Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

نبىُّ هذا الزَّمان : من ثمارهِ عرفوه

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

تهدفُ هذه الكلمة للنظر في أحد أكبر المآزق التي يقعُ فيها أصحاب التفكير الآيديلوجي، ومن بينهم أتباع آيديلوجيا الإسلام السياسي، والمتمثل في النظرة “العاطفية” غير العقلانية لموضوع “القيادة”، والتي تعمل على التغاضي عن سلبيات “الزعيم” وإخفاقاته الكبيرة و الظاهرة، وترفيعه لمقام الرُّسل و أنصاف الآلهة.

ويكمُنُ مصدر هذا الداء في طبيعة الآيديولوجيا نفسها بوصفها “قناعٌ” يحجبُ رؤية الواقع كما هو، ويرسمُ صوراً مثالية مُتحقِقة في “الخيال”، وبالتالي فإنَّ أصحاب الآيديلوجيات لا يُقيسون فشل تجاربهم في الحكم والسُّلطة بالنتائج التي تتحَّقق على “الأرض” وتترتب على التطبيق، بل يرمون الواقع بالعجز عن إستيعاب أفكارهم وبرامجهم.

و في إطار سعيهم الدؤوب لتبرئة الفكرة الآيديولوجية من الفشل البائن فإنَّ الأتباع المُولعون بجدواها الدائمة إذا تجاوزوا القول بأنَّ الواقع عجز عن إستيعاب الفكرة، فإنهم يتمترسون خلف الأكليشيه الساذج “الخطأ ليس في الفكرة ولكن في التطبيق”.

وبما أنَّ الفكرة مُكتملة البنيان في “أذهان” أهلها ولا تشوبها أية نواقص، فإنَّ “القائد الملهم” الذي يوحي بها يُمِّثلُ التجسيد الحىَّ لتلك الفكرة، وهو في نظر الأتباع– كما الفكرة – شخصٌ مكتمل، وبالتالي فهو لا يتحمَّلُ أية مسؤولية في الإخفاق وإنما المسؤول عنه هو دائماً “المُجتمع” الذي فشل في إدراك “مقاصد” الزعيم، أو هُم بعضُ “حوارييه” الذين سعوا لتطبيقها ولكنهم عجزوا عن إنزالها لذلك الواقع وفقاً لرؤيته.

تصريحان صدرا مؤخراً لإثنين من القياديين في حزب المؤتمر الشعبي يعكسان هذا المأزق بصورة جليَّة، نُسب أولهما لشخصٍ يُدعى الدكتور “عمَّار السجاد” قال فيه أنَّ ( الدكتور حسن الترابي “نبي زمانه” ) وأضاف : (عندما يتحدث الترابي عن تفسير القرآن الكريم ينتابني إحساس النبوة، أحس أنه نبي لما للترابي من قدرات وإمكانيات ).

أمَّا التصريح الثاني فقد كان للأستاذ أبوبكر عبد الرازق الذي قال لصحيفة “آخر لحظة” أنَّ : ( الشيخ حسن بالنسبة لي قامة سامقة جداً، وأعترف بأن 60 في المائة من تكويني الفكري هو بتأثير من الترابي، بل حتى لغتي نابعة من تأثيره عليّ، وأنا أعتبره واحداً من استثناءات التاريخ الإسلامي وأتفق معه فكرياً في ما ذهب إليه بنسبة مائة في المائة ).

عندما يغيبُ “العقل” وتُسيطر “العاطفة”، وهى خصيصة آيديولوجية بإمتياز، يتحوَّل حامل صفة الأستاذ أو الدكتور إلى مُجرَّد “حُوار” مُنبهرٍ “بشيخه” لا يتردَّدُ في أن يُطلق عليه مثل هذه التوصيفات المجَّانية “نبي الزمان” و “إستثناء في التاريخ الإسلامي” دون حذر أو تحفظ، وبجرأةٍ مثيرة لا تُراعى أبسط الشروط والمعايير التي تتطلبها تلك الألقاب.

إنَّ النظرة العلمية الفاحصة للأفكار الدينية والسياسية للدكتور الترابي، ولتجربته التطبيقية العملية في الحُكم، تُبيِّن بوضوح تام أنَّ الرًّجل لا يُمثل أية “إستثناء” في التاريخ الإسلامي أو السوداني، بل في حقيقة الأمر توحي بما هو نقيض لذلك، ويُمكننا في هذا الإطار سردُ العديد من الشواهد التي تدلُّ على جهله بحقائق التاريخ وتخلفه عن وقائع العصر ومُستجداته.

هل يعلم الأستاذ أبوبكر عبد الرازق أنَّ شيخه “الإستثنائى” كان حتى أواخر سنوات الستين من القرن الفائت لا يعترف بأحقية “غير المسلم” في تولى رئاسة الدولة ؟ نعم، الترابي الذي يصفهُ السجاد بأنه “نبي زمانه” لم يعترف بحق غير المسلمين في تولي “الولاية الكبرى” إلا مؤخراً جداً.

قد تلعثمَ وراوغَ وَبرْطمَ ( كشَّر وعبَس وقلَب شفتيه غيظًاً أو غضباً ) ” نبي الزمان” و مُجدَّد العصر أمام سؤال المرحوم “فيليب غبوش” : هل من الممكن للرجل غير المسلم أن يُختار ليكون رئيساً للدولة ؟ قبل أن يُجيب : لا .

ألم يكن “الرجل الإستثنائي” الذي نال الدكتوراة في “القانون الدستوري” من جامعة السوربون بفرنسا و قبل ذلك درجة الماجستير من جامعة لندن يعي أنَّ مفهوم الدولة المدنيَّة الحديثة التي تنبني الحقوق والواجبات في إطارها على أساس المواطنة يُخالف مفاهيم العصور الوسطى البالية التي ميّزت بين الناس بسبب الدين أو الطبقة أو الأصل العرقي ؟

إنْ كانت الإجابة “بلا”، فهذا يعني أنَّ الرَّجل “جاهلٌ” بأبسط قواعد القانون التي درسها، وإن كانت الإجابة “بنعم” فهذا يعني أنه “يُداهن” من أجل الوصول للسلطة، وهو أمرٌ لا يليق “بالأنبياء” في جميع الأزمنة !

ذات الشيخ “الإستثنائي” دبَّر إنقلاباً عسكرياً على نظامِ حكمٍ ديموقراطي كان حزبهُ يحتلُّ فيه الكتلة البرلمانية الثالثة، وبعد أنْ أُبعد عن السلطة بواسطة تلاميذه النُجباء وقف في محاضرةٍ مشهودةٍ بالعاصمة القطرية ليقول أنَّ : ( من يتسلمون السلطة عادة يتشبثون بها وينقلبون على أقرب الناس إليهم وعلى وجه الخصوص المفكرين الذين ينهون عن منكر الفعل، ويطلقون أيديهم في خزائن المال العام ).

ألم يكن “نبي زمانه” يعلمُ هذه البديهية عندما خطط للإنقلاب ؟ ألم يعي دروس التاريخ القريب التي وقعت في سوريا البعث ( صراع حافظ الأسد مع ميشيل عفلق) وفي سودان مايو ( صراع جعفرالنميري مع عبد الخالق محجوب) وأنَّ الغلبة في خاتمة المطاف تكون للعسكري صاحب “البندقية” ؟

قد إتخّذ الشيخ “الإستثنائي” قراراً “كارثياً” لا يُمكن أن يتخذهُ شخصٌ مبتدىءٌ في شئون السياسة، هو قرار الوقوف إلى جانب النظام العراقي في حرب الخليج الأولى، وهو القرار الذي دفع السودان ثمنهُ باهظاً، ومازال حتى اليوم يسعى لتصحيح عواقبه الوخيمة.

غير أنَّ أعظمَ أمرٍ يُبيِّن “الهزال الفكري” لنبىِ هذا الزمان ( بزعم السجاد ) هو إعتقادهُ الساذج بإمكان بناء “دولة إسلاميَّة عُظمى” في بلدٍ هامشيٍ ضعيف، دولةً تُناطح القوى العُظمى (أمريكا وروسيا ) و تُصبحُ قِبلةً لمُسلمي العالم بالإنطلاق من السودان، البلد الذي لم تكتملُ عوامل وحدته الوطنية بعد ، المُمزَّق بالحرب الأهلية، والذي مازال إنسانهُ يُعاني من الثالوث الجهنمي : الجهل والفقر والمرض !

سذاجة “الزعيم” أيضاً تبدَّت بوضوح في رهانهِ على “تديُّن” أتباعهِ أصحاب “الأيادي المُتوضئة” و “الوجوه النورانية” في إدارة شؤون الدولة عبر شعارات “الإيمان” و “التقوى” و “الضمير”، حتى فاق مذهولاً على الحقيقة المريرة الصادمة، فبات يشكوا من أنهم ( أطلقوا أيديهم في خزائن المال العام ) أو كما قال !

لو كان الرَّجلُ يملكُ أدنى معرفة “بطبائع الحُكم”، لما أطلق حملة “التمكين” الشريرة و الجائرة التي دمرَّت “العمود الفقري” للبلد عبر تحطيم “القوانين” و”النظم” و “اللوائح” التي تحكمُ بيروقراطية الدولة، وتضبط إيقاعها، وتحفظ المال العام من النهب المُنظم، ثم يأتي يعُضُّ بنان الحسرة والندم بعد أن ركله أتباعه من الحكومة ليقول : لم تكن لدينا معرفة وسابق تجربة بالنظم السلطانية ، فتأمل !

