Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

نحو أنسنة قضية الاغاثات لمتضرري الحرب ..”حجة في نقاش مقال المفاوضون الأشاوس”

بقلم : خالد عمر يوسف

[email protected]

رفد الأستاذان مجدي الجزولي و عارف الصاوي ساحة النقاش السياسي بمقال حسن الصياغة في قضية هي مما يجب أن يحتل مكان القلب في جدالات السياسة و محاججاتها , و الكاتبان ممن يؤمن لعمق تحليلهم و نفاذ مبضعهم الى ما وراء الأشكال و المظاهر لذا فأن ما يحمد لهذا المقال أنه أعاد موضعة قضية الحرب و السلام حيث يجب أن تكون و أنه قد أوفاها ما تستحق من نقاش ابتذله بعض ساسة الساعة الخامسة و العشرون ممن وفر لهم تطاول سنوات الحكم الشمولي مقعداً وثيراً في كابينة العمل السياسي, و للأسف لا يحتاج هذا المقعد للتعقل و التدبر و اقتراح ما ينفع الناس من سياسات و خطط, فقد كفاهم الواتساب عناء ذلك فصارت السياسة تمارس بالحلاقيم .. لا أولويات و لا تدبر و لا يحزنون.

يتناول مقال الأستاذين عارف الصاوي و مجدي الجزولي جولتي التفاوض العاشرة التي اختتمت بتاريخ 24 نوفمبر و تاليتها الموسومة ب ” غير الرسمية ” و يبدأ المقال بإدانة صريحة لطرفي النزاع بوصف الكاتبين لهما بمن “لا تربك ضمائرهم آهات الأمهات في ليل الحرب الطويل وهن يستسلمن لموت فلذات أكبادهن حيرى سوى من الأمل في رحمة الله. أما الأمل في حسن السياسة فالحق أنه انقطع منذ أمد بعيد، منذ أن استلت نخبة الحرب هذه، حاكمة ومعارضة، بنادق للحكم لم تعرف متى أو كيف تلجمها، كل يريد الفوز الكبير، ولا يشغله عن هذا المطلب شاغل سوى ربما متاعب حجز التذاكر من عاصمة إلى أخرى”.

و بهذا النص المشحون بالعاطفة يبدأ الكاتبان في رواية قصة الجولة العاشرة بعد أن قاما بتهيئة المتلقي سلفاً لتحميل الطرفين ذات الوزر, و هي عجلة غير محمودة في مقال انتقد عدم استقلالية البعض في تعاطيهم مع شأن الحرب و السلام , ثم أن هذا الحكم المتعجل لا يتسق حتى مع روايتهما لقصة المفاوضات حسب تقصيهما لما دار في دهاليزها حيث ذكر المقال أن الموقف الحكومي كان كالاتي “طرحت الحكومة على الحركة الشعبية ما يشبه بيان استسلام غير مشروط، شجعها على ذلك ربما التحول في ميزان القوى العسكرية في المنطقتين إلى صالحه”. في حين كان موقف الحركة الشعبية كما وصفه الكاتبان “الحركة، ولا غرابة، رفضت الطرح الحكومي لكن قفزت أمامه بتجديد الدعوة إلى حل سياسي شامل على أساس “مؤتمر قومي دستوري” يَجبُ حوار الرئيس البشير الوطني. أما بشأن القضية الإنسانية فقد جددت الحركة مطلبها بفتح منافذ للمساعدات الإنسانية تمر عبر حدود السودان مع جنوب السودان وأثيوبيا دون تدخل حكومي” ثم و للغرابة واصل المقال تحميل الحركة الشعبية و رئيس وفد تفاوضها ياسر عرمان غالب وزر تعثر المفاوضات رغم وصف موقفها برفض الاستسلام غير المشروط بغير الغريب.

سأحاول فيما يلي رواية قصة الجولة العاشرة كما شاهدتها بغية طرح زاوية أخرى من القصة أرى أن المقال قد أغفلها. بدأت الجولة يوم 19 نوفمبر بمقترح طرحته الآلية الافريقية يقوم على وقف للعدائيات يستمر لستة أشهر تراقبه قوات اليونيسفا التي تشرف على منطقة أبيي و تتخذ من كادوقلي مقراً لرئاستها, يسري وقف العدائيات مباشرة عقب توقيعه ليفتح الباب لتفاوض بين الطرفين حول ترتيبات المنطقتين يعقبه اجتماع تحضيري لكافة اطراف ألأزمة السودانية وفق منطوق بياني مجلس السلم و الأمن الافريقي 456 و 539 يمهد الطريق للاتفاق حول اجندة التفاوض و اطرافه و مكانه و رئاسته و غيرها من قضايا اجرائية. في جانب توصيل المساعدات الانسانية اقترح الوسيط الافريقي لجنة ثلاثية من الطرفين و الأمم المتحدة تشرف على توصيل الاغاثات ساكتاً عن مسارات الامداد. قدم الوسيط ورقته هذه و انتظر مكتوب الطرفين, سلمته الحركة الشعبية ردها مساء ذات اليوم بقبول المقترح مع ملحوظتين هما ادماج مسار المنطقتين المقترح البدأ فيه فورا ضمن مسار التفاوض حول القضايا القومية و تحديد مسار الاغاثة لتشرف على توصيله ذات اللجنة الثلاثية من مسارات متعددة تشمل اثيوبيا و جنوب السودان و الأبيض و الدمازين.

كان للوفد الحكومي رأي اخر فقد لجأ لوسائل الإعلام المرابطة عند مداخل قاعات التفاوض فاتحاً النار على الوسيط الإفريقي واصفاً مقترحه بالمنحاز الى رؤية الحركة الشعبية و من ثم صاغ مفاوضوه ورقة موقفهم و التي اسماها عارف و مجدي عن حق “ورقة الاستسلام غير المشروط” و التي حددت مدة وقف العدائيات بشهر واحد فقط تتم فيه اتفاقية اطارية للمنطقتين بموجبها يتم تسريح الجيش الشعبي و ادماجه في القوات المسلحة , احتشدت الورقة بالكثير من الفقرات التي تتحدث عن السيادة الوطنية لذا فقد رفض المفاوض الحكومي مبدأ الرقابة الدولية و اقترح لجنة ثنائية من الطرفين دون طرف ثالث محايد لتشرف على رقابة وقف العدائيات و على توصيل الاغاثات من داخل السودان في رفض حاسم لأي مسار خارجي و طالبت الورقة كذلك بنشر القوات المسلحة في حدود البلاد التي تسيطر عليها الحركة الشعبية بشكل فوري.

ازاء مطلب ” الاستسلام غير المشروط ” هذا كان ” لا غرابة ” أن ترفض الحركة الشعبية المقترح الحكومي و أن تنهار المفاوضات, الغريب هنا عن حق هو نتائج البحث المستقل الذي قام به الأستاذان عارف الصاوي و مجدي الجزولي و الذي ابتدراه بتحميل الطرفين مسؤولية استمرار الحرب و خلصا لتحميل الحركة الشعبية غالب الوزر في ما تبقى من مقالهما ابتداء بعدم منطقية طلب الاغاثة عبر محور خارجي مروراً بنقد مذكرة المجتمع المدني المناصرة لموقف الحركة الشعبية و امتدادا لتفنيد كل ما هو صادر من جهة الحركة الشعبية من تصورات حول الحل السياسي الشامل و الجيش القومي الواحد و لم ينسى الكاتبان ان يعرجا على انسحاب ياسر عرمان من انتخابات 2010 و ركاكة شعره التي آذت ذائقتهما الأدبية.

طلب المقال النظر الى القضية الإنسانية في المنطقتين و مسألة الإغاثة و كيفية توصيلها دون الأخذ السريع بموقف طرف حربي ضد آخر و هو مطلب حق ضاع في ثنايا المقال بل و حاد الكاتبان حتى عن البحث الأمين في حجة كل طرف من الأطراف المفاوضة فزعما بأن الحركة الشعبية طالبت بمسار خارجي لتوصيل الإغاثات عبر أثيوبيا و جنوب السودان “دون تدخل حكومي” و ذهبا الى استدعاء الحركة لتجربة الممرات الآمنة على سنة شريان الحياة و هو ما لم يحدث في الجولة العاشرة من المفاوضات و لا أدري من أين استقى المقال هذه المعلومات !!

طالبت الحركة الشعبية بمسارات متعددة تحت أشراف ثلاثي يضم الطرفين و الأمم المتحدة وفق آلية محددة للتحقق من طبيعة المساعدات التي تأتي عبر الحدود مستدعية تجربة اتفاقية بيرقن ستوك التي وقعتها مع النظام عام 2002 و لم يرى فيها النظام في حينها مساساً بالسيادة الوطنية و كان نتاجها سلاماً دام لتسعة سنوات في جبال النوبة.

