الأزمة السورية : دروس وعبر
بقلم أحمد حسين أدم
التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا لإنقاذ الرئيس السوري بشار الأسد، تحت غطاء محاربة الاٍرهاب ورد الفعل الأمريكي والغربي المهادن إزاءه «إن لم نقل المنسق مسبقا»، يمثل درسا بليغا جديدا من دروس السياسة الدولية التي تنهض علي المصالح، والاعتبارات البراغماتية، وليس على المبادئ والأخلاق والقيم.
لذلك من المهم بالنسبة للشعوب وقوى التغيير التي تكافح من أجل عالم أكثر إنسانية وعدلا، أن تستنبط الدروس والعبر من الحالة السورية. وأخص بهذه المناشدة قوى التغيير والثورة في السودان، الذي يشهد أزمة سياسية ماحقة، سبقت الأزمة السورية، وتجلت كارثيتها دماءً وأشلاء وتهجيرا قسريا للملايين من أهل السودان. وكانت نتيجة هذا الفعل أن أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال ضد الرئيس السوداني عمر حسن البشير، منذ عام 2009، لمسؤوليته عن جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في إقليم دارفور – غرب السودان، الذي ظل يشهد حرب إبادة منذ عام 2003.
السودانيون، قبل السوريين، ما يزالون يعبرون عن سخطهم وخيبة أملهم في المنظومة الأممية والغربية التي خذلتهم خذلانا مبينا، على الرغم من تمشدق قادتها وتبشيرهم بعالم أكثر عدلا، وبقرن جديد تتجسد فيه المبادئ السامية لحقوق الإنسان، حيث تنعتق الإنسانية من عهود الإبادة الجماعية والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي صبغت القرن الماضي. لكن التجارب المخزية مع النظام العالمي وآلياته البراغماتية علمت الكثيرين ألا يثقوا أو يعولوا كثيرا على المنظومة الدولية أو ما يسمى «المجتمع الدولي». لذلك ليس بمستغرب أن تتراجع الولايات المتحدة والدول الغربية عن مواقفها والتزاماتها تجاه الشعب السوري وقبله الشعب السوداني، رغم الخصوصيات التي تميز كلا الأزمتين وكذا الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية للقطر السوري لدى دول الغرب والشرق.
غني عن القول إن ظهور وسيطرة تنظيم «داعش» وجماعة «النصرة» والمنظمات الأخرى المدرجة في قائمة الاٍرهاب الدولية، قد قلب الموازين، وأحدث تغييرا جذريا في المواقف الغربية تجاه الأزمة السورية، لكن لا جدال كذلك أنه منذ تفجر الأزمة السورية لم يكن المجتمع الدولي يملك الإرادة السياسية الحقيقية للتدخل الإنساني في سوريا. كما أنه لا يمكن وصف التدخل الروسي العسكري الحالي بالإنساني، وعلى النقيض تماما أن التدخل الروسي سيعمق المأساة الإنسانية ويطيل أمدها.
دورية «الفورين أفيرز» الأمريكية المرموقة والمتخصصة في قضايا وشؤون السياسة الخارجية الدولية، التي يصدرها مجلس الشؤون الخارجية بالولايات المتحدة الأمريكية، قدمت في عددها الخاص الحالي لشهري سبتمبر وأكتوبر، تحليلا وتقييما شاملا للسياسة الخارجية لإدارة الرئيس أوباما، عبر استكتاب عدد من الباحثين والمتخصصين المرموقين في مجالات السياسة العامة والشؤون الخارجية. شمل تقييم «الفورين أفيرز» سياسة اوباما الخارجية في الشرق الأوسط، آسيا، أوروبا، أمريكا اللاتينية، أفريقيا والحرب على الاٍرهاب. وقد دافع بعض الكتاب في هذا العدد بشدة عن السياسة الخارجية والداخلية لأوباما، وجزموا بإحرازه كثيرا من النجاحات والإنجازات في ملفات السياسة الداخلية والخارجية، مذكرين بالتركة الثقيلة التي ورثها من سلفه جورج بوش، التي تتمثل في حربي العراق وأفغانستان والأزمة المالية الاقتصادية العالمية.
في مقاله المعنون «أوباما والشرق الأوسط» قال مارك لينش في إطار تقييمه الضافي لسياسة الرئيس اوباما في الشرق الأوسط، إن منتقدي إستراتيجيته في هذا الخصوص يشتكون دائما من أن أوباما لا يملك رؤية استراتيجية في الإقليم المضطرب. ولكن هذا الانتقاد، كما يقول لينش يعد «خطأ كبيرا، وأن العكس هو الصحيح، إذ جاء أوباما الى البيت الأبيض وهو يؤمن إيمانا عميقا بأن تخفيض الاستثمار والإنفاق العسكري والسياسي الأمريكي المهول في الشرق الأوسط، يعتبر مصلحة أمنية أمريكية حيوية في حد ذاتها». إذن هذا يعني أن لا حروب او مغامرات عسكرية أمريكية جديدة في الشرق الأوسط، وفقا لمبدأ أوباما في السياسة الخارجية. كذلك يجمع كثير من المحللين والمتابعين للسياسة الخارجية لإدارة اوباما، أن مبدأ أوباما يختلف جذريا عن مبدأ جورج بوش (الاستباقي او الوقائي) الذي على أساسه شن بوش حروبه الاستباقية قي أفغانستان والعراق. أما مبدأ أوباما فيقوم على اعتماد منهج التعاطي مع الأزمات على أساس الشراكة الأممية مع الحلفاء والقيادة من الخلف في التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية، التي تهدد الوجود الإنساني والأمن والسلام الدوليين. ومثال ذلك تدخل ألناتو والدور القيادي لفرنسا في ليبيا في إسقاط نظام القذافي في عام 2011. كما أن أوباما يفضّل أن ينهض شركاؤه الإقليميون بواجباتهم للتصدي لأزماتهم، من دون تدخل مباشر من الولايات المتحدة، حيث يتم تجنيب أمريكا اي خسائر بشرية أو مادية محتملة. وبناءً على هذا المبدأ قامت إدارة الرئيس الأمريكي بدعم التدخل العسكري لتحالف «عاصفة الحزم» الذي تقوده المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن.
إذن فإن الدب الروسي كان يدرك بشكل كامل كل هذه الحقائق والمنطلقات في الوقت الذي فيه تدخل عسكريا في سوريا. فالرئيس بوتين ما كان يتوقع أي شكل من أشكال التحدي من قبل أمريكا أو الغرب حيال تدخله العسكري المباشر في سوريا. هذا إذا لم يكن قد طبخ الأمر مسبقا مع الأمريكيين والغربيين، مستغلا مخاوفهم العميقة والمشروعة من تنظيم «داعش» وتداعيات الأزمة السورية الإنسانية، التي فجرت مأساة المهجرين السوريين الذين اخترقوا حدود أوروبا، حتى صاروا مشكلة أوروبية داخلية قضت مضاجع ساستها ومواطنيها، وهو الأمر الذي دفع دولة مثل إيطاليا إلى أن تناشد شركاءها الأوروبيين والمجتمع الدولي علنا بتأييد ومساندة روسيا لإيجاد مخرج للازمة السورية.
لقد بات جليا أن تطورات وتداعيات الأزمة السورية الراهنة قد بدلت المواقف الأمريكية والأوروبية والدولية وضربت الإجماع الغربي حول أزمة سوريا في مقتل، فتراجعت كل هذه الأطراف عن كافة وعودها والتزاماتها المعلنة للشعب السوري. فكل الوعود والمواقف القوية للزعماء الدوليين لاسقاط نظام الرئيس الأسد، ذهبت أدراج الرياح. صحيح أن الرئيس أوباما وصف في خطابه أمام الجمعية العامة للامم المتحدة في دورتها السبعين الرئيس الأسد بقاتل الأطفال، لكن وزير خارجيته جون كيري، أعلن في الوقت ذاته، موقفا جديدا لامريكا ازاء مصير بشار الأسد، حيث قال إن أمريكا لا تمانع في مشاركة الأسد في أي مفاوضات مقبلة تحدد مستقبل سوريا، أي أنه لا «فيتو» أمريكي في أن يكون الأسد جزاءً وشريكا في حل الأزمة السورية. وذلك يعد تراجعا واضحا عن بيان جنيف الصادر في الثلاثين من يونيو 2012، الذي نص على تشكيل هيئة قيادية تنفيذية تتولى حل الأزمة السورية. الوزير جون كيري لم يكن وحده في هذا الموقف، إذ تبعه معظم وزراء وقادة الدول الأوروبية، بمن فيهم وزير خارجية بريطانيا. والملاحظ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو لم يشذ في موقفه عن المواقف الغربية المهادنة للتدخل الروسي، فقد دخل علنا في خط تطورات الأزمة السورية، وقال إن الروس يقومون بـ»عمل ممتاز»، عندما سأله الصحافي المخضرم شارلي روز أثناء مقابلة مع نتنياهو في برنامجه الشهير «ديلي موشن» الذي بثته قناة «PBS» الأمريكية في الثالث من الشهر الجاري، إضافة الى زيارته الأخيرة الى موسكو، التي رجح كثير من المراقبين أنها كانت للتنسيق حول الأدوار والمواقف. الغريب أن بنيامين نتنياهو شدد في المقابلة ذاتها على ضرورة ألا يغير التدخل الروسي في سوريا موازين القوى لصالح الأسد وإيران وحزب الله!
لا شك أن فشل المجتمع الدولي في مواجهة الأزمة السودانية والسورية وغيرها من الأزمات العالمية، كشف ضعف المنظومة الدولية ومجانبتها لأهدافها ورسالتها ومعاهداتها المؤسسة، التي أكدت على حماية وصيانة الوجود البشري وحماية حقوق وكرامة الإنسان. كما عرَّت الأزمتان طبيعة المنظومة الدولية التي تعلي شأن حماية الحكومات والأنظمة، مهما كانت دمويتها، في انحياز واضح لمبدأ السيادة بمفهومه وشكله التقليدي القائم على حماية وصيانة سيادة الدول والحكومات، لا الشعوب والفاعلين غير الحكوميين.
لا أقول إن هنالك تماثلا بين الأزمة السودانية والسورية، فالمجتمع الدولي لا يعتبر السودان دولة ذات أهمية كسوريا، بمعيار الموقع الجيوسياسي والإستراتيجي. كذلك لم يطالب المجتمع الدولي، خاصة مكونه الغربي بذهاب البشير، كما هو الحال مع الرئيس بشار الأسد، أو تدخل مباشرة لدعم بعض قوى المعارضة كالجيش السوري الحر، أو أسس منظومة إقليمية ودولية لدعم نضال الشعب السوداني، مثلما فعل في حالة سوريا، حيث أسس ما يسمى «مجموعة أصدقاء سوريا» لدعم قوى التغيير في سوريا، بيد أن المحكمة الجنائية الدولية، أصدرت مذكرات توقيف ضد عمر البشير ووزير دفاعه السابق الفريق عبدالرحيم محمد حسين، كما أصدر مجلس الأمن الدولي ما يقرب من العشرين قرارا تحت الباب السابع لمواجهة تداعيات الأزمة السودانية المتطاولة، لكن فشل مجلس الأمن الدولي حتى هذه اللحظة في تنفيذ قرارته وأوامر القبض التي اصدرتها المحكمة الجنائية ضد الرئيس البشير.
إن درس الأزمتين السودانية والسورية يحتم على قوى التغيير أن تعتمد على ذاتها وشعبها وتعتصم بخيار الوحدة كطريق أوحد لتحقيق تطلعات شعبها المشروعة في الحرية والســـلام والعدالة، بالطبع نحن لا ننادي بالقوقعـــــة أو العزلة بعيدا عن المجتمع الدولي وآلياته، فليس هذا منهج عملي أو منطقي، إذ أننا جزء أصيل من المنظومة الدولية، ولكن يجب التعامل بحذر مع هذه المنظومة الإقليمية والدولية، والتركيز في العمل والنضال مع الشعب وقواه الحية لصناعة التغيير.
كاتب سوداني
أحمد حسين آدم