إتفاق (نافع-عقار) وخارطة طريق أمبيكي
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
كتبتُ قبل عدَّة أسابيع مقالاً يتناول المفاوضات التي تجري بين الأطراف السودانية ممثلة في الحكومة وبعض مكونات المعارضة من قوى “نداء السودان” بوساطة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة ثابو أمبيكي, وبعد قراءة المواقف التي تُحيط بأطراف التفاوض وكذلك أصحاب المصلحة في الإقليم والمُجتمع الدولي رجَّحتُ وصول الأطراف لإتفاق يُمهِّدُ لوقوع “تسوية سياسية” تنتقل بموجبها البلاد لمرحلة سياسية جديدة.
قد إنتهت الجولة الأخيرة من التفاوض بين تلك الأطراف بتوقيع الحكومة على”خريطة طريق” أعدَّتها الوساطة بينما رفضت الأطراف المعارضة ممثلة في الحركة الشعبية وحركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة وحزب الأمة القومي التوقيع عليها بحُجَّة أنها تعمل على إلحاقها بعملية الحوار الوطني الحكومية.
أحاول في السطور التالية قراءة مواقف أطراف المعارضة وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في المستقبل.
لا شك أنَّ الحركة الشعبية تمثل الفصيل الأكبر في العمل المسلح حيث تجددت حربها مع الحكومة في العام 2011 في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في أعقاب الخلافات التي دبَّت بينهما حول كيفية تطبيق ما تبقى من بنود إتفاق السلام الشامل الموقع بينهما في 2005.
يعلمُ الجميع أنَّ الحركة الشعبية والحكومة قد وقعتا في العام 2011 على إتفاق إطاري عُرف بإتفاق “نافع-عقار” يضعُ خطوطاً عريضة لكيفية حل القضايا الخلافية التي أدت لتجدد النزاع المسلح بين الطرفين.
ولكن الحكومة تراجعت عن الإتفاق نتيجة لصراع مراكز النفوذ داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم, ومنذ ذلك الحين فشلت أكثر من أحد عشر جولة تفاوض رعاها أمبيكي بين الطرفين بسبب إرتطامها بصخرتي نزع سلاح الحركة والإتفاق الإنساني إضافة لقضية الحل السياسي الشامل.
أدخلت الحكومة شرطاً جديداً لم يكن موجوداً في إتفاق “نافع-عقار” ويتمثل في مطالبتها بتجريد الحركة من السلاح قبل الدخول في التفاوض السياسي حول القضايا الخلافية, كما أنها ظلت ترفض مطالبة الحركة بمناقشة القضايا القومية من أجل التوصل للحل السياسي الشامل وأخيراً فإنها إشترطت للإتفاق الإنساني أن يتم إدخال الإغاثة لمناطق النزاع من داخل الأراضي السودانية.
قد نص إتفاق “نافع-عقار” الذي تمسكت به الحركة الشعبية ورفضته الحكومة دون مبرِّر سوى رجحان كفة أحد أطراف الصراع الداخلي حتى لا يجني الشخص الموَّقع عليه (نافع علي نافع) مكسباً سياسياً يرفع من أسهمه الحزبية على أن تعقد المفاوضات بين الطرفين ( في إطار حوار سياسي واسع علي المستوى القومي مع الاعتراف بأهمية التعاون بين الأطراف من أجل الاستقرار والتنمية والديمقراطية والإصلاح الدستوري في السودان ).
كما أنه نادى بأن ( يعمل الطرفان معاً لتحقيق العملية الوطنية الشاملة في السودان التي تهدف إلى الإصلاح الدستوري). وأنه ( نتيجة هذا النقاش يشكل موقفاً مشتركاً بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية قطاع الشمال خلال حوار سياسي وطني واسع يضم كل الأحزاب السياسية ). قد إتفق “الطرفان” إذن على أن يقودا “حواراً سياسياً وطنياً واسعاً” يؤدي “للإستقرار والتنمية والديمقراطية والإصلاح الدستوري”.
وهو ذات الأمر الذي قالت به إتفاقية خارطة الطريق التي نصت على أنَّ “الأطراف” إتفقت على ( أن التوصيات المتعلقة بمستقبل السودان يجب أن تنبع من عملية شاملة حقاً). وأنَّ هذا أمر مهم ( خاصة أن القرارات التي سيتم التوصل إليها من خلال هذه العملية الشاملة ستكون بمثابة أساس الدستور الوطني الذي ينبغي التفاوض عليه من خلال عملية شاملة ). إنتهى
بالطبع قد حدثت تطورات سياسية كبيرة في الخمس سنوات الماضية ومنذ توقيع الإتفاق, ولكن المدهش في الأمر هو تبدُّل مواقف الطرفين بصورة كبيرة حيال إتفاق خارطة الطريق الذي طرحه أمبيكي والذي – في ظن كاتب هذه السطور – يكاد يكون مُطابقاً لإتفاق “نافع –عقار” سوى بعض الخلافات الطفيفة فيما يتعلق بموضوع الحوار وكيفية التوصل للحل السياسي.
حيث أسقطت الحكومة مطالبتها التي ظلت تمثل العقبة الكؤود في سبيل الوصول لأية إتفاق والمتمثلة في نزع سلاح الحركة قبل التوصل للإتفاق سياسي, وهو الأمر الذي كان يجب أن تلتقطه الحركة وحلفائها من أجل البناء عليه لتحقيق المزيد من المكاسب.
وهكذا فإنَّ المتابع لجولات التفاوض المتطاولة لا بد سيلحظ أنَّ إتفاق خارطة الطريق قد حقق مكسباً رئيسياً للمعارضة حيث أنه ربط الإتفاق علي “الترتيبات العسكرية والأمنية” بتحقيق “الاتفاق السياسي” عبر الحوار وهو الأمر الذي ظلت ترفضه الحكومة طوال السنوات الخمس الماضية.
النقطة أعلاهُ تمثل في إعتقادي “أهم بند” كان يجب أن تتوَّجه إليه أنظار المعارضة المسلحة والسياسية التي إرتضت الدخول في عملية الحل السياسي الشامل, فهى تمثل الضمانة الأقوى لها في حال إنحراف مسار “الحوار الوطني” الذي إعترفت خارطة الطريق بأنه ناقصٌ ولا يكتمل إلا بمشاركة أطراف المعارضة.
كانت حُجَّة الأطراف المتفاوضة – وعلى رأسها الحركة الشعبية – أنَّ الإتفاق أراد أن “يلحقها إلحاقاً” بحوار الحكومة, وانها لم تمنح الفرصة لحوار متكافىء تشارك في إعداد أجندته, ولكن هذه حُجَّة ضعيفة فالحركة الشعبية نفسها إرتضت من خلال إتفاق “نافع-عقار” أن تنفرد هى و”المؤتمر الوطني” وحدهما – دون الأحزاب والحركات المسلحة الأخرى – بتحقيق عملية الحوار الواسع.
القبول بمبدأ الحوار يعني أنَّ الأطراف المتفاوضة لا بُدَّ أن تقدم “تنازلات” تسمحُ بالتوصل لحلول “توافقية”, وأنه لا يمكن لطرف ما أن يحقق جميع مطالبه, وبالتالي فإنَّ الاطراف المتحاورة تسعى لأن تحقق مكاسب عبر فرض النقاط التي تمثل أهمية قصوى لها مع مراعاة الظروف السياسية والعسكرية المُحيطة بمجريات التفاوض, وكذلك عبر النظر والتحليل الدقيق لموازين القوى التي تحكم الأطراف المتنازعة على الأرض.
صحيحٌ أنَّ “توازن الضعف” هو الصيغة التي باتت تحكمُ العلاقة بين الحكومة وجميع أطراف المعارضة, ولكن الصحيح أيضاً أنَّ الحكومة تتمتعُ “بقوة نسبية” مقارنة بالمعارضة تنبع من سيطرتها على جهاز وموارد الدولة لأكثر من عقدين من الزمن, وقد طرأت مؤخراً أمور كثيرة بعضها داخلي والبعض الآخر خارجي زادت من هذا التفوق الحكومي النسبي.
من بين تلك الأمور الإنتصارات الميدانية الكبيرة التي حققتها الحكومة في دارفور بالإضافة للتحول في سياسة السودان الإقليمية تجاه دول الخليج العربي والسعودية والذي أثمر عن تعهدات بمساعدات عسكرية ضخمة للسودان قيل أنها بدأت في التدفق بعد الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية السعودي للسودان.
كذلك دخلت في المشهد بقوة قضايا الإرهاب واللجوء وتهريب البشر, وهى القضايا التي تمس في الصميم مصالح الدول الغربية والمجتمع الدولي صاحب التأثير الأكبر في ملف التفاوض السوداني, حيث بدت الحكومة السودانية كشريك أصيل في خطط تلك الدول لمواجهة تلك الظواهر وانعكس هذا الأمر في الجولات الأوروبية الأخيرة لوزير الخارجية إبراهيم غندور.
الأهمية الحاسمة للدور الخارجي تبَّدت بوضوح في المواقف المعلنة للولايات المتحدة الأمريكية ودول الترويكا والمنظمات الدولية والتي أعلنت ترحيبها بتوقيع الحكومة على إتفاق خارطة الطريق ووعدت بممارسة ضغوط على المعارضة السودانية لقبول ذلك الإتفاق, وهى الضغوط التي أقر بها الأستاذ ياسر عرمان رئيس الوفد المفاوض للحركة الشعبية.
وتنبعُ أهمية هذا الدور من أنَّ المعارضة ظلت على الدوام تسعى لإشراك المُجتمع الدولي من أجل الضغط على الحكومة السودانية في مختلف القضايا وهى كذلك رمت بكل بيضها في سلة “الخارج” ولم تبذل مجهوداً يذكر من أجل تقوية وجودها “الداخلي” عبر تحريك القواعد الجماهيرية صوب تحقيق أهدافها.
ولذلك فإنَّ المعارضة تبدو اليوم في موقف لا تحسد عليه حيث بات أصدقاء الخارج أقرب للموقف الحكومي, وفي نفس الوقت فإنَّ الشارع منصرفٌ عن خطابها أو في أفضل الأحوال يعيش حالة من “اللامبالاة” حيال حالة “الإنفصام” التي يُعاني منها ذلك الخطاب الذي يرمي بثقله في التفاوض والحوار بينما يُنادي في ذات الوقت بإسقاط النظام عبر الإنتفاضة !
ومما يُفاقم من حالة الضبابية والإنفصام تلك هو “المواقف العملية” لبعض الأحزاب التي تهدد بالخروج للشارع لإسقاط النظام في أجهزة الإعلام بينما ذلك الخروج لا يُعبِّر عن قناعتها الأساسية, ومثال ذلك مواقف حزب الأمة ممثلاً في شخص زعيمه الإمام الصادق المهدي الذي وقف في وجه المتظاهرين أبَّان أحداث سبتمبر 2013 ومنع خروجهم للشارع ورفض إعطاء الإشارة لقواعد حزبه للخروج للشارع.
ومن ناحية أخرى فقد بدأت تظهر أصوات جدية داخل معسكر المعارضة تنادي بضرورة “وقف الحرب” بأية ثمن بإعتبار أنها لم تعد تجدي وأنَّ المتضررين منها هم في واقع الأمر “بسطاء الناس” وليس النظام الذي – بحسب تلك الأصوات – أضحى المستفيد الأكبر من إستمرار تلك الحرب.
لكل هذه الأسباب يبدو أنه كان من الأوفق لأطراف المعارضة التي إنخرطت في التفاوض مع الحكومة أن توقع على إتفاق خارطة الطريق بإعتبار أنه يعكس واقع توازن القوى داخلياً وخارجياً, ولكونه إشتمل على مكسب أساسي يتمثل في إرجاء الحديث عن الترتيبات العسكرية لما بعد مرحلة التوافق السياسي عبر الحوار.
يُضاف إلى الأسباب أعلاه سببٌ آخر ربما يُشكل ضربة كبرى جديدة للمعارضة, وعلى وجه الخصوص للحركة الشعبية, وهو الأنباء الواردة عن الإنتصارات العسكرية الحكومية في مسارح العمليات في جنوب كردفان, وهو الأمر الذي قد تكون مُحصلته الأخيرة شبيهة بما حدث للحركات المسلحة في دارفور.
برفضها التوقيع على خارطة الطريق وبعد فشل إسقاط النظام عبر القوة العسكرية أو الإنتفاضة الشعبية فإنَّ المعارضة تعيش حالة من التوهان وفقدان الإتجاه وهو الأمر الذي سيتطلب منها إعادة ترتيب أوراقها وتجميع صفوفها من أجل تغيير واقعها المتأزم بصورة كبيرة.
إن كان ثمَّة مكسب وحيد حققته القوى التي رفضت التوقيع على خارطة الطريق فهو يتمثل في إتخاذها “موقفاً جماعياً موحداً” وهو الأمر الذي ظل يشكل نقطة ضعف أساسية في العمل المُعارض منذ أن إتخذ حزب الأمة قراراً منفرداً بالتفاوض مع النظام الحاكم في جيبوتي وحتى توقيع إتفاق نيفاشا بين الحركة الشعبية والحكومة.
لا يزال الوسيط الأفريقي ثابوأمبيكي يسعى بين أديس أبابا والخرطوم لإقناع أطراف المعارضة بالتوقيع على خارطة الطريق, وقد صدرت تصريحات من زعيم حزب الأمة تفيد بأنهم على إستعداد للتوقيع عليها إذا أدخلت بعض التعديلات بينما الحكومة رفضت أية تعديل على الإتفاق, ومن المرَّجح أن يقوم الوسيط بإحالة الإتفاق لمجلس الأمن الدولي صاحب التكليف الأساسي وحينها سيدخل الملف السوداني في مرحلة جديدة يبدو أن مُحصلتها النهائية ستكون في صالح الحكومة.