Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

مغالطات أمين بناني

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

أشرتُ في العديد من المقالات إلى العقلية الإقصائية والسلوك الإستعلائي الذي يتصف به المنتمون لجماعة الأخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي بصفة عامة وقلتُ أن تلك العقلية وذلك السلوك هما الناتج الطبيعي لمجموعة المبادىء و الأفكار التي ينشأ عليها أعضاء الجماعة وتحدد تصوراتهم و نظرتهم للآخر المختلف.

العقلية الإقصائية تمثل الملمح الأساسي في تفكير كادر الإسلام السياسي الذي يتم تلقينه مبكراً أنه عضو في جماعة لا تضم “مسلمين عاديين” بل هى تجمع لطليعة من “الرساليين” الذين إمتلكوا “الحقيقة المطلقة” ويعملون على فرضها على “المجتمع الجاهلي” بكل الوسائل، ومن هنا يجىء دمغ المختلفين مع الجماعة بإتهامات “التكفير” و “التخوين” وغيرها.

ولمَّا كان التخلص من هذه العقلية الإقصائية وما يترتب عليها من سلوك يحتاج لنوع من المراجعات الجريئة و الشجاعة ويتطلب درجة عالية من الإستقامة الفكرية لا تتوفر لدى الكثيرين، فإنَّ مفارقة الجماعة تنظيمياً لن يؤدي وحده لتخلص الكادر من أدواء الفكر التي نشأ عليها وشكلت رؤاه وتصوراته و وتصرفاته لسنوات طويلة من عمره.

في هذا الإطار وقعتُ على حوار أجرته صحيفة الإنتباهة الأسبوع الماضي مع “الإنقاذي” السابق ورئيس حزب العدالة “أمين بناني نيو” تناول فيه تطورات المشهد السياسي السوداني ومستقبل الحركة الإسلامية بعد وفاة الدكتور الترابي و بعد القرارات الأخيرة التي إتخذتها حركة النهضة التونسية بزعامة راشد الغنوشي.

في سؤال حول مجريات الحوار الوطني الداخلي وإمكانية إنضمام قوى المعارضة الممانعة له أجاب بناني :
( في إعتقادي أنَّ إنتظار هؤلاء هو في الحقيقة إنتظارٌ لمجهول ومن الأجدي أن نعترف بأنَّ هناك الآن كتلتان في السودان فهناك كتلة يمكن أن تمثل المشروع الوطني السوداني القائم علي أسس الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ولكن مرجعيته الإسلام وهناك كتلة المشروع العلماني العرقي وهذا تمثله قوي اليسار السوداني المتحالفة مع حركات عرقية ).

وعندما إستدرك المُحاوِر بالسؤال التالي : ومن تعني تحديداً بهذه الحركات العرقية ؟ أجابه بناني بالقول :
( مثل حركة عبد العزيز الحلو وعبد الواحد محمد نور وأركو مناوي وحركة مالك عقار فهذه حركات تطالب بمعالجة قضايا الحكم من منصة عرقية ولكنها ترفع شعارات علمانية ولذلك لا يمكن لها ان تلتقي مع الكتلة الكبيرة في الساحة السياسية السودانية التي تمثل المشروع الوطني الاسلامي).

إنَّ القول بوجود كتلة تُعبِّر عن “مشروع وطني قائم على أسس الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية” هو قول زائف فضلاً عن أنه ينبىء عن “تخوين” ونزع لصفة “الوطنية” عن الكتلة الأخرى، فمن ناحية أولى فإنَّ “حزب المؤتمر الوطني” الذي يقود الكتلة الأولى هو المسؤول الرئيسي عن دخول البلاد في هذا النفق الشمولي المظلم وهذه الدكتاتورية العاتية التي أقصت كافة القوى السياسية بمن فيها مناصري الإنقلاب العسكري أمثال أمين بناني، ولذا يصعُب جداً القول بأنه يسعى لتحقيق الحرية والديموقراطية والعدالة.

ومن الناحية الأخرى فإنَّ تعمُّد بناني نفي صفة “الوطنية” عن كتلة “المشروع العلماني” كما أسماها والتي قال أنها تتكون من اليسار والحركات المسلحة يعبِّر عن النهج الإقصائي الذي يُميِّز نظرة الأخوان المسلمين لمخالفيهم، فمن ذا الذي يستطيع أن يزعم بأنَّ العلمانية تتعارض مع الوطنية ؟ وكيف تأتى لأمين بناني وصف الحركات المسلحة بأنها محض حركات “عرقية” ؟

إنَّ هذا الحديث “البائر” يعني أنَّ بناني وأمثاله من الأخوان المسلمين هم مثل آل البوربون لم يتعلموا أو ينسوا شيئاً من تجارب التاريخ حيث كانوا بالأمس القريب يهاجمون “حركة قرنق” بنفس هذه الأقوال العقيمة ويرمونها بتهم “العرقية” و “العنصرية” وبأنها تحارب “الوطن” من أجل خدمة أجندة خارجية مما أدَّى في خاتمة المطاف إلى إنفصال الجنوب.

إضافة لهذا فإنَّ تحليل بناني للخارطة الراهنة لتوزيع الكتل السياسية ينبىء عن بؤسٍ شديد وضعف في القراءة فهو يتجاهل أنَّ الحليف الأكبر للحركات المسلحة في إطار قوى “نداء السودان” ليس هو اليسار بل “حزب الأمة” بزعامة الإمام الصادق المهدي، فهل تحول الأخير لداعية عنصري ؟

كذلك يتبدى تسطيح رؤية أمين بناني بوضوح في إدعائه الجُزافي بأنَّ الكتلة التي يقف على رأسها المؤتمر الوطني تمثل الكتلة “الكبيرة في الساحة السياسية”، وهو قول لا تسنده أرقام أو وقائع أو نتائج إنتخابات حُرَّة ونزيهة بل يعتمد على أحاديث جلسات الونسة و “طق الحنك” التى تمتلىء بها الساحة.

ومن ناحية ثالثة كان من الأجدر بأمين بناني أن يوصف لنا “الحركات المسلحة” المشاركة إلى جانب حزبه في حوار الوثبة، هل هى كذلك حركات عرقية أم أنَّ مجرد قبولها بالمشاركة في ذلك الحوار نزع عنها تلك الصفة و جعلها جزءاً من “الكتلة الكبيرة” ؟ وماذا سيحدث إذا إنضم عقار ومناوي وجبريل للحوار ؟

غير أنَّ الأمر الأهم في هذا الإطار هو إحجام بناني عن تعريف معنى “المشروع الوطني” الذي إدَّعى أن كتلته تمثله بينما نفاه “بالصمت” عن الكتلة الأخرى، وتنبع أهمية هذا التوضيح من أنَّ مشروع الإنقاذ الذي كان بناني أحد دعاته البارزين هو “مشروع أممي” لا يعترف بالوطن ولا الوطنية فكيف جاز له أن ينفي هذه الصفة عن الآخرين بينما يُثبتها لكتلته ؟

هل كان من ضمن أجندات “المشروع الوطني” الذي يتحدَّث عنه بناني جلب الحركات الإسلامية المتطرفة وقياداتها المنبوذة من كل أنحاء العالم (أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وغيرهم ) وإعطاءهم ملاذاً آمناً في الخرطوم ؟ أم هل كان رفع رايات “الجهاد والإستشهاد” في حرب الجنوب جزءاً من تلك الأجندات ؟ أم هل يا ترى كان إعلان الحرب على دول الجوار و القوى العظمي هو أحد أجندة المشروع الوطني ؟

لقد حدثت كل هذه الأشياء في الوقت الذي كان فيه أمين بناني ومن معه جزءاً من تركيبة النظام فماذا فعلوا ؟

ليس من حق الرجل إذن المزايدة على الآخرين، فهو قد ركب قطار “الوطنية” بآخرة، وليته كان مثل أخيه “صلاح قوش” الذي كان أكثر جرأة وشجاعة عندما سُئل في حوارٍ مع صحيفة “اليوم التالي” ما رأيك في أداء الحركة الإسلامية بعد مؤتمرها الأخير ؟ فأجاب بالقول :

( الحركة الإسلامية تحتاج لإعادة تقييم أدائها الكلي ودورها في الفترة السابقة، والمؤتمر الأخير جزء من ذلك، فهل يستجيب الطرح القديم لتطلعات وأشواق الإسلاميين بالسودان ؟ هل يتناسب هذا الطرح مع واقعنا في السودان ؟ هل المشروع يحمل آمال وتطلعات الإسلاميين ؟ المشروع لم يوفق في كثير من القضايا الوطنية المُلحة، نحن نحتاج الآن لمشروع وطني، وقضية الحركة الإسلامية كيف يتحول مشروعها إلى مشروع وطني يخدم القضية الوطنية، فالقضية الملحة الآن في تقديري هي القضية الوطنية ).

نحن هنا بإزاء رجل يدعو لإنقلاب يعمل على تحويل مشروع الحركة الإسلامية ( لمشروع وطني يخدم القضية الوطنية )، وهذه الرؤية تحمل في طياتها دعوة لقطيعة كاملة مع الأصول الفكرية الذي ينبني عليها منهج جماعات الإسلام السياسي بمختلف نسخها، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي لا ترى أنَّ خدمة مصالح الوطن هى هدفها النهائي بل أنَّ السعي لخدمة قضية “الأمة الإسلامية” هى غايتها المنشودة.

غير أنَّ أخطر إعترافات قوش جاءت في حواره مع الأستاذ الطاهر التوم في برنامج “حتى تكتمل الصورة” حيث إعترف بشجاعة نادرة بأنَّ الإنقاذ حملت معها تفكيراً خاطئاً وسالباً منذ يومها الأول مما جعلها تعادي الجميع وقال ( كان من الممكن أن نأتي ومعنا أصدقاءنا ونحارب أعداءنا ولكننا أتينا من أول يوم وأعداءنا في جيبنا ووحدنا أخرجناهم وبدأنا نحاربهم قبل أن يحاربونا وهذا ما أدخلنا في مشاكل ما تزال مستمرة حى اليوم) .

كان قوش يتحدث عن الجيران أثيوبيا وارتريا ومصر، وحديثه هذا هو مربط الفرس في خطل “الفكرة الأممية” العابرة للحدود حيث كانت الإنقاذ تتحرك بتنظير من يُطلقون عليهم ألقاباً جزافية من شاكلة “الخبير في القرن الأفريقي” وما زلت أذكر أطروحات ذلك الخبير المزعوم وهو يتحدث عن مساندة أكثرية “الأرومو” المسلمة المضطهدة من قبل “الأمهرة” في أثيوبيا، وعن ضرورة دعم الجهاد الأرتري لمناصرة مسلمي المناطق المنخفضة.

قد أدخل “مشروع الإنقاذ الأممي” – الذي كان أمين بناني أحد دعاماته الأساسية – الوطن في مأزق كبير ومشاكل ما تزال مستمرة ومن المرجَّح أن تتواصل لسنوات قادمة حيث فقد السودان ثلث أرضه وشعبه وضربت عليه عُزلة إقليمية و دولية خانقة نرى آثارها السياسية و الإقتصادية المدمرة ماثلة وتتفاقم كل يوم.

ولا يُجدي في علاج تلك المشاكل إتباع نفس الوصفات القديمة الفاشلة والمتمثلة في تخوين المختلفين وإقصائهم ورميهم بإتهامات العنصرية وعدم الوطنية فذلم من شانه مفاقمة الأوضاع المتأزمة أصلاُ ولن تكون نتيجته الأخيرة سوى وضياع الوطن مرَّة وإلى الأبد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *