لويس إلياردو … نجم في مجرات وحدة الجنوبيين
بقلم ياسر عرمان
سمعت صوت الناي والناعي يقول بأن لويس إلياردو قد رحل ثم هاجت الذكري وهاجمتني الإسئلة تباعاً، هل إن كل ما تبقى من نضالات شعوب الجنوب هو ماترسخه أجهزة الإعلام هذه الأيام عن صورة الجنوبي التي تنحصر في الصراع على السلطة والفساد؟ هل كانت نضالات شعوب الجنوب بتوجيه من الخارج وبلدان الغرب كما تزعم تلك الأجهزة؟ الم تكن تضحيات الجنوبيين العظيمة سوى إستجابة لأجندة خارجية؟ وهل كانت مسيرة الحركة الشعبية الطويلة سوى مسيرة في حب كراسي السلطة والفساد؟ هل نسينا أم تناسينا ضوء القمر في أجمل ليالي وشعاع النجوم يبهر كاللألي؟ مئات الألاف من النساء والرجال الشجعان الذين إلتقينا بهم وكانوا سيلاً هادراً من المتطوعين وجادوا بأرواحهم دون من وأذي، ودولار، ودون سلطة وفساد كيف سيتم تصنيفهم؟ معاناة الجنوبيين الطويلة بسالتهم، شهداءهم، وإقدامهم والإقدام قتال، هل كانت بإشارة من الخارج؟ هل نسقط ذاكرتنا وعقولنا من أجل صحف الصباح أو المساء؟ هل نصدق الإعلام أم نصدق تضحيات الجنوبيين وشجاعة نساءهم ورجالهم بل وأطفالهم؟ ألم نلتقي بكل هؤلاء؟ كيف ننسى تضحياتهم بل كيف ننسى أسماهم وصورهم؟.
نعلم إن الصراع على السلطة والفساد والقبلية هي إحدى مكونات صورة اليوم لا شك في ذلك ولكن هل يجوز أن يمحوا ذلك تضحيات ونضالات الجنوبيين؟ هل يزيل ذلك الملاحم الإنسانية العظيمة التي رسموا طريقها بدماءهم جيلاً بعد جيل؟ إن القضية الإنسانية وملاحمها المتصلة لشعوب الجنوب السوداني وللحركة الشعبية لتحرير السودان سوف تكتب وتحفظ دون تردد أو خوف أو هروب من جانبها السيئ المتعلق بالسلطة والفساد والقبلية، ولكن هذا الجانب لن يستطيع أن يقصي ويلغي تضحيات الجنوبيين وإنسانيتهم وبطولاتهم وقدرتهم الفريدة في التطلع نحو المستقبل، ففضل الريادة كان لهم في إثارة كثير من قضايا البناء الوطني قبل الآخرين وإن فكرة السودان الجديد تظل باسقة والإبتعاد عنها هو الذي أدى الي ماحدث وليس العكس. هذه الإسئلة تطرح قضايا كبيرة عظيمة وتحتاج الي إجابات ولكني في هذه المقالة أردت أن أحتفي بصديقي وإبن جيلنا لويس إلياردو والذي تاريخه متشابك مع كل تلك الإسئلة ومع إجاباتها معاً، ولكن حديثي اليوم في مقالتي القصيرة هذه سوف أكرسه للحديث عن لويس إلياردو وسوف يأتي اليوم الذي يتقدم فيه الكثيرين بالإجابات على هذه الإسئلة وغيرها.
رحل في صمت الصديق والرفيق العزيز لويس إلياردو خريج جامعة جوبا في بدايات الثمنينيات والمولود في شرق الإستوائية والمنحدر من قبيلة اللاتوكا ذات التاريخ العريق والنظام الإجتماعي الدقيق. ولويس إلياردو ضابط سابق بالجيش الشعبي وصل رتبة اللواء وخاض الحرب منذ بداياتها وحتى نهاياتها بإيقاع موحد لا نشاز فيه، وقاتل في مناطق عديدة من جنوب السودان حينما كان القتال مجاناً وتطوعاً، وعمل بوحدات مختلفة من الجيش الشعبي وظل مخلصاً للحركة والجيش الشعبي حتى زف موعد الرحيل.
يقع لويس إلياردو في قلب قضايا شائكة شديدة الخطر على مستقبل دولة السودان الجنوبي، فتاريخه يرتبط بعملية البناء الوطني بين شعوب الجنوب وكيفية الوصول الي مشروع وطني قائم على المواطنة بلا تمييز وقادر على توحيد الجنوبيين من مختلف أطيافهم وتنوعهم الثقافي، أي كيف الوصول الي الوحدة في التنوع، أي الي أمة ألوان الطيف تلك القضية التي طرحت في السودان حينما كان موحداً وهاهي تطرح على الجنوبيين السودانيين مرة آخرى. والحركة الشعبية التي رفعت شعار توحيد كل السودان وبتفاعل عوامل كثيرة إنتهى حلمها الي وقف التنفيذ، وقيام دولتين تطرح عليهما نفس المهام القديمة. كما أن الحلم بقيام (إتحاد سوداني) بين دولتين مستقلتين يظل إمتداداً لمهمة توحيد السودان بين دولتين بدلاً من دولة واحدة مثلما تم طرح هذه القضية بالأمس قبل إنفصال الجنوب.
وأهمية لويس إلياردو وقيمته التاريخية الكبير بالنسبة لي كانت هي في القرار الذي إتخذته مجموعة مهمة من أبناء الإستوائية ومثقفيها بالإنضمام للحركة الشعبية في بدايات تكوينها وفي طقس إستوائي سياسي غير ملائم بل ومنفر وفي وقت كانت الحركة تصنف على إنها حركة للدينكا أو في أفضل الأحوال حركة للقبائل النيلية وكان من الصعب على مثقف إستوائي أن يخترق حاجز صوتها السياسي ويغامر بالإنضمام إليها في الثمانينيات، لم يكن لويس إلياردو وحده بل كان في معية مجموعة مهمة وتاريخية من أبناء الإستوائية لازال بعض منهم فاعلين في المسرح السياسي الجنوبي على أعلى المستويات، ولكن رحل عدد من رموزهم وأهمهم أسكوبس كيني لأبرو – بيري أوكورك – كزيتو أدوهو – وإزايا عثمان إزايا- ولا يزال بعضهم فاعلين مثل نائب الرئيس وأني إيقا ودكتور جون صبور وأيزك أوبوتو مامور وغيرهم.
في يوم صيفي ساخن جاءني عدد من نواب غرب الإستوائية وكنت حينها رئيساً للكتلة البرلمانية للحركة الشعبية وطلبوا مني إن سمح وقتي أن أشارك في حفل تأبين لاحد قادتهم من ضباط الجيش الشعبي من منطقة كاجو كيجي من قبيلة الكوكو إحدى قبائل مجموعة الباريا، وسألتهم عن من هو ذاك الشخص؟ فذكروا لي إنه اللواء إسكوبس كيني الذي رحل مؤخراً، بعد صمت وجيز قلت لهم ” إن حضوري لتأبين إسكوبس كيني هو واجب تترك له واجبات وهو رفيق عزيز زاملته سنوات الحرب وأعرفه عن قرب وتحدثت عن صلتي ومعرفتي بأسكوبس كيني وأهميته في تاريخ الحركة وهو الذي لم يتردد للإنضمام للحركة في بداياتها متجاوزاً مصاعب العلاقات بين الإستوائيين والنيليين وهذا جزءاً عزيزاً من تجربتنا وتاريخنا المشترك”.
لويس إلياردو ظل في قلب الحركة الشعبية وتقلباتها حتى رحل وهو إنسان ودود حلو المعشر يتمتع بدفء إنساني وسياسي ومتقبل للآخرين، وعمل في جبهات مختلفة في جنوب السودان وتمتع بصداقة وإحترام قادة وقواعد الحركة الشعبية من مختلف أنحاء السودان وكان جزء من وفد المقدمة بعد توقيع إتفاقية السلام الذي حضر الي الخرطوم في عام 2005م وهو ذو حس فكاهي وإنسان مرح وأكتسب تجارب واسعة في سنوات الحرب ولم يكن ينطوي في علاقاته على أبناء قبيلته أو منطقته، وماتبقى من لويس إلياردو في ذاكرتي اليوم هي إنسانيته وبهجة اللقاءات التي جمعتني به وقد أحزنني ذهابه المبكر وغيابه قبل المواعيد التي كانت تنتظره فقد إستحق لويس إلياردو موعداً مع السلام والأمل، وبناء دولة الجنوب الجديدة، ولكن الرياح قد تاتى بما لا تشتهي السفن، مع ذلك يظل لويس إلياردو على موعد مع الشباب الباحثين عن المستقبل وعن ما يوحد الجنوبيين لا ما يفرقهم، هؤلاء سيجدون في تاريخ لويس إلياردو شجرة ظليلة للقاء، سيلتقون بالمستقبل وبلويس إلياردو فمن يسعى منهم لتجاوز أجندة القبلية ولتوحيد الجنوبيين وضميرهم ووجدانهم السياسي، فإن من ياتي على هذا الطريق سيجد لويس ألياردو وأسكوبس كيني وبيري أوكروك سيجدهم في قمة شبابهم السياسي وبكامل أناقتهم في حب الجنوب سيجدون بصماتهم ماثلة لاتنضب سيجدون حسن إختيارهم وسموءهم الإنساني فوق تقسيمات القبائل والجغرافيا باحثين عن الصلات ومايجمع الجنوبيين وهي البضاعة التي تحتاجها شعوب الجنوب اليوم.
في عام 1988م إنضممت الي الرئاسة المتحركة للدكتور جون قرنق دي مبيور قادماً من النيل الأزرق وذهبنا براً في رحلة طويلة من جبل رعد في أقصى الحدود السودانية الإثيوبية في نهايات ولاية أقليم أعالي النيل الي جبل بوما ومن ثم عبرنا الي صحرا كاسنغور في شرق الإستوائية التي هي بمقاييس شمال السودان غابة، حتى وصلنا الي مدينة كبويتا كان الوقت خريفاً وكان دكتور قرنق مبيور لايكل ولا يمل وهو يمضي ساعات طويلة عبر طرق سيئة وأمطار إستوائية تتساقط ساعات طويلة والعربات التي تقلنا غارقة في الوحل ولم تسعفنا سوى عربات الأورال الروسية المعدة لمثل هذه الطرق وبعد أن وصلنا الي مدينة كبويتا أمضينا خارجها عدة أيام إصبت خلالها بملاريا كانت الأسوأ في حياتي، ثم واصلنا رحلتنا الي قرية (هاليو) الرابضة بجبال شرق الإستوائية بالقرب من مدينة توريت، حيث كان الدكتور جون قرنق يخطط للإستيلاء عليها، وأخذ في أخذ حامياتها الخارجية الواحدة تلو الآخرى حتى إستولى عليها في عام 1989 وبدء بالهجوم على أهم الحاميات الخارجية بالقرب من توريت حامية (كيالا) وهي أقوى النقاط الخارجية لتوريت وكان الطيران الحكومي يبحث عن رئاسته دون جدوى، في ذلك الوقت إلتقيت بأصدقائي وياي دينق أجاك وبيور أجانق (بيور أسود) كانت المرة الأولى التي أعمل فيها بالقرب من قائدنا الدكتور جون قرنق وإستمتعت بالحوار معه في قضايا عديدة عن السودان وإفريقيا والعالم ولاتزال هذه الحوارات عالقة بذهني، وطلب مني أن أطلع على كتابات الشيخ أنتا ديوب وحدثني عن تأسيس الحركة الشعبية وعن رؤيته للسودان الجديد، وإمتدت علاقتي به وإذدادت وإذدانت متانة على مر الأيام حتى إستشهاده.
في (كيالا) إلتقيت بالصديق بن أدوهو خريج جامعة جوبا والذي يمت بصلة القرابة للويس إلياردو ودرس معه سوياً في جامعة جوبا وكانوا قد إتخذوا ذاك القرار التاريخي الذي حكم مسار حياتهم للأبد، وقد إختلف بن أدوهو مع قيادة الحركة الشعبية وخرج بعيد أحداث الناصر، وإستمر لويس إلياردو دخل صفوف الحركة الشعبية، وتعرفت عن طريق بن أدوهو في الفترة التي أمضيناها سوياً بالقرب من (كيالا) وحواراتنا التي لاتنقطع على عالم قبيلة اللاتوكا وشرق الإستوائية، فقبيلة اللاتوكا قبيلة دقيقة التنظيم ولها قواعد صارمة في تنظيم حياتها توارثتها جيل بعد جيل وكابر عن كابر وفي داخل (كيالا) المحاصرة كانت تقطن ملكة قبيلة اللاتوكا التي تنحدر من سلسلة ممتدة من الملوك والملكات، وقد قمت مع بن أدوهو بالصعود الي أعلى قمة جبل (أُوللي) الذي كانت تجري فيه مراقبة القصف التحضيري لحامية (كيالا)، وفي قمة الجبل توجد مقبرة بها مجموعة كبيرة من الجرار وتحوي كل جرة على رفات ملك من الملوك. وفي كل قرية من قرى اللاتوكا يوجد منزل للضيافة يأوي إليه الزوار وكل قرية تتخذ رمز شعاراً لها يحض على القيم الخيرة أو الإتحاد، وفي كل قرية يقسم السكان الي جيلين جيل شاب وحاكم يسمى (المنمجي) وهم يتولون السلطة التنفيذية ويقررون في كآفة الشئون ما عدا إعلان الحرب وهو شأن يترك القرر فيه الجيل الأكبر سناً وهم حكماء القبيلة الذي يطلق عليهم (الأمنقات) ولهم وحدهم إتخاذ قرار الحرب، وهو أخطر القرارات المتعلقة بحياة أفراد القبيلة، وعند اللاتوكا تسلم السلطة من جيل الي جيل ويقام إحتفال تطفئ فيه النيران في كافة مضارب القبيلة ثم توقد نار جديدة بفرك الأعواد أو الإحجار وهي نار الجيل الجديد والتي تستمر الي حين إطفاءها وإيقاد نار الجيل الذي يعقبه، وكم تحتاج أحزابنا السياسية لأخذ دساتيرها في التداول السلمي للسلطة من قبيلة اللاتوكا.
في هذا التنظيم الدقيق ولد وترعرع صديقنا لويس إلياردو وواجهته أسئلة الحياة وعذاباتها وإختار طريق الإنضمام الي الحركة الشعبية بعد أن تخرج من جامعة جوبا لم يتزحزح من موفقه حتى رحل، وإلتقى بجموع السودانيين من كآفة أرجاء السودان الذين حفلت بهم الحركة الشعبية فالحركة الشعبية لم تكن حركة سياسية فحسب بل وعاءاً إجتماعياً وثقافياً تلاقحت فيه ثقافات شعوب وجماعات من مختلف أنحاء السودان.
تمتع لويس إلياردو بإحترام الذي إلتقوه ولأن مسيرة الإنسان في الحياة فسحة قصيرة فإني أجزم بان لويس إلياردو قد عاش حياته على نحو جدير بها وقد أمضاها غير هياب في خدمة القضايا التي آمن بها وإنه ساهم وجيله على نحو حاسم في توحيد الوجدان السياسي والأجتماعي للجنوبيين السودانيين وساهم في صناعة تاريخ جديد من التضامن والعمل المشترك والتفاهم بين جميع القوميات والقبائل وإنسان الجنوب، وإنني أومن إن جهود لويس إلياردو وجيله لن تذهب سدى فبعد أن ينحسر هذا الطوفان سوف تبدوا آثار وبصمات لويس إلياردو وجيله باينة للعيان ومشرقة وزاهية فالخير خير وإن طال الزمان به.
حينما خاطبت حفل تأبين أسكوبس كيني في الخرطوم قلت لأهله من قبيلة الكوكو إنني كنت في كاجوكيجي وأعرف تلك الأرض وجمال الطبيعة ولو كنت المسئول عن ولاية الخرطوم لأعطيتكم أراضي سكنية في أجمل مناطق العاصمة حتى ترتبطوا بهذه الأرض الي الأبد وحتى ترتبط الخرطوم بكاجوكيجي الي الأبد، وإن الذي لا يعرف من أين أتيتم يجهلكم وإنني تعرفت على أسكوبس كيني الذي تخرج من جامعة الخرطوم في أزمنة صعبة وإن أسكوبس كيني وبيري أوكروك ولويس إلياردوا وكزيتو أدوهو وإزايا عثمان إزايا وواني إيقا قد ساهموا في توحيد الجنوبيين وإن إسكوبس كيني يجب أن يحتفى بحياته فقد إختار الإنحياز لقضاياهم وإنضم للحركة الشعبية في وقت كان هنالك شرخ بين القبائل الإستوائية والنيلية وقد عبر إسكوبس كيني وزملاءه الي الضفة الآخرى ضفة وحدة الجنوبيين وإن التاريخ سيضعهم في المكانة التي تليق بهم.
لم يعد لويس إلياردو بيننا ومضى مثل ما سنمضي جميعاً، ولكنني حينما نظرت خلفي الي أيامي التي إنقضت والي أصدقائي الراحلين ورايت صورهم جميعاً وبينهم لويس إلياردو سقطت من عيني دمعة وفي وجهي إرتسمت إبتسامة عند هذه الصور الجميلة للرجال وللنساء الضالعين في التمرد والشجاعة والذين إلتقينا بهم في طول الطريق، وحينما أعادت ذاكرتي صورهم تأكدت من صحة خيارتنا وإختياراتنا في هذا العالم المضطرب والذي يعج بالمتناقضات وبالجمال وبالبطولة، وليس بإمكاني الا أن أقول لشعبنا في السوداني الجنوبي ولأجياله الجديدة إحتفوا بلويس إلياردو وبأمثاله من أبناء وبنات الإستوائية وبحر الغزال وأعالي النيل فهم زادكم نحو المستقبل وفي عملية البناء الوطني الشاقة.
وأخيراً إن مابيننا وبين الجنوب وشعوب الجنوب قصة حب طويلة ممتدة في عمق التاريخ والجغرافيا ونحن تعلمنا أن نحب الجنوب وإن نحب الجنوب مثل ما نحب الشمال لانفرق بين أحد في المليون ميل مربع بل نذهب وتبحر سفننا نحو الإنسانية جمعاء.
* الكاتب هو الامين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال