هل هى حقاً معركة مع الله ؟
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
تُعبِّرُ الآيديولوجيا بمُختلف أنواعها و منطلقاتها عن “وعي زائف” يُحركهُ التوقُ “الذاتي” وليس الواقع “الموضوعي” نحو تحقيق أهداف “مرغوبة”، أهداف تكون في الغالب غير قابلة للتطبيق والتحقق، ولذلك فهى أشبه بالجري المتواصل وراء السراب الذي لن يتم اللحاق به أبداً.
وبما أنَّ الوعي الذي يُسيطر على الفرد أو الجماعة عبر القناعات الآيديلوجية هو وعي زائف فإنه “يزرع الوهم” في نفوسهم فيجعلهم يعتقدون جزماً أنَّه “حقٌ مطلق” وخلافُه باطلٌ حنبريت (خالص) ومردودٌ على صاحبه أيّاً كان مصدره وأيّاً كان شكلهُ ومضمونهُ.
وأخطر أنواع الآيديلوجيا هو “الديني” منها، ذلك لأنهُ يعمدُ إلى الإيغال في التزييف الهادف لمحق “الوعي الحقيقي” عبر نقل “الصراع الدنيوي” من مستويات السياسة والإقتصاد والإجتماع وغيرها إلى صراعٍ دائم بين السماء والأرض، بين الإيمان والإلحاد، بين المؤمنين والكافرين، بين الله والبشر.
وهذا هو عين ما تفوَّه به خطيب مسجد الخرطوم الكبير “كمال رزق” في خطبة الجمعة الماضية عندما تحدث عن محاولات كبح إرتفاع سعر الدولار أمام الجنيه السوداني فقال بحسب ما نقلته صحيفة “الجريدة ” : ( ليس هناك ما يوقف إرتفاع أسعار الدولار لأن المعركة مع الله وضحكات الأمريكان والغربيين لا تعدو عن كونها مجاملات لأن مواقفهم واضحة من الإسلام ).
في حديثه أعلاه يحاول السيد كمال رزق أن يوصل رسالة مفادها أنّ الأزمة الإقتصادية التي من مؤشراتها تراجع قيمة العُملة الوطنية قد تسببَّ فيها الأمريكان الذين يستهدفون السودان بسبب تمسكه بالإسلام، وهو كذلك يوحي بأنَّ المعاناة لن تنتهي لأن عداء الغربيين للحكومة سيستمر طالما ظلت تتمسك بالإسلام.
سأحاول تفنيد هذه الإدعاءات من خلال النظر في البعد الخارجي الذي يُحاول مثل هذا الخطاب المؤدلج أن يحمله مسؤولية الفشل إضافة للبحث في الأبعاد الداخلية التي أرى أنها تمثل السبب الرئيسي وراء الإخفاقات.
من المعلوم بالضرورة أنَّ سياسات أمريكا تحركها “المصالح” وأنَّ علاقاتها الخارجية تنبني على مدى تحقق تلك المصالح ولذلك فإنَّ أهم حلفاءها في الشرق الأوسط هى الدولة الإسلامية الأكبر “السعودية” التي تعتنق المذهب السلفي الوهابي وتطبق الشريعة بصورة صارمة مما يدل على أن أمريكا ليس لديها مشكلة مع الله.
كذلك فإنَّنا نجد أنَّ من بين أكبر أعداء أمريكا دولة مثل “كوريا الشمالية” التي لا تتبنى أية “مذهب ديني” في الحكم وهو ما يؤكدُ أنَّ الدول الغربية لا تخوض معركة مع “السماء” بل تعادي وفقا لحسابات “الأرض”.
وفي ذات الإطار فإنَّ “كوبا الشيوعية” قد عانت من أطول حصار إقتصادي أمريكي في العصر الحديث إستمر لأكثر من نصف قرن من الزمن بينما ظلت العلاقات بين أمريكا و”الصين الشيوعية” متطورة ومزدهرة بحيث صارت الأخيرة أكبر شريك تجاري لأمريكا في العالم.
ومن ناحيةٍ أخرى فإننا نجد أنَّ أكبر شريك إقتصادي للحكومة السودانية “المسلمة” هى الصين “الملحدة” مما يعني أنَّ المبدأ الأساسي الذي يتحكم في العلاقات الدولية هو مدى تحقق المصالح وليس أية شىء آخر.
لا شك أنَّ الرسالة الخفية التي أراد السيد كمال رزق تمريرها من خلال حديثه أعلاه تهدفُ للقول أن السياسات الحكومية غير مسؤولة عن الفشل الذي أصاب الإقتصاد السوداني بل المسؤول هو الحصار الأمريكي الذي لن يرفع عن السودان طالما ظل البلد محكوماً بالإسلام.
هذا الحديث يتجاهل حقائق الواقع التي تُشير بوضوح إلى أنَّ السياسات التي إتبعتها الحكومة خلال الحقبة النفطية والكيفية التي إتبعتها في التصرف في عائدات البترول هى السبب الرئيسي في التدهور الإقتصادي وإرتفاع تكاليف المعيشة.
لم تتَّبع الحكومة أسبقية صحيحة في توظيف عائدات النفط وفق إستراتيجية تتناسب مع التحديات التي يواجهها الإقتصاد خاصة الحاجة للبنيات الأساسية الداعمة “للإنتاج” في مجالات التنمية الزراعية والصناعية والإجتماعية، بل تم توجيهها لتمويل النفقات الجارية المتوسعة، والأنشطة الإستهلاكية ،و قطاعات الخدمات والعقارات، إلى جانب الصرف على الأمن والحروب الداخلية.
الأزمة ،كما قلت في مناسبة سابقة، لم تكن في الحصار الخارجي برغم ما أدى إليه من مشاكل وصعوبات، لكنها في الأساس أزمة داخلية متعلقة “بالعقلية” التي أدارت الإقتصاد طوال سنوات الحقبة النفطية، حيث إختارت الحكومة أن تتعامل مع موارد البترول “بعقلية الغنيمة” بدلاً عن توجيهها تلك الموارد في المسارات الإقتصادية الصحيحة والمستدامة.
وبما أنَّ الإقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة و يرتبطان إرتباطاً وثيقاً فإنَّ الأزمة الإقتصادية التي تُعاني منها البلاد كانت أيضاً نتاجاً مباشراً للأزمة السياسية، أزمة الحُكم و السلطة، حيث أنَّ جزءاُ كبيراً من موارد البترول ذهب لمقابلة إحتياجات النزاعات والحروب الداخلية، والصرف على الأجهزة الامنية المتضخمة.
غير أنَّ السيد كمال رزق لا يكتفي بحديثه المُضلِّل هذا بل يُصرُّ على أن يتناقض مع نفسه في ذات الخطبة حيث قال في إطار تناوله لقضية “الفساد” في الدولة أنًّ ( الحل في العودة للإسلام ) والتي وصفها ( بالمُرة ودونها استمرار المصائب ) واستدل بقوله تعالى : (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)، وأضاف : ( كذلك الحل في آي من آيات الذكر الحكيم “ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ).
ويتمثل وجه التناقض في أنَّ ذات الشخص الذي قال لنا قبل قليل أنَّ الإرتفاع في سعر الدولار لن يتوقف لأنَّ أمريكا تحارب السودان لتمسكه بالإسلام هو نفسه الذي يرشدنا إلى أنّ حل مشكلة الفساد يتمثل في “العودة للإسلام” مما يوحي بأنَّ الإسلام غائب ولا وجود له ، فكيف إذن تحارب أمريكا شيئاً غير موجود في أرض الواقع ؟
حديث رزق هذا لا يُمثل خطبة معزولة لواعظ ديني بل هو إمتداد لخطاب آيديلوجي متكامل يعمدُ إلى رفع قضايا الأرض للسماء، و ترحيل المشاكل الدنيوية إلى يوم الآخرة من أجل خدمة مصالح وأهداف آنية، فمن قبل تناول كاتب هذه السطور حديثاً شبيهاً لحديث رزق أدلى به وزير الكهرباء السابق “أسامة عبد الله” عن أداء أهل الحكومة و قال فيه : (مافي جهة تحاكمنا في أداء عملنا غير الله، لذلك سنكون صادقين).
إنَّ إقحام الله بهذه الطريقة الفجَّة في مناقشة أمور ذات طابع و خصوصية بشرية يُمثل أحد الأدوات التي يستخدمها الخطاب الآيديلوجي للتمويه والتضليل وصرف الأنظار عن حقيقة الصراع الذي يدور في الأرض وهو كذلك يهدف إلى التعمية عن النتائج المترتبة على التصرفات والسياسات الفاشلة والإنصراف عن تحمل مسؤولية الإخفاق.
إنَّ أحوال البلاد والعباد لن تنصلحَ إلا بالإنفكاك من أسر الآيديلوجيا وخطابها النازع للخلط بين “الديني” و”الدنيوي” بهذا الشكل الإعتباطي، ودون أن نتواضع على نظام للحكم التعددي يتراضى عليه الجميع ويتضمنُ آلياتٍ من شأنها تحديد المسؤليات في الفشل والإخفاق بعقلانية ودون حاجة لإحالتها للسماء.