الإسلاميون الإنقاذيون.. يقظات العقل العنصري 3-3
بقلم : عبد الحميد أحمد
فور فراغهم من تسوية مع الحركة الشعبية، مهّدت لانفصال جنوب السودان، نصب “الإنقاذيون” في الخرطوم لمعركة أخرى، اختاروا ساحتها، هذه المرة، إقليم دارفور غربي السودان، فاستدعوا إلى هناك قواتهم الأمنية المسنودة بعناصر من مليشيات الجنجويد، بالغة الوحشية، وتعبأت تتجاوب بعنف فاحش مع حركات المقاومة الدارفورية، يمدها التحريض الرئاسي الأشهر بالقتل الناجز لا يرغب في أسير ولا جريح.
أقبلت الحركة الإسلامية على الساحة الدارفورية تحمل مشروعاً سياسياً محضاً يعبّر عنه رموزها الأوائل الأسبق انتظاماً في صف الجماعة وتنظيمها، خطاباً ينصرف متصوباً إلى قضايا السياسة والحكم وإذ لم تلج الحركة إلى تلك الساحة عبر نهجها الديني في تقديم مفاهيم الدعوة الإسلامية خارج أطر المفاهيم السلطوية فإن ذلك قلل -لأول مرة- من جملة كسوبها وتأثيرها أمام تيارات التدين الطائفي العريض لا سيما ذلك الذي يرتكز على إرث المهدية وجهاد قائدها الأول.
لكن الحركة الإسلامية استطاعت، من بعد نحو اواسط الستينات عبر قيادتها الشابة الصاعدة، أن توسّع قاعدتها وتمد كسبها داخلاً إلى غالب القبائل والبيوتات بالأقليم، لكن وجودها الأقوى كان وسط القبائل غير العربية، إذ أفلحت المرجعية الفكرية للحركة، في أن تجتذب قطاعات واسعة من المتعلمين الدارفوريين منحازين إلى فئتها، عبر رؤية تفصل المبادئ الإسلامية الأصيلة عن الغلاف الثقافي العربي الخاص الذي يحيط بها، بل إن الحركة وجدت في انماط التدين الطائفي الذي ساد في تلك البقاع من دارفور مادة جيدة في الهجوم على الطائفية.
إذاً فقد انبرى الشيخ الترابي يصوب نقده الأحدّ للأحزاب التقليدية واعتمادها خطة التدين الطائفي الذي يخلط بين المبادئ العامة للدين والقيم والممارسات السائدة في المجتمع وإذ مضى الشيخ الترابي يؤكد على ضرورة أن يتم التمييز بين شمولية المبادئ الإسلامية وضيق أفق الممارسات الثقافية العربية وينبّه إلى الحاجة لتحرير الأولى من الثانية، فإن تلك الرؤية أمدت الحركة بمدد وافر من شرائح المتعلمين الذين يمثلون صفوة المجتمع الدارفوري لا سيما من القبائل غير العربية.
لكن نشوء تيار جهوي منذ تأسيس حركة “نهضة دارفور” وضع الحركة الإسلامية أمام تحدي جديد لم تلبث أن قفزت فوقه حين دفعت بأعداد من عناصرها للعمل من داخل ذلك التيار وبرز رمزها الأشهر في دارفور –علي الحاج محمد- الرجل الثاني في تراتيب الكيان الجديد ومهما بدا أن ذلك التكتيك قد حقق مكاسب سياسية للحركة إلا أنه على المدى الأبعد شكّل عبئاً ثقيلاً عليها إذ لم تكن تلك معالجات إستراتيجية بقدر ما كانت معالجات سياسية مرهونة للواقع القائم وظهر ذلك في المستقبل حينما انفجرت الأوضاع في دارفور عقد الثمانين في شكل صراعات قبلية أثرت على بناء الحركة عندما انفعلت قيادات أسلامية منها بالواقع المحلي وبدأوا لأول مرة تمردهم على المركز التنظيمي للحركة إذ جاءت النُذُر الأولى تشير إلى أزمة أبناء دارفور داخل الحركة الإسلامية سابقة للإنقلاب العسكري الإنقاذي (يونيو/ 1989) حينما استقال نائبان برلمانيان من كلتة الجبهة الإسلامية القومية بدفعٍ من أثر الصراع الدائر في الأقليم بين الرعاة والمزراعين.
قامت خطة الإنقاذيين في دارفور على استقطاب القبائل العربية تفتح لهم المجال للمشاركة الأوسع في السلطة ومن ثم عمدت إلى تمام تسليح مقاتليها قوةً ضاربة تستثير نزوعها للقتل والقتال، لا تبالي أن تستجلب مددها من خلف الحدود نحو غرب أفريقيا، توطنها في ذات أراضي الدارفوريين ومن ثم توظفها لمكافحة الثورة التي خرجت قادتها من قبائل غير عربية، ضمن سياسة معلولة توهَّم النظام أنها تخلق توازناً قبلياً بالإقليم، لتبدأ جولة من التمايز العنصري بالإقليم وليستعر الإستقطاب حاداً أساسه أصول القبائل التي ظلت متعايشة منذ أمد بعيد، غير عارضات من حوادث اقتتال قبلي ينشب بين فينة وأخرى بين رعاة ومزاعين، سرعان ما تتداركه أعراف نظام أهلي صارم لا يلبث أن يردع الجاني الجائر ويرد الأمور إلى نصابها.
بتصاعد أعمال العنف في دارفور أصدرت الدائرة التمهيدية الأولى في المحكمة الجنائية الدولية أمراً بالقبض على رئيس النظام الإنقاذي لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وعدّت المحكمة “البشير” مسؤولاً جنائياً، باعتباره مرتكباً غير مباشر أو شريكاً غير مباشر، عن تعمد توجيه هجمات ضد جزء كبير من السكان المدنيين في دارفور، وعن القتل والإبادة والاغتصاب والتعذيب والنقل القسري لأعداد كبيرة من المدنيين ونهب ممتلكاتهم، منذئذٍ بدا أن رئيس النظام قد فقد صوابه بالتمام، والحق أن الرئيس قد بدت البغضاء من فيهه في أوقات مبكرة عنصرية منتنة لا يبالي أن يصف المؤتمر الشعبي أنه حزب “الغرابة” لكن ظل ما يخفي صدره أكبر حتى ساعة انفجاره وقوله الإثم أمام وجوه من أعضاء لجنة تقصِّي الحقائق الوطنية في دارفور من بعد أن طالع الحقائق التي أوردتها اللجنة، أنّ النساء من غرب السودان يجب أن يختلن فخورات فرحات متى وطئهن الفحول من قبيلة الجعليين، لا يحسبن ذلك عدواناً واغتصاباً بل شرفاً يجب أن يتباهين به، وهو قول يستحل كل حرمة، يضاهئ قول الذين ظلموا أنفسهم من اليهود “ليس علينا في الأميين سبيل” لقد بدا الشيخ الترابي حريصاً على نقل وقائع تلك الحادثة دقيقاً في نقل ذات الكلمات والعبارات التي استخدمها الرئيس مهما بدت بذيئة جارحة خارجة عن تضابط ولايات المجتمع ومهما بدت –كذلك- غريبة على لسان الشيخ الترابي ولغة خطابه الرفيع، لكنها تشير الي فداحة المأساة والتردي الاخلاقي الذي انحدر إليه النظام ، كما انه ينقل ذات الصدمة التي اصابته الي عامة جموع الشعب ليريه الدركات التي سقط اليها النظام بدرجة تجعله فاقد الأهلية، لا مناص من تغييره حذر ان تقع بالناس فتنة يتقونها، لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة.
خلاصة القول أن السودان وهو يقف اليوم على كل هذا الركام من الصراعات والنزاعات التي غذتها الإنقاذ وأشعلت فتيلها يبدو في حاجة شديدة لمشروع وطني يخرج البلاد من حالة التفكك التي تعيشها، لا سيما من بعد تقاصر ظل الدولة التي تواجه مأزقاً حقيقياً وأوضاعاً أشد حرجاً نتيجة للتوترات والنزاعات المتصاعدة ذلك أن النظام مهما بدا في هذه الأثناء قادراً على أن يحفظ مظاهر الحكم داخل حدود العاصمة فإنه يفقد سلطته خارجها، لا سيما نحو الأقاليم الأبعد المتأزمة بالحرب الأهلية مع المجموعات التي تحولت عملياً إلى أقاليم لا يبقيها ضمن الخريطة إلا العجز عن استكمال إجراءات الطلاق مما يعني استفحال التوتر والعنف والفساد وتراجع الخدمات وتزايد الهجرة والتدخلات الخارجية، بل إن السودان اليوم يبدو على شفا الحرب الأهلية الشاملة لكنها فقط حرب مؤجلة.