقحام الشأن المُقدَّس في أمور الدنيا للدرجة التي أضحى فيها الخليفة يُمثل “سلطان الله” في الأرض إلى جانب شيوع الجبر والإرجاء تحولات عميقة في “الأخلاق” بحيث إستقرَّت “الطاعة” كقيمة حاسمة و مُحددِّة لعلاقة الحاكم بالمحكوم، كما أضحت “مُحاسبة” الخلفاء أمراً متروكاً “ليوم القيامة” وأكتفى “رجال الدين” من الفقهاء “بالمناصحة” كحدٍ أعلى في مُجابهة إنحرافات السلاطين والأمراء والخلفاء.
بالطبع لم يعدم أصحاب هذه المدرسة دليلاً من القرآن والسنة يدعمون به رأيهم الفقهي فهم يستخدمون الآية ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُم فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) لتبرير موقفهم من ضرورة طاعة السلطان.
ومن أدلة السنة يستخدمون العديد من الأحاديث من بينها الحديث الذي رواه مسلم عن حذيفة الذي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع.
هؤلاء الفقهاء أثبتوا الخلافة لمن ينالها “بالوراثة والقوة والغصب” حتى ولو كان “فاجراً وفاسقاً” وأفتوا بحُرمة الخروج عليه “شرعاَ” إلا إذا صدر منه كفرٌ بواح خوفاً من وقوع “الفتنة”، ومن نافلة القول أن ظلم الرَّعية ومُصادرة حقوقها واضطهادها لا يدخل في دائرة الكفر البواح الذي يقصدونه.
هذا التقليد البائس هو الذي أعطى التبرير الديني و خلق الأرضية الشرعية التي تأسس عليها “الإستبداد” الطويل في العالم الإسلامي، وهو الذي وأد بذرة “الديموقراطية” و جعل “المثقف” ينحازُ إلى جانب “السلطان” على حساب “الشعب” صاحب الكلمة العليا.
أنظر – يا رعاك الله – للرَجُل الذي مُنح لقب “حُجَّة الإسلام” وقال عنه البعض أنه أكبر “مثقف” أنجبته الحضارة الإسلامية : أبو حامد الغزالي، أنظر إليه وهو يتحدث في كتابه “فضائح الباطنية” عن موضوع الطاعة حيث يقول :
( إنَّ الطاعة المشروطة في حق الخلق لقيام شوكة الإمام لا تزيد على الطاعة المشروطة على الإرقاء والعبيد في حق ساداتهم، ولا على الطاعة المفروضة على المكلفين لله ورسوله … وما من شخص يقدر مخالفته في أمر من الأمور إلا وهو بعينه إذا انتهى إلى العتبة الشريفة صفع الأرض خاضعاً وعفَّر خدَّه في التراب متواضعاً ووقف وقوف أذل العبيد على بابه وانتهض مائلاَ على رجليه عند سماع خطابه ).
“العتبة الشريفة” المقصودة في المُقتطف أعلاه هو الخليفة العباسي أحمد المستظهر بالله، هل هناك تزلف أكثر من هذا ؟ وهل من المستغرب بعد ذلك أن لا نرى في بيانات “هيئة علماء السودان” بزعمهم أية نقد جاد للحكومة ولممارساتها ؟ فهم ليسوا سوى ورثة تقليد الوقوف أمام السلطان “وقوف أذل العبيد” !
الغريب في أمر الكاروري ورفاقه في الهيئة الذين يحرمون الخروج على الحاكم أنَّ الله لم يفتح عليهم بكلمة واحدة في أمر الإنقلاب العسكري الذي نفذته “الجبهة القومية الإسلامية” في يونيو 1989 والذي جاء بحكومة الإنقاذ، ألم يكن ذلك الإنقلاب خروجاً مسلحاً على الحاكم الشرعي ؟ ألم يكن هو السبب وراء الأوضاع المأساوية التي آلت إليها البلاد في الوقت الراهن ؟
غير أنَّ أكثر ما يُثير الدهشة في حديث الكاروري هو رده على سؤال حول كيفية تحقيق التغيير السلمي مع تمسك الحاكم الظالم بالبقاء بقوة السلاح ؟ حيث قال (هذه الأمة هي التي تخرج حكامها، ويخرج الوزراء من بيوتنا والخلل فينا نحن الأمة التي تخرج مثل هؤلاء، والأمة التي لا تستطيع أن تخرج حكاماً تعاق حضارياً ).
هذه الإجابة المُضللة تهدف لتكريس و إستمرار فساد السُّلطة وإلقاء اللوم على الضحيَّة، وهو في هذه الحالة “الأمة” كما يقول الكاروري أو “الشعب” كما نسميه نحن، فالغرض منه أن يُثبِّت في نفوس الناس وعقولهم أنَّ أحوال الحكم لن تنصلح أبداً لأنَّ “الخلل” ليس في الحكام وإنما فيهم هم، فهؤلاء الحكام ليسوا سوى “أداة” لتنفيذ العقاب “الإلهي” على الشعب وليس هناك من سبيل سوى القبول و التسليم بها لأنها تعكس إرادة السماء.
هذا النوع من الخطاب يهدف لإيصال رسالة للناس تقول : لا فائدة من محاربة الظلم والإستبداد و الفساد، عليكم أن تقتنعوا بالموجود وتستسلموا له لأنه لو ذهب هؤلاء القتلة و الفاسدون فسيحل محلهم مجرمون ومفسدون آخرون ذلك لأنَّ العلة الأساسية موجودة في الشعب وليست في الحكام.
العلة الأساسية في رأينا تكمن في طبيعة النظام “الإستبدادي” وليس الشعب كما إدَّعي الكاروري ظلماً، ذلك لأنَّ السُّلطة في أصلها مفسدة و”السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” وقد تعلمت الإنسانية في مسيرتها الطويلة أنَّه لا بدَّ من “تقييد” هذه السُّلطة وممارسة “الرقابة” المستمرَّة عليها والسماح “بتداولها” بطريقة سلمية وقد ثبت أنّ النظام “الديموقراطي” هو أكثر أنظمة الحكم “فاعلية” في القيام بهذه المهام.
بالطبع لم يكن تقليد المؤسسة الفقهية السُنية في تحريم الخروج على الحاكم هو وحده الذي ساد طوال التاريخ الإسلامي حيث ظلت هناك العديد من التيارات التي تدعو للخروج على الحكام “الفاسقين الظلمة” وكان في مقدمتها الخوارج وشيعة آل البيت الذين ظلوا في حالة ثورة دائمة على حكم الأسرتين الأموية والعباسية.
بل أن كبار الصحابة في فترة معاوية إعترضوا على توريثه الحكم لإبنه “يزيد” ومنهم من خرج عليه وقاتله مثل عبد الله بن الزبير و الحسين بن على كرَّم الله وجهه الذي لم يبتاع حُجة إتقاء “الفتنة” عبر الإنصياع والتسليم للقهر والطغيان و التبرير لظلم السلطة وفسادها ووقف في وجه معاوية قائلاً :
( وما أظن لي عند الله عذراً في ترك جهادك، ولا أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الأمة ).
صدق سبط الرسول الكريم : لا توجد “فتنة” أعظم من الإستبداد.