قد بنى “الشيخ الإستثنائي” مشروعه “الخيالي” للحُكم على أساس “عاطفي” وشعارات خاوية، تُمني البسطاء من الناس بالعودة لفردوس “الدولة الإسلامية” المفقود، حيث العدل والحُرية وحكم الشريعة السمحاء التي ستمُطرُ عليهم السماء مُدراراً، فإذا بالسماءِ تُظللُّ دولتهُ الموعودة بالظلم و الحروب والفساد والتدهور الأخلاقي، وإذا “بالأخوان” يتقاتلون على الحُكم والغنائم والأسلاب في مرأى ومسمع من الشعب المغلوب على أمره.

لو كان لدى الرَّجل إلمامٌ بسيط بوقائع التاريخ الإسلامي الحقيقية وليست “المُتخيلة”، إذن لعلمَ أنَّ كرسي “الحُكم” كان على الدوام يُنتزعُ “بالسيف” والغلبة أو يُمرَّر عبر “الوراثة”، ولا يأتي عن طريق صناديق الإقتراع التي بات يتباكى عليها مؤخراً بعد أن حطمها بإنقلابه، وأنَّ دماء المسلمين سالت أنهاراً في صراعاتٍ “دنيوية” من أجل السُّلطان والمال والجاه، وليس من أجل “الدِّين” و “الشريعة”.

أمَّا الآراء الدينية “للزعيم” فليس فيها ما يدعو “للدهشة” والإنبهار، فإجتهاداته المحدودة جداً في موضوعات “المرأة” و “الفن” ليس فيها أية تميُّز، فقد قال بها مفكرين كثر سبقوه، وبقية الآراء مثل تلك التي ينفي فيها “عذاب القبر” وغيرها تُعتبرُ آرءاً “إنصرافية” بالقياس إلى حجم المشاكل التي تُعاني منها المُجتمعات الإسلامية وإلى القضايا الأساسية التي تحتاج للإجتهاد الحقيقي.

ويُجزم كاتب هذه السُّطور أنَّ المنتوج الفكري للشيخ الإستثنائي “فقيرٌ جداً” بالمقارنة مع أعمال مفكرين مسلمين كبار عملوا على الغوص في عُمق القضايا التي تسببت في حالة الجمود والإنحطاط الحضاري التي تُعاني منها المجتمعات الإسلامية منذ عدة قرون، وسعوا لإبراز الجوانب الضرورية اللازمة لمواكبة العصر واللحاق بركب الأمم.

فأين هو من البحوثِ الجادة للمفكر المغربي الراحل “محمَّد عابد الجابري” عن “العقل المسلم” ؟ وأين هو من الدراسات المُعمَّقة للمفكر الجزائري الراحل “محمد أركون” حول الأبعاد “الأنسانية” في الفكر الإسلامي ؟ وأين هو من أعمال المستشار محمد سعيد العشماوي حول التاريخ “والخلافة الإسلامية” ؟ وأين هو من الإجتهادات الجريئة للمفكر الراحل “جمال البنا” أو قراءات “محَّمد شحرور” المُعاصرة للقرآن ؟

لا يهدفُ كاتبُ هذه السُّطور لمصادرة حق الدكتور السجَّاد والأستاذ أبوبكر في “الإعجاب” بشيخهم، ولكنه يسعى لإقرار حقائق الأمور بعد التجربة المريرة للحُكم الذي كان الترابي “عرَّابه” الأول، وهو كذلك يعمل على إزالة “الغشاوة” من أبصار أولئك الذين مازالوا يؤملون في أن يبيعهم الرَّجلُ بضاعة غير منتهية الصلاحية.

وعندما يقول السجاد أنه سيأتي قومٌ بعد مائة عام يقولون أنَّ هناك مُجدداً كبيراً عاش في السودان أسمهُ الترابي، فهو يؤكد حقيقة أنَّ “التاريخ” حمَّال أوجه، وأنَّ كثيراً من الروايات التاريخية ليست سوى إنعكاس “لرغبات وأوهام” الذين سطرُّوها، فالسودانيون قد أصدروا حكمهم “اليوم” على الرَّجل بعد أن ذاقوا الأمرَّين من التطبيق العملي للفكر الذي دعى له، لقد حكموا عليه بالنتائج وليس بالأمنيات : من ثماره عرفوه.

جاء في الإصحاح السابع من إنجيل متى : ( إحترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثيابِ الحِملان، ولكنهُم من الداخل ذئابٌ خاطفة، من ثمارِهم تعرفونَهم ، هل يجتنونَ من الشَّوكِ عنباً، أو مِن الحَسكِ تيناً، هكذا كلُّ شجرةٍ جيدةٍ تصنعُ ثماراً جيدةً، وأما الشجرةُ الرديئةُ فتصنعُ ثماراً رديئةً ).

وأخيراً نتسآءل : أىُّ شخصٍ إستثنائيٍ هذا الذي يرتضي أن يكون السكرتير السياسي لحزبه هو كمال عمر ؟!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *