Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

شذرات من، وهوامش على، سيرة ذاتية (1-5)

بقلم الدكتور منصور خالد

عندما عزمت على كتابة سيرة ذاتية ترددت ، إن لم أقل تعثر قلمي عند الكتـــــــــابة وما كان ذلك إلا لخبرتي بأن أكثر القراء في السودان يقرأون ما يحسبونه معان كامنة أو ظلالاً خفية بين السطور قبل قراءة السطور . فمنذ عهد الطلب ظللت أكتب حول القضايا العامة وأنعت أغلب ما أكتب للناس بالحوار لظني أن الحوار يهز الثوابت المستقرة ويوقظ العقول الخَدِرة . الحوار دوماً هو جدل بين أكثر من طرف يتضمن رأياً ورأياً نقيضاً ، ومناظرة تبدأ من مقدمة منطقية (premise) لتنتهي إلى نتيجة (conclusion) منطقية هي الأخرى ؛ ولا يكون الوصول إلى أي نتيجة منطقية بالحدس والتخمين بل عبر منهج تحليلي استقرائياً (inductive) كان أو استدلالياً (deductive) . هذه هي أبجديات علم المنطق التي ينبغي أن يُلم بها أي محاور ، والمنطق هو العلم الذي يعصم الإنسان من الخطأ في الأحكام .

بدلاً عما يقول به علم المنطق انبرى كثيرون لا لمحاجتنا فيما كتبنا وإنما إلى شخصنة الأمور ، وذلك فجور عن الحق . فمحورُ الجدل عند طرح الأفكار ينبغي أن يكون هو الفكرة المطروحة التي تتشعب منها الفروع لا أصل الكاتب ، أو ما يتطرس به من رداء ، أو ما يسكن فيه من منزل ، أو من هم أصدقاؤه الأقربون . وبهذا الفهم يصبح واجب المحاور أو الناقد هو استقصاء صحة الافتراضات التي بنى عليها الكاتب أحكامــــــــه ، ونجاعة منهج بحثه للتدليل على ما توصل إليه من نتائج ، وصدق المراجع التي أعتمد عليها لتوكيد تلك النتائج والأحكام . ما عدا ذلك يصبح الجدل إجحافاً في النقد وتربصاً بالكــــــــــاتب .

هذا التربص حملني في أكثر من لقاء صحفي على القول لكل من طلب مني تسجيل سيرتي الذاتية بأنني تابع ذلول لأب الطب النفسي سيجموند فرويد . فعندما سئل فرويد لماذا لم يدون سيرته الذاتية كما فعـــــــــــل مجايلوه من أهل الـــــــــــــــرأي قـــــــــــــال : ” لم أسجلها لأن الناس لا يستحقون أن تُقال لهم الحقيقة “. ماذا عنى فرويد بذلك ؟ في ظني أن أب الطب النفسي ، وهو العليم بالنفوس ، كان يَعلمُ أن بين الناس أشرافاً وسِفلة ، وأخياراً وأشراراً ، وعلماءً وجهالاً . ولعل هذا هو السبب الذي حملني على عدم الرد على تلك الجماعات مكتفياً بالصبر على بلواهم كما صبر شاعري المفضل أبي الطيب على أشباههم .

أفاضلُ الناس أغراضٌ لذي الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفِطن
يستخبرون فلا أعطيهم خبرى
وما يطيش لهم سهم من الِظنن
قد هون الصبر عندي كل نازلة
ولين العزمُ حد المركب الخَشن

في واقع الأمر ظللت أبداً استنكف تدوين سيرة ذاتية تتعلق بخاصة أمري في حين لم أتردد فيما سجلت من مذكرات في تناول القضايا العامة ، خاصة تلك التي عايشتها ، أو كنت مواكباً لها ، أو ذا قـــربى بصناعهـــــــــــا ، أو كنت من صانعيها . وعندما أســـــــــــــــــــــميت هذه المذكرات ” شذرات من ، وهوامش على ، سيرة ذاتية ” استعِرت عنوان الكتاب من المؤرخ العالم شهاب الدين أبى الفتوح الذهبي الدمشقي ” شذرات الذهب في أخبار من ذهب ” . ذلك سفر ضخم تضمن أخبار الدولة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبار أسرته وخلفائه الراشدين حتى فتح سمر قند وغزو القسطنطينية وأرمينيا والأندلس . أصحبت ذلك العنوان بهوامش تتناول رؤاي لما وقع في المحيط العام طوال حياتي الراشدة وتأثري بتلك الأحداث أو تأثيري على بعضها . كما ظللت أقول دوماً أن الذي ينبغي أن يشغلني في صوغ السيرة هو الموضوعات المتعلقة بالنطاق العام الذي أتشاركه مع الآخرين ، لا الخاص الذي لا يعني الآخرين .

في هذا المجال تحدثت عن الرجال الذي هدوني سواء السبيل وعلى رأسهم من عاصرت من شيوخ الأسرة الذين أولوني اهتماماً : الشيخ أحمد الصاوي عبد الماجد ، الشيخ عبد العزيز الدباغ محمد عبد الماجد ، الشيخ سليمان محمد عبد الماجد ، والشيخ خليل محمد عبد الماجد ومن بقى من أبناء ذلك السلف الصالح والذين حلت صورهم صالة العرض التي شهدتموها في قاعة الصداقة بالأمس كما ظلت تحلى ردهات مسكن الأسرة وما فتئنا بهم نفاخر . ذلك الاهتمام أوليته أيضاً عند صوغي للسيرة الذاتية لأساتذتي المعلمين في جميع مراحل التعليم : الأستاذ الحاج عبد الله هاشم ، الأستاذ حسن الطاهر زروق ، الأستاذ بشير محمد سعيد ، الأستاذ محمد توفيق ، الأستاذ وديع شحاتة في المرحلة الوسطى ؛ والأساتذة النصـــــــــري حمـــــــــــــزة ، أحمد بشير العبادي ، جمال محمد أحمد ، أحمد المرضي جبارة ، عبد الله بشير سنادة ، خالد موسى ، الخير هاشم ، أحمد حسن فضل السيد في المرحلة الثانوية ؛ وللأساتذة مكي شبيكة ، جمال محمد أحمد ، عبد المجيد عابدين ، إحسان عباس ، محمد عبد العزيز اسحق في المرحلة الجامعية. وإن كنت قد أغفلت في هذا السرد أسماء الأساتذة الانجليز في المرحلتين الأخيرتين فلم أفعل ذلك إنكاراً لدورهم في تنشئتي وإنما لعدم إلفة أغلب من سيقرأ تلك المذكرات بأسمائهم ، وأسأل الله أن لا يشمل عدم الألفة هذه أسماء فطاحل من معلميَّ السودانيين تتلمذت على أيديهم مثل النصري حمزة وبشير محمد سعيد وجمال محمد أحمد وحسن الطـــــــــــــــاهر زروق .

فيما كتبت حرصت على أن لا أِلجِ بالقارئ – إلا لماماً – في مجال السياسة وما فعلت ذلك إلا لأن السياسة العملية كما كانت – وما زالت – تمارس في السودان قد قادت بلادنا إلى فتن هزاهز . ذلك هو السبب الذي دفعني دوماً على التداول مع الناس حول السياسات لا السياسة . وعلني لا أغالي إن قلت لكم إنني طوال عملي في المجال السياسي قد انكرست في كل المواقع التي عملت فيها على صنع السياسات لا على السياسة بمعناها السائد في السودان . السياسات هي مشروعات إدارة المجموعة ، ويميز العلماء بين السياسة (politics) والسياسات (policies) أو فن الحكم (Statecraft) . فرجل الدولة (statesman ) لا يكون جديراً بذلك النعت أن لم تتوفر له رؤية للقضايا ، ومشروع لإنفاذ تلك الرؤية ، وبوصلة أخلاقية هادية ، وإيمان صادق بما يطرح من رأي ، وثبات على ما ارتأى ، وتواضع معرفي يجعله لا يستنكف قبول رأي من هو أدري منه بمعالجة ما أحدقت بالناس من مشاكل . كما أن المؤرخ السياسي ملزم بأن لا يبطئ في قول الحق عمن وعما يصف ، وأن لا يصدر حكماً على الآخرين إلا غِب صادقة ، وأن لا يعمل إلى تمويه الكلام وزخرفته . فأن كان هناك من يرغب في وصفي بالسياسي فأنا سياسي بكل هذه المعاني . وفي كل المرات التي اقتحمت فيها مجال السياسة الوطنية فعلت ذلك وأنا متحفل بأسلحة أربعــــــــــــة : الرؤية ، منهج العمل ، أدوات العمل ، أهل الشورى حتى وأن كانوا من الأبعدين .

على رأس العوامل التي دفعتني إلى تضمين سيرتي الذاتية جوانب تتعلق بالسياسة أمران : الأول هو رسالة نصح لمجايلي من أهل السياسة ، والثاني هو مخاطبة الجيل الجديد . في الحالة الأولى وددت حث مجايلي على نقد الذات نقداً عميقاً لا اعتذارياً يحمل طابع ما يسميه الفرنجة (apologia) . فالتعمق في النقد الذاتي لما صنعنا بالوطن ضروري لأن مآسي الحاضر ما هي إلا نتيجة لتراكم أخطاء الماضي . أما في الحالة الثانية فأن مخاطبة الجيل الجديد فرض على أبناء جيلنا لأنه من حق الجيل الجديد معرفة أس الداء الذي ابتلى به السودان ، واستكناه حقيقة أي شخص عام يتصدى للقيادة سياسياً ، أو يسعى لتكييف الرأي العام في وسائط الإعلام ، أو يخوض في مجال الفكر بجرأة يحسد عليها لأنه لا يطيق من الأفكار إلا ما يدعو لـــــــه . هذا سؤال لم يدر يخلد الكثيرين من قبل ولكن يصعب اليوم تجاهله بعد أن خمصت بطون أهل السودان من الجــــــــــــــوع ، وأخذت شفاههم تترضب ريقها لتروى الجسم من العطش في بلد تشقه ثلاثة أنهار إلى جانب ما تجرى تحت أرضه من مياه جوفية . هذا هو الوطن الذي أردنا له ، كما أراد له أخوتنا العرب ، أن يكون سلة لغذاء العالم . كما هو الوطن الذي كان عند استقلاله أكبر أقطار أفريقيا مساحة. هو أيضاً الوطن الذي سبق بلاد أفريقيا إلى الاستقلال بعد قُطرين عرفا الاستقلال في زمــــــــــــن أسبــــــــق ( أثيوبيا منذ عهد عصبة الأمم وليبيريا التي أختارها الرئيس الأمريكي مونرو لتصبح وطناً لمن شاء من الأمريكان السود العودة إلى قارتهم الأم ولهذا أسميت عاصمتها مونروفيا ) .

أين هو هذا الوطن الآن ؟ يكفيك النظر إلى طرقاته لترى أهله ، صغاراً وكبـــــــــــــاراً ، يهرولون فوقها جمعاً وأفذاذاً مشدوهين وكأنهم يهربون من الحياة ، أو كأنهم ضلوا الطريق في فلاة سهب لا نهاية لهـــــــــا . تلك الغيبوبة الجماعية التي لحقت بالناس وهم يجوسون في الطرقات كادت أن تصبح استكانة مرضية لمآسي الماضي وبؤس الحاضر وضيمه وتلك حالة لم يحسن وصفها شاعر مثل أبي الطيب

قد تعيش النفوس في الضَيم حتى

لترى الضَيم إنها لا تُضام

ما الذي وددت أن أقول للجيل البازغ من البنين والبنات ، وبزوغ الصبي هو صيرورته جريئاً على الكلام . من حق هذا الجيل التعرف على الأسباب التي قادت خلال نصف قرن بعد الاستقلال إلى تهور البناء الوطني ، وأي هور أكثر من تمزق الوطن . هذا الجيل أثار اهتمامي عندما التقيت به عبر الاسافير لقاءً يبعث على الثقة والإعجاب . ومن بواعث الإعجاب اكتشافي لأنه جيل يرفض الأحكام المسبقة على الأفراد والجماعات التي لا تستند على دليل أو تقف على ساق ، كما لا يرتهن أحكامه على ما ظلنا نردده عليه من شعارات . آثار إعجابي بهذا الجيل اندهاشه المبرر من تمنع قادته أنفاً عن الاعتراف بأخطائهم ، علماً بأن كل أخطاء البشر لا تنجم إلا عن العجز عن مواجهة النفس بالحقائق . فالنقد الذاتي حوار مع النفس كما وصفه البيركامو قبل أن يكون محاورة للآخر ، والذي لا يحاور نفسه وهو ينظر للحقيقة في وجهها فارغ فــــــــــــؤاد . ولعلك أن سألت عن الأسباب التي حدت بقيادتنا السياسية للجفول عن نقد الذات قلنا لك أن تلك القيادات لا ترى أبداً صورة الآخر لأنها تعيش في بهو جميع حيطانه مرآيا ، صنعوا تلك المرايا بأنفسهم أو أحاطهم بها مزيفو التاريخ . ما لم يدركه أولئك المزيفون أن استمراء الإنسان لرؤية وجهه في كل المرايا التي تحيط به دون رؤية ما حوله هو أقرب الطرق إلى تعميق النرجسية في نفس الرائي

فيم يكون نقد الذات ؟ مصدر الأزمة السودانية ليس هو أن آباء الاستقلال والجيل الذي أعقبهم كانوا قوم سوء ، بل يتمركز سوءهم في فقدانهم للرؤية الصائبة للأزمة السودانية . الرؤية في السياسة ليست طلسماً من عمل السحر أو تحذُقاً في الكلام بل هي تحليل للواقع الملموس يتلمس عبره المؤرخ العوامل التي أدت إلى الأزمة الوطنية : أهي من صنع الطبيعة ، أو أخطاء البشر ، أو سوء مقاصدهم ، أو ارتباك أحكامهم . فمنذ عهد مؤتمر الخريجين وحتى عقد الستينيات من القرن الماضي ظلت قياداتنا السياسية منهمكة في ما أسمته تحرير البلاد لا تعميرها . وللدكتور جعفر بخيت ورقة جيدة السبك حول جدلية التحرير والتعمير أتمنى أن يتفرغ لإجلائها على الناس باحث مدقق وأكاد وأنا أقول هذا أشير بأصبعي إلى باحث صدوق مجتهد مثل أبو شوك . ما الذي يعنيه التحرير بعد نصف قـــــــــــــــــــرن من خــــــــــــــــــــــــــــــــــروج الاستعمار ؟ أهم قضايا التعمير ، كما ينبغي أن تكون ، هي بنـــــــــــــــاء الوطـــــــــــــن (nation building) بتوحيد أهله ، والتوافق على هويته ، ثم التعمير الاقتصادي ، والتمازج الثقـــــــــــــــافي ، والتسامح الديني ، والتعايش السلمي بين المجموعات في داخله ومع الدول في خارجه . كم من هذا أنجزت النخبة السياسية القديمة والراهنة ؟

بدلاً انجاز تلك المهام التي تمثل أمهات القضايا الوطنية أحللت النخبة السياسية موقعاً مركزياً في السياسة السودانية لقضايا ، أو بالأحرى مفاهيم ، خارجية لا تصبح جزءً من هموم الداخل إلا بالتلوي عليها . مثال ذلك محاربة الاستعمار الجديد عند اليساريين الأممين ؛ وتحقيق العروبة الاقصائية لأقوام السودان من غير العرب بمحو هويتهم الثقافية عند القوميين العرب ؛ وإزالة البُعد العربي في الهوية الوطنية عند الافريقانيين ؛ والقضاء على الكفر والرجس من أرض السودان عند الإسلاميين قبل توفير الماء والغذاء والدواء للمواطن وكأنا بهم يظنون أنهم أكثر قدارة من رب العباد الذي خلق كل شيء بقدر ومع ذلك لم يدعُ الناس لعبادته إلا بعد أن ذكرهم بأنه هو ” الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خــــــــــــــــوف “.

توقف اهتمام القوى السياسية النشطة عند الجدل النظري أولج تلك الطبقة السياسية في سفسطة سياسية أدخلت السودان في كرب عظيم . والسفسطة عند مبتدعيها اليونانيين هي قياس على الوهميات لا الحقائــــــــق . لهذا ظل الخطاب السياسي السوداني خطاباً بلاغياً تُغني فيه فصاحة الكلمة عن كفاءة الفعـــل . فلئن سألت الناس في أي بقعة من بقاع العالم عمن هو السياسي الناجح أشاروا إلى بناة الاقتصاد الوطني ، أو إلى المنتصرين في تحرير الأوطان ، أو إلى المجددين في التعليم ، لا إلى المتفاصحين ، فالتفاصح تأليف سيء للكلام . نجاة السودان من هذا الكرب لا تتم إلا بالإقرار به كخطأ عظيم والخطأ في السياسة هو بمثابة الذنب ، ولا يرفع الذنوب إلا الاعتراف بها والاعتذار عنها للشعب .

وغدا سنواصل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *