مورو : إيجاد الكيان الوطني مُقدَّمٌ على تطبيق الشريعة
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أشرتُ في مناسبات عديدة سابقة إلى أنَّ تيار “الإسلام السياسي” في نسختهِ التونسية المُمَثلة في حركة النهضة لهُ “خصوصية” لا يُمكن تعميمها على بقية الحركات الشبيهة التي يشملها ذلك التيار في المنطقة. هذه الخصوصية نابعة من سعي تلك الحركة للإستجابة لضغط الواقع الفكري والسياسي التونسي الذي يتفوَّق على مجتمعات العالمين العربي والإسلامي فكرياً ومدنياً، فمن الناحية الفكرية طغى على ذلك الواقع تراث “التنوير الديني” الذي أفرزه “جامع الزيتونة” على يد علماء مستنيرين كبار من أمثال الطاهر بن عاشور والطاهر الحدَّاد، كما يوجد في تونس مجتمع مدني قوي تأثر كثيراً بقيم “الحداثة” الغربية.
من هُنا بدت أفكار حركة النهضة التونسية متباينة مع تلك التي تتبناها بقية تنظيمات التيار بمختلف أطيافها، حتى أنها في كثير من الأحيان مثلت تحولاً جذرياً في الأفكار والمنطلقات الأساسية التي إنبنى عليها خطاب الإسلام السياسي الذي تبلور بصورة رئيسية مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين المصرية في العام 1928.
في هذا الإطار جاءت التصريحات الجريئة للأستاذ “عبد الفتاح مورو” نائب رئيس حركة النهضة أثناء مشاركته الأسبوع قبل الماضي في الملتقى الوطني العاشر لشباب حزب “العدالة والتنمية” المغربي، حيث إعترف صراحة بأنَّ تجربة الإسلاميين إعترتها أخطاء على مستوى قراءة النص الإسلامي والواقع أيضاً.
وقال أنَّ ( من بين أخطاء الإسلاميين التصورية الموقف من الدولة، فنحن لم نفهم حقيقة الدولة الوطنية التي نشأت في أوطاننا بعيد خضوع العالم الإسلامي للاستعمار، وظللنا خاضعين لمنطق آخر في التعاطي مع مسألة الدولة ).
وتابع مورو : ( في مقابل نقاش الدولة كنا نحن الإسلاميون مشغولين بنقاش “العالمية الإسلامية”، وتجاهلنا قضايا مهمة من قبيل المواطنة والعلاقة مع غير المسلمين في أوطاننا، والموقف من اليسار والشيوعيين، ومكانة المرأة، وقضايا حقوق العمال والحريات العامة ).
الحديث أعلاهُ يُمثل نقداً مباشراً للمفاهيم الأساسية التي أرساها الرمزان الكبيران للإخوان المسلمين، حسن البنا وسيد قطب، فيما يتعلق بالموقف من “الدولة” الحديثة، حيث إعتبرا أنَّ مفهوم “الدولة-الأمة” الذي نشأ في الغرب مُخالفاً للمفهوم الإسلامي الذي يستند عندهما على أساس أخوَّة “العقيدة” وليس رابط “المواطنة”.
فالجماعة لا تعترف بالدول، فهى بالنسبