الذهب و دقيق القمح : أين الحقيقة ؟
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
تفرضُ متطلبات الشفافية والمحاسبة التي تقتضيها الدساتير والقوانين في الدول المُحترمة على الحكومات أن تصارح الرأي العام بالحقائق المرتبطة بتصرفها في الموارد والثروات وشؤون الإقتصاد ومُختلف القضايا التي تؤثر على حياة الناس، وعلى مُستقبل الأجيال القادمة.
غير أنَّ هذه المُتطلبات تختفي و تتلاشى في ظل الأنظمة الشمولية، حيث يحكمُ الغموض و التستر والتضليل سياسات الحكومات وسلوكها، و حيث تسيطر على القائمين على الأمر عقلية “التملك المطلق” التي لا تقتصرُ فقط على منحهم الحق في “الخلود في السلطة”، بل تزيٍّن لهم أنَّ أقدار البلد وثرواته وموارده أضحت “مملوكة” لهم ولأتباعهم، وليس للشعب وأنَّ بإستطاعتهم التصرُّف فيها كيفما يشاءون.
وقد أبتلينا في السودان، بهذا النوع من الحكومات الشمولية القابضة منذ فترة حكم “مايو” التي فتحت الباب على مصراعيه لتدفق “الديون الخارجية”، وأورثت الشعب المغلوب على أمره والأجيال التالية أعباءاً مالية ثقيلة ما زالت تعاني منها حتى اليوم، وكان مٍّما نُسب لقائدها الراحل “النميري” القول بإستخفاف عندما سُئل عن إستسهال حكومته لأمر تلقي القروض : شفتو ليكم بلد دخلوها السجن ؟
نفس النهج في التفكير إستمر مع “الإنقاذ” التي تفننت وأبدعت في ممارسة نهج اللامبالاة و “التعتيم والتمويه” بصورة غير مسبوقة، خصوصاً في تعاملها مع قضية “البترول” الذي إعتبرته ملكاً خالصاً “لأفرادها” وليس للشعب، وبالتالي أخفت “الأرقام والعائدات” التي باتت مثل “الزعيم رقم صفر” في ألغاز “الشياطين الثلاثة عشر” : لا يعرف حقيقته أحد.
ذات المشهد يتكرر الآن في صفقة “الذهب” التي أبرمتها الحكومة مع الشركة الروسية المُثيرة للغط، ودون الخوض في الحديث عن الشكوك المتعلقة بكميات الذهب التي تم الإعلان عنها، وهى شكوكٌ جدِّية تحدث عنها بصورة علمية العديد من الخُبراء في مجال التعدين بمن فيهم أحد الوزراء السابقين في هذه الحكومة، إلا أنَّني أودُّ التركيز على النقطة التي أثرتها في هذا المقال والمتعلقة بالشفافية ومصارحة الرأي العام بالحقائق.
وفي هذا الخصوص كانت وزارة المعادن قد ألغت بصورةٍ مفاجئة مؤتمراً صحفياً أعلنت عنهُ لتوضحي الحقائق المتعلقة بالصفقة، وبرَّر مدير عام هيئة الأبحاث الجيولوجية بوزارة المعادن، يوسف السماني تراجع وزارته عن عقد المؤتمر الصحفي بأنهم “تلقوا إتصالاً من رئاسة الجمهورية يؤكد ثقة الرئاسة في معلوماتهم وعدم الحاجة لمخاطبة الراي العام”.
هذا التبرير الواهي يوضح عُمق الأزمة التي تعيشها بلادنا وشعبنا المسكين، فهذا المسؤول يعلمُ أنَّ وزارته عندما أعلنت عن قيام المؤتمر لم يكن ذلك بدافع إقناع رئاسة الجمهورية، فهذه الأخيرة أشرفت على توقيع عقد الصفقة في القصر الجمهوري، ومن البديهي أن تكون الوزارة أطلعتها على الإتفاق، إنما كان الغرض هو الرد على التساؤلات والشكوك الجدية التي أثيرت حول ذلك العقد، وهذا أمرٌ لا يخص الحكومة وحدها بل يهم كل فردٍ من أفراد الشعب السوداني.
إنَّ نيل المسؤولين في وزارة المعادن لثقة رئاسة الجمهورية لا يعفيهم من توضيح الحقائق للرأي العام في قضية متعلقة بثروة قومية يتطلب التعامل فيها الكثير من الشفافية والوضوح، ومن المعلوم أنه في ظل الأنظمة المُحترمة، لا يتم فقط طرح مثل هذه القضايا للناس، بل يجبُ أن تجاز عبر “البرلمان” الذي يمثل نواب الشعب بعد أن يتم تداولها من كل جانب، ولكن من حسن حظ شعبنا المغلوب على أمره أنَّ نوَّابه الموقرون مشغولون بقضايا أخرى أكثر أهمية من شاكلة “ختان الإناث” و”لعب المرأة كرة القدم”.
لم يكتف السيد يوسف السماني بهذا التصريح العجيب بل أضاف أنَّ إتفاقهم مع الشركة الروسية “سري ولن يطّلع عليه أي شخص سوى المراجع العام، حيث أنَّ كل إتفاقيات الذهب تُحاط بسياج من السرية وذلك بناءاً على رغبة الشركات التي لا تريد أن تكشف عن تقاناتها المستخدمة في التنقيب”.
بالطبع لا يستطيع السيد السماني أن يُثبت أنَّ “كل” إتفاقيات الذهب يُضرب عليها جدار من السرية، فهذا قول مجَّاني للإستهلاك، وهو كذلك يعلمُ أنَّ إحاطة الرأي العام بالحقائق لا تتطلبُ “كشف نوعية التقانات التي تستخدمها الشركات في التنقيب”، بل أنَّ ما يهمُّ الناس في هذا الإطار هى أشياء من قبيل طبيعة الإتفاق وحقوق الأطراف و حقيقة الكميات المُقدرَّة و إمكانيات الشركة المتعاقدة ونوع الإمتياز الذي منح لها.
هذا ما كان من أمر صفقة الذهب العجيبة، أمَّا موضوع دقيق القمح فقد بلغ درجة من “الغموض” جعلت المواطن في حيرة من أمره، هل الحقيقة متمثلة في ما يقوله السيد وزير المالية عن إيجابيات قراره القاضي بفك “الإحتكار” ؟ أم في الدفوعات القوية التي أدلى بها رجل الأعمال أسامة داؤود حول القرار ؟
بداية نقول أنَّه يتوجب على وزير المالية أن لا يتعامل مع تصريحات أسامة داؤود بنفس الطريقة المعهودة التي تعودنا عليها من قبل الحكومة : التجاهل وعدم الإكتراث . فالقضية تمسُّ معاش الناس اليومي، ولذا فمن الضروري توضيح كافة الحقائق المتعلقة بها، تجنباً للمفاجآت باهظة التكلفة و التي سيدفع ثمنها المواطن.
بالطبع إحتوت تصريحات السيد أسامة داؤود على معلومات وتساؤلات عديدة حول موضوع الدقيق، وهى من الكثرة بحيث أننا لا نستطيع تناولها بالتفصيل في هذا المقال، ولكن أكثر ما يهُمنا منها، ونرغب أن نسمع إجابات وافية عنها من قبل وزراة المالية، هى خمسة أمور رئيسية.
أولاً، قال السيد أسامة داؤود أنه لم يكن يوجد في الأساس إحتكار من قبل بعض الشركات لإستيراد القمح، وأنَّ الإستيراد كان مفتوحاً لكل من يرغب فيه، وأنه بالفعل دخلت العديد من الجهات في عملية الإستيراد، وهو الأمر الذي يشي بأنَّ القرار أستُهدفت به شركات بعينها، وأنه من ناحية أخرى يجيء لخدمة مصالح جهات “غير مرئية” ربما تكون لها إرتباطات مع السلطة.
الأمر الثاني هو أنَّ السيد أسامة قطع بأنَّ قرار الوزير بتعديل سعر صرف الدولار المدعوم لإستيراد القمح لا يتماشى مع التكلفة الحقيقية لإنتاج الدقيق، وبالتالي فإنَّ القرار لا محالة سيؤدي لإرتفاع سعر “رغيف الخبز”، وأنَّ إستيراد الدقيق مباشرة سيزيد من التكلفة بالإضافة للعديد من السلبيات الأخرى والتي من بينها تشريد العمالة المحلية في مطاحن الدقيق.
الشىء الثالث هو تلميح السيد أسامة بوجود “شبهة” في الإصرار على إستمرار تجربة دخول (المخزون الإستراتيجي) في المنافسة في تجارة القمح والدقيق، خصوصاً وأنَّ الجهة المستوردة في هذه الحالة لا تدفع ضرائب ولا رسوماً للدولة.
القضية الرابعة هى إدِّعاء داؤود بأنَّ الإستيراد عن طريق المخزون الإستراتيجي ستصاحبه مشكلات لوجستية حقيقية متمثلة في ضعف البنيات الأساسية للتخزين والترحيل، وهو الأمر الذي سيؤدي بدوره لحدوث أزمات ناتجة من عدم القدرة على الإستمرار في ضمان تدفق الدقيق على مدار العام.
الأمر الخامس هو قول صاحب شركة “سيقا” أنَّ الإصرار على إستيراد الدقيق المُصَّنع من الخارج سيوقع ضرراً كبيراً بالصناعة الوطنية في هذا المجال.
من جانبه يُضيف كاتب هذه السُّطور سؤالاً آخر للسيد وزير المالية وهو لماذا صمتت الحكومة لسنوات طويلة عن السلبيات الكثيرة التي تدَّعي الآن أنها صاحبت ما أسمتها بعملية “إحتكار” سلعة دقيق القمح وقررت تعديلها بهذه الصورة المفاجئة ؟
هذه القضايا في حاجة لإجابات واضحة من وزير المالية، ولن يُجدي معها الصمت أو التجاهل، وكذلك لا ينفعُ معها النهج الإنقاذي المعروف بتبسيط الأمور، وبث الطمأنينة وبذل الوعود التي لا تسندها الحقائق.
هذه الوعود المجَّانية باتت نهجاً معتاداً في ظل هذه الحكومة، ودوننا ما جرى مع مشروع “سد مروي” الذي تبارى المسؤولون الحكوميون في الحديث عن فوائده العظيمة، وكيف أنَّه سيكفي حاجة السودان من الكهرباء، بل وسيكون هنالك فائضاً للتصدير، فإذا بالأحلام تتبدّد سريعاً، وإذا بنا نكتشفُ أنَّ إنتاج السد، بحسب قول وزير الكهرباء الحالي، لا يكفي لتغطية حاجة ولاية الخرطوم وحدها، فتأمل !
لن يمُر وقتٌ طويل حتى يكتشف الناسُ من هو صاحب الموقف الصحيح في هذه القضية، الحكومة أم أصحاب المطاحن وعلى رأسهم مطاحن “سيقا”، ولكن الخوف كل الخوف أن نصل لتلك الحقيقة بعد أن تقع المصائب : زيادات في أسعار الخبز، وتراجع في جودته، وأزمات متواصلة في إمداده، يدفعُ ثمنها هذا الشعب المسكين، وتستفيدُ منها – كالعادة – جهات غير مرئية.