Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

سبت الحوار الفوار..والمال

بقلم مجدي الجزولي

استقبل الرئيس البشير في قاعة الصداقة السبت الماضي ممثلي أكثر من تسعين حزب سياسي وطيف من الدبلوماسيين وغيرهم كباتن ومغامرين في جمع سلطاني لتدشين مؤتمر الحوار الوطني. لا يهم البشير في هذا المحفل من الحاضرين سوى الحضور كأنهم مجاملين في عقد. تغيب عن ضيافة البشير عصبة السياسة المحترفة إذا صح التعبير إلا المؤتمر الشعبي. اعتصم الصادق بالقاهرة لم يقنعه إبراهيم محمود ولا ابنه عبد الرحمن، مساعد الرئيس، بجدوى المرور لكن ترك الباب مواربا لاحتمالات المستقبل بحسب تعبير إبراهيم. أما محمد عثمان الميرغني فلقد انقطعت رجله عن السودان منذ مظاهرات سبتمبر ٢٠١٣ ولا يعرف سره سوى ابنه الحسن مساعد الرئيس الأول. لم يخطر للحزب الشيوعي ولا حتى شكا أن يقبل دعوة البشير وكذلك جاء بيان قوى الإجماع الوطني تحذير من تخدير الحوار ووعد بتنظيم الجماهير ليوم الثورة المشهود ولو بعد حين. أرسل ياسر عرمان، أمين عام الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، نصائح للمتحاورين من وحي عيد ميلاده كما يبدو. ذكر البشير أن الساعة ساعة الحوار الجد لو كان سعيه فعلا تحقيق السلام والتحول الديمقراطي وحث الترابي على جذب شركاء الحوار إلى مواقع التقدم والديمقراطية كأن للترابي الشيخ محاية لو فضها لقام كل من يسمعه إلي الحق والخير والجمال ولو فقط بداعي العشرة القديمة. أما شركاء ياسر في الجبهة الثورية فلا يمكن الوصول إليهم.

بهذا يكون السودان القديم، أي سودان ما قبل إتفاقية السلام الشامل ٢٠٠٥، غائب عن حفل البشير استعاض عنه بطبقة سياسية “جديدة” هي في وجه من الوجوه صناعة محلية للإنقاذ عكفت عليها بجد فعال منذ مؤتمرات متتالية أول عهدها، وقعَّدت لها في قانون التوالي السياسي لمن يذكرونه. لا غرو إذن أن الترابي وحزبه أكثر حماسا للحوار الوطني من المؤتمر الوطني الحاكم ليس بجامع الإسلام السياسي فقط فالحوار يغيب عنه إسلاميون معتبرون في صف غازي صلاح الدين العتباني وأقل إعتبارا في منبر السلام العادل لصاحبه الطيب مصطفى. لكن ربما ضمن سعي بطئ لكن واع لاستبدال النظام السياسي المركب الذي عرف السودان منذ الاستقلال،أي دورات الحكم الحزبي والعسكري، والطبقة السياسية التي قامت عليه بفئاتها المتنازعة والمتحالفة، بقوى جديدة تنشأ أقمارا حول مركز واحد تكون له ديمومة الحكم. عبر البشير عن هذا المعنى صراحة باقتراحه الكاريكاتوري أن الفرصة سانحة لنشأة حزب باسم مؤتمر الأمة الاتحادي يدمج في صفه المؤتمر الوطني وحزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي كما عبر عنه الترابي أكثر من مرة بما في ذلك اقتراحه الأخير أن ينشأ حزب جديد يستوعب كل “أهل القبلة” بالإضافة إلى التائبين عن أفكارهم “البائدة”، اشتراكية وقومية عربية.

بالمقابل، لا يكاد يتوقف بحث القوى المعارضة لنظام الحكم عن صيغة للتحالف تستعيد بها وعد التجمع الوطني الديمقراطي، فكل محاولة لتعضيد جبهة معارضة عريضة منذها كان جوهرها عقدتين لم يتمكن التجمع من حلهما إلا مؤقتا بضرورة قمع النظام وظروف إقليمية مواتية بما في ذلك قدر من الرضى الأميركي: التراتب بين القوى المسلحة والمدنية ثم التراتب بين حزب الأمة، بعد أن غادر الاتحادي الديمقراطي صف المعارضة، والقوى الحزبية التي ساد تعريفها بالحديثة. ما هجرات الصادق المهدي بين قوى الإجماع الوطني والجبهة الثورية المقاتلة سوى تعبير عن هاتين العقدتين وقد اتفق المتحالفون بصورة أو أخرى على تجاهلهما فضا للاشتباك. غير أن الصادق لا يبدو راضيا بالمرة عن هذه النتيجة إذ لا تصمت مطالباته بالهيكلة، هيكلة قوى الإجماع الوطني فيما مضى ومؤخرا هيكلة تحالف نداء السودان.

ذكَّر الصادق المهدي البشير في معرض الرد على دعوته إياه لمؤتمر السبت ظنه أن حزب الأمة مهما تعاقبت عليه الانقسامات هو الحزب الأوسع نفوذا في البلاد، قياسه بطبيعة الحال انتخابات ١٩٨٦ ودوام العقيدة الأنصارية. ما من سبيل لضحد حجة الصادق العددية يقينا سوى الانتخابات لكن لا ينكر حصيف أن الخارطة السياسية التي يستند إليها الصادق لم تعد هي وإن ظل هو في موقعه رئيسا لحزب الأمة.

يأمل البشير أن يكون مؤتمر السبت فاتحة لعهد جديد من التوالي السياسي وقد تحقق له النصر على أقطاب السودان القديم وأمَّن ولاء طبقة سياسية نمت في ظل حكمه واقتسمت بينها مقاعد الحكم والمعارضة البرلمانية. التاريخ أشد مكرا من حساب البشير، فكل ما هد المؤتمر الوطني ركنا من أركان السودان القديم هد كذلك قاعدة من قواعد حكمه، لا ضرورة له متى زال الشبح السياسي لحكم الحزبين. اقترب الترابي من هذه الخلاصة بحديثه عن المنظومة الخالفة أوالنظام الخالف فالترابي يرى ضرورة إعداد حلف قادر على الحكم لقطع الطريق على الفوضى التي يتنبأ بها متى زال نظام البشير. لكن تقاصر خياله فرشح لهذا الحلف مكونات ما يبدو أنه مؤتمر وطني بديل، أو قل استعاد تصوره الأول للمؤتمر الوطني قبل المفاصلة. لم يخالف البشير نفسه تحليل الترابي إذ حذر مجلس شورى المؤتمر الوطني في انعقاده الأخير من مصير الاتحاد الاشتراكي لصاحبه جعفر نميري متى انقضى حكمه ووبخ قيادات حزبه على ضعف نشاطها القاعدي وتحول الحزب على يدها إلى حزب دولة لا قوام له سوى بدوام السيطرة على جهاز الحكم.

بالعودة إلى مكر التاريخ، إن كان المؤتمر الوطني هو معول فئات من البرجوازية السودانية تقوم مصالحها على رأس المال التجاري وارتبطت في أغلب نشاطها بالاستثمارات الأجنبية المباشرة لفرض قيادتها على رأس المال الزراعي والصناعي فوق السيطرة على قوى العمل فإن التهديد المقابل لها يتنامى مع التحول عن هذا النموذج. وهو تحول لا سبيل لتداركه بعد انقطاع ريع البترول رغم محاولات استبداله بالذهب وتسويق الأراضي الزراعية في السوق الدولي. من أبرز علامات هذا التحول لهفة الحكومة على إلغاء ديون السودان الخارجية واستعادة قابلية التمويل من بيوت المال الدولية، صندوق النقد والبنك الدوليين، الهدف الذي يشغل اليوم أعلى قائمة الأولويات في علاقات الحكومة الخارجية. لكن، ينبئ انفتاح هذا الباب بتغيير التراتب القائم بين فئات البرجوازية السودانية وبمنافسة شرسة على موقع القيادة الطبقية والسياسية بخاصة إذا استطاعت المتطلعة منها لتوسيع قاعدة أرباحها بالاستغلال الفعال لموارد الإنتاج وقوى العمل أن تنشئ علاقات مستقلة مع رأس المال الأميركي والأوروبي.

ظهر جانب من هذا المنافسة في التذمر حتى داخل المؤتمر الوطني من قيادة البشير والفئات المرتبطة به وفي الاحتجاج الدائم على الفساد الذى انتقل من كونه شكوى شعبية إلى أن غدى مظلمة لاتحاد أصحاب العمل ونجوى لقطب دال، أسامة داؤود، يبثها محدثيه من الدبلوماسيين الأميركيين. الفساد في هذا المعنى ليس عرضا ثانويا لطبيعة الحكم بل هو جوهر فيه ووسيلة لا بديل لها لضمان تفوق فئات البرجوازية من أصحاب رأس المال التجاري المرتبط بجهاز الحكم في أي مضمار طرقت حتى خارج دوائر نشاطها المعهودة. من ضمن ذلك التدهور الذي طال الري في مشروع الجزيرة حتى أصبح العطش بين نهرين أمرا مزمنا بعد أن وزعت الحكومة مسؤولية الترع بين شركات حفر نشأت ليلة العطاءات الحكومية، وتطاول أزمة مياه الشرب في الخرطوم بعد أن تقاسمت شركات “الدفن أم كراعا بره” عطاءات الصيانة والتوسعة إلى جانب وقائع المحسوبية التي يعج بها كل تقرير للمراجع العام بغير وقع.

انتهى التذمر داخل المؤتمر الوطني بالانقسام، حيث خرج الدكتور غازي العتباني في جماعة يريد الإصلاح وتحول إسلاميين من جيل الجهاد إلى “سائحون” خارج السلطة. لم يستطع الانقساميون تسويق انفسهم بفعالية داخل الدوائر الطبقية التي يقوم عليها المؤتمر الوطني ولن يتأتى لهم فعادوا إلى البحث عن أحلاف بديلة ارتدوا بها إلى مواقع السودان القديم بعد أن قضوا كامل سيرتهم السياسية في تطويقها. إن كان من درس في خروج جماعة غازي على البشير فهو تبضع ولاء طوائف البرجوازية الصغيرة التي مثل الإسلام السياسي مدخلها إلي السلطة، الأمر الذي انعكس أيضا في تدهور السيطرة الفكرية للإسلاميين على الرأي العام ولجوءهم إلى مواعين ليبرالية تقليدية، الديمقراطية الانتخابية والحريات العامة، لتجديد دعوتهم. قابل الرئيس البشير السبت الماضي محاوريه المختارين كسلطان، يشغل هرم السلطة نعم، لكن تشققت قاعدتها ليس بتطاول العهد فقط والملل من سمته لكن بتحولات في التحالفات الطبقية التي تسندها، فمن يشد هذا التاريخ من قرونه؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *