الطريق الى “كاودا”…
جوبا الخرطوم .. السكة سالكة
بقلم : عمار عوض
على نار هادئة طبخت اعادت وتطبيع العلاقات ،بين دولتي السودان وجنوب السودان ،قبل ان تخرج الى العلن بتصريحات متسارعه ،تحت الاضواء الكاشفة، والتي بدأت الاسبوع الماضي ،عندما أصدر الرئيس السوداني عمر البشير قرارا بمراجعة الاتفاقيات الاقتصادية المبرمة مع جنوب السودان ،بما يؤدي لتخفيض بعض الرسوم على نقل ومعالجة النفط الذي تنتجه الأخيرة ، حسبما أفادت وكالة السودان للأنباء (سونا)، جمعة الاسبوع الماضي.
وقالت الوكالة إن التغييرات تأتي بعد زيارة وزير خارجية جنوب السودان بارنابا ماريال بنجامين في يناير للبلاد، وطلبه تقليل الرسوم التي تفرضها الخرطوم على بلاده لمعالجة ونقل النفط من جنوب السودان إلى الجارة الشمالية.
ليقوم بعدها الرئيس سلفا كير ميارديت برد التحية بأحسن منها على ما يبدو ،عندما أصدر أوامر لوحدات الجيش الجنوبي، بالانسحاب الفوري من الحدود مع السودان ،وابدى استعدادا للتطبيع الكامل معه ،وتفعيل اللجان المشتركة التي تم تشكيلها بعد انفصال بلاده في يوليو 2011.
وقال سلفا كير، حسب بيان صحفي صدر في جوبا الاثنين الماضي، أنه قرر التطبيع الكامل مع السودان، وسحب جميع القوات العسكرية التابعة لبلاده، من الحدود ، لمسافة 5 أميال جنوبًا وفقًا لحدود عام 1956.
وكشف سلفا كير في بيانه عن انه قرر بعد عطلة الكريسماس ، تطبيع العلاقات مع “أخوتنا في جمهورية السودان المجاورة، لذلك قمت بإيفاد مبعوث خاص إلى الخرطوم، نهاية ديسمبر المنصرم”، لمناقشة المسائل المتعلقة بتطبيع العلاقات الثنائية ومناقشة قضايا الحدود.
وتابع كير ” نحن بحاجة إلى العمل بشكل وثيق مع إخواننا وأخواتنا في الخرطوم، لتطبيع كل علاقاتنا.. سنقوم بإعادة تنشيط جميع اللجان المعنية بهذا المسائل”.
ومن الواضح ان البلدين كانا متفقين على ان يقوم كل طرف بخطوة معينة ،لتقابلها خطوة اخرى من الجانب الاخر ،وهو ما يظهر في اعلان البشير يوم الاربعاء ،عبر قرار جمهوري “تطبيع العلاقات بشكل كامل مع دولة الجنوب وفتح الحدود للتجارة والعبور بين البلدين ،كما وجه الجهات المختصة باتخاذ كافة التدابير لتنفيذ هذا القرار على أرض الواقع. لتكتمل بذلك فصول عملية التطبيع بعد قطيعة استمرت لسنوات ثلاث منذ حرب “هجليج-فانطاو” بينهما .
رغم ان هناك كثير من المحادثات كانت تعقد في عواصم البلدين ،وجارتهم اثيوبيا ،لضخ الدماء في شرايين العلاقة بينهما ،الا انها كانت تجابه بظروف وعراقيل تتحمل وزرها بشكل متفاوت الخرطوم وجوبا .
لكن ما يجدر قوله هنا بعد هذه التطورات المطلوبة والتي اتت مفاجئة للإقليم بأسره ان لم يكن العالم ،هو ان الطبيعي هو ان تكون العلاقات جيدة ،وممتازة بين البلدين الذين خرج احدهم من رحم الاخر قبل سنوات قليلة ،وكانا وسيظلا شعبا واحدا والى الابد ،مهما فعلت السياسة افاعيلها ،وهنا يحضرني درس قيم من سائق تاكسي اجرة في مدينة دبي ،وعندما عرفت انه “يوغندي ” قلت له ” نحن كنا جيران الى وقت قريب مع يوغندا ” ضحك وقال لي ” انتم جيراننا مازلتم سودانيين ـورغم الانفصال لكنكم لن تستطيعوا ان تمحوا من اذهاننا انكم اصبحتم شئ اخر غير انكم سودانيين، وقال You are still Sudanese”” .
عودة العلاقات وتطبيعها ،وفتح الحدود وكبح جماح التوتر ،هو امر مفرح ومفيد ليس لسكان الولايات الحدودية المنتشرين على طرفي اطول حدود دولية في افريقيا، وبينهم تصاهر وعلاقات اجتماعية واقتصادية ، تأثرت كثيرا بفعايل السياسة ، التي لم تكتفي بوضع الرجل وزوجته بين ليلة وضحاها في بلدين مختلفين ، و الان يعودوا ليصبحوا اقرب الى بعضهم ،بعد فتح الحدود الذي هو امر مفيد من ناحية اقتصادية ايضا لسكان السودان ،و صنوه جنوب السودان ،في ظل الكوارث الاقتصادية التي تضرب العالم ،ومن غير المعلوم متى ستنتهي هذه الازمة الاقتصادية وهبوط اسعار النفط .
تباينت التفاسير حول توقيت خطوة التطبيع ودوافعها ،فالبعض يقول ان النفط وهبوط اسعاره ،كان المفتاح الذي ادار عربة عودة العلاقات ،وهو القول الذي يردده اهل “الظاهر” في التحليل السياسي ،ويصفون الامر بانه صفقة املتها ضرورة المصالح المتبادلة “شيلني واشيلك”.
وان قبلنا بهذا التفسير ،نجد انه امر جيد لان السياسة تحكمها لغة المصالح ،وهي التي تضررت باغلاق الحدود ،فارتفعت الاسعار في الولايات المتاخمة للجنوب ،وبارت السلع التي ينتجها السودان ،ويستخدمها ويفضلها شعب الجنوب ،وضربها الكساد ، فتأثر اقتصاد السودان بشكل بالغ ،نسبة لتاثر ملايين السودانيين من هذا القرار ،وتحولت حياة الولايات الحدودية الى جحيم ،وتلظت نتيجة لذلك نيران الدولار في مركز الدولتين ،فسكان الولايات الحدودية هما رافد اساسي لاقتصاد البلدين.
اما اهل “الباطن” في التحليل السياسي يرون ان دوافع كل بلد مختلفة من الاخر في قبولهم التطبيع ،وفتح الحدود ،وسحب الجيوش منها ،اذ يرون ان “جوبا” التي تخشى من فرض عقوبات عليها نتيجة لعلمها المسبق بنتائج تقرير لجنة العقوبات في مجلس الامن ،الذي اوصى بفرض عقوبات على منتهكي حقوق الانسان في الحرب التي دارت في الجنوب ،هو ما دفع حكومة الجنوب لتطبيع العلاقات ،حتى يكون هناك تبادل منافع ،وان لا يختنق الجنوب سياسيا واقتصاديا حال ما فرضت عليه العقوبات “لا قدر الله”.
اضف الى ذلك ان حكومة جوبا ،تريد ان تسحب البساط من تحت اقدام غريمها نائب الرئيس السابق وزعيم التمرد المنتهي باتفاق السلام رياك مشار ،حيث نجد ان الحكومة في دولة الجنوب تعتقد ان الظهير الاقوى للحركة الشعبية في المعارضة، هي دولة السودان ،وان تطبيع العلاقات معها يكشف ظهر رياك مشار ،ويجعله بلا حليف ،فيقبل بشروط حكومة الجنوب في طريقة تنفيذ اتفاق السلام المتعثر اصلا، ويقطع عليه الطريق ان اراد العودة الى الحرب ،لان مشار حينها سيكون بلا حليف اقليمي ،وهي خطوة تنم عن ذكاء في طاقم الحكم في الجنوب ،فالتطبيع ينعش الاقتصاد من ناحية ،ويحرم مشار من الظهير الاقليمي ،يعني منشار جوبا “طالع ماكل نازل ماكل”.
باطن الخرطوم السياسي في التطبيع يكمن في ان بعض القادة السياسيين والعسكريين ،يرون ان سحب دولة الجنوب لقواتها من على الحدود ،غير انه سيخفف الضغط على مرابطة الجيش السوداني على الحدود ،تحسبا لاي حرب محتملة كما كانوا يتصورون.
ويجعل الجيش السوداني مرتاح في الحروب التي يديرها مع مواطنيه في اقاليم جنوب كردفان والنيل الازرق ،اضف الى ذلك فان “الباطن” يشير الى ان القيادة العسكرية السودانية، تعتقد ان سحب الجنوب لجيشه من الحدود ،سيكشف ظهر قوات الحركة الشعبية (ش)،ويظنون ان ذلك اول الطريق لسحقها ودخول مدنها الحصينة في “كاودا” و”يابوس”.
هذا التفسير والدافع قد يبدو وجيها من الوهلة الاولى ،لكن اذا صوبنا النظر في دفاتر التاريخ سنجد انه ليس وجيها ،بجهة سحق الحركة الشعبية ،ودخول مدنها التي تسيطر عليها ،وشاهدنا في ذلك ان يوسف كوه مكي ،سبق وان واجهته ظروف مماثلة لهذه ،وحينها لم تكن هناك دولة في الجنوب ،بل كان الجيش السوداني ،يبسط زراع قوته في اقاليم بحر الغزال المتاخمة لجبال النوبة ،ورغم انقطاع الامداد عنه نتيجة لذلك ،لم يستطيع الجيش السوداني انهاء تمرده على الخرطوم ،وحافظ يوسف كوه على مدنه ا،لتي كان يسيطر عليها ومنها “كاودا” ،حتى اتى اتفاق السلام الذي وقع في سويسرا 2001.
هنا يتضح ان لا سبيل لإنهاء الازمات ،و الحروبات التي تعتري جسد الوطن ،سوى بالسلام والتفاوض ،وهو الطريق الوحيد والمجرب على مر الدهور و الازمان ،وان تكلفة السلام اقل من تكلفة الحرب بآلاف المرات ،وان الارواح التي يمكن ان تزهق في سبيل تحقيق نصر عسكري ،اولى بها ان تعيش لتحمل معاول البناء لتشيد صرح الوطن الذي هدته هذه الحروب فهل من معتبر ؟.