عززت الحركة الشعبية موقفها بالاستناد لمباديء القانون الدولي الإنساني و التي تحظر وضع أي قيود على توصيل المساعدات الإنسانية. هذا الموقف ليس بالجديد فقد وقع عليه الطرفان مؤخراً فيما عرف بالإتفاق الثلاثي في اغسطس من العام 2012 و الذي يوكل للأمم المتحدة و الإتحاد الافريقي و الجامعة العربية توصيل المعونات.

هذا الإتفاق صار أساساً مقبولاً للجميع و قد صرح وزير الخارجية ابراهيم غندور عقب لقاءه رئيس مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية بالأمم المتحدة، جون جينق في اكتوبر الماضي باستعدادهم لتفعيل الإتفاق “شريطة التأكد من أن الطائرات لا تحمل أسلحة لدى دخولها السودان ولا تحمل المتمردين عند خروجها”.

عليه فإن السؤال الطبيعي هنا يجب أن يوجه لوفد الحكومة المفاوض, ما الذي أستجد حتى صار أمر المساعدات شأناً من شئون السيادة الوطنية و على أي شيء يستندون في مطالبهم بتوصيل للمساعدات يقع بالكامل تحت سيطرة النظام و هو طرف من أطراف النزاع !!؟

لم يجد الكاتبان الزمن الكافي لمناقشة هذا الموقف الحكومي و وضعه موضع المساءلة ربما نسبة لما أسمياه بالتحول في ميزان القوى العسكرية في المنطقتين لصالح حكومة المؤتمر الوطني بل أن صديقنا عارف الصاوي مضى ليقول في نقاش أثير حول المقال بأنهما لم يجدان مثالاً على اغاثة بمحاور خارجية غير شريان الحياة و الذي حشدا ضده من الأسانيد ما حمله مسؤولية إطالة أمد الحرب و ختم عارف بخلاصة تقول أن في تقديره الشخصي ” مافي حكومة مسيطرة يمكن أن توافق على اغاثة بمحاور خارجية”.

هذا المنطق يحتشد بالمغالطات فهو ابتداء يغالط مقدمة الكاتبان العاطفية التي تطلق صرخات الإستغاثة لإعانة المكلومين في مناطق النزاع و من ثم بقلب بارد ينتقد المقال توصيل الأغاثة لهم باعتبارها تطيل أمد الحرب , أي أنه يقترح قتل المدنيين كطريق لتقصير أجل الحرب !!! كما ان منطق صديقنا عارف هذا يريد أن يسلم أمر الإغاثة لحكومة مسيطرة لم يخضعاها في مقالهما للفحص الأخلاقي اللازم فلم يذكرا البتة انها ذات الحكومة التي ترسل طائرات الانتنوف المحملة بالقنابل لا بالغذاء لمواطني المنطقتين!!.

وهذا المنطق يرهن القضية الإنسانية لمعايير توازن القوى العسكري فالمنتصر هو من يفرض شروطه و هذا منطق لا يخالف محض الوجدان السليم فحسب بل يخالف مباديء القانون الدولي الإنساني و أولها مبدأ الإنسانية الذي يكفل لسكان المناطق المتأثرة بالحروب حقوقهم كاملة دون ارتهان لمنطق القوة العسكرية و المغالطة الأنصع في سياق هذه المغالطات هي أن هنالك امثلة عديدة على ممرات اغاثة خارجية تحت ظل حكومات مسيطرة و منها تجربة الممرات الآمنة لتوصيل الإغاثات الى غزة وفق قرار مجلس الأمن الدولي 1860 و لا أظن بأن حكومة البشير أكثر سيطرة أو عتاداً أو دعماً دولياً من حكومة الاحتلال الاسرائيلي !!

نحتاج الآن أكثر ما نكون لنقاشات أعمق حول قضايا الحرب و السلام في السودان و أولوية القضايا الإنسانية و أوضاع المدنيين في مناطق النزاع, توفرت للكاتبان فرصة مهمة للإسهام في هذا النقاش و لكنهما اضاعاها في لجاج السياسة و التحيزات المسبقة .. لدى الكاتبان يستوي النظام و معارضته .. لا خير في عمل عسكري و لا في معارضة مدنية و لا في مذكرات احتجاجية … عدم يولد العدم و هو فعل محمود في أوساط مثاقفات ” البرجوازية الصغيرة ” و لكنه لن يوصل الطعام و الدواء لمواطني دارفور و المنطقتين و لن يسكت ” آهات الأمهات في ليل الحرب الطويل” … تترجم هذه المباديء الإنسانية في عمليات محددة توصل الإغاثات الى محتاجيها لا مهرب من ذلك و علينا خوض هذا النقاش الآن و بالجدية اللازمة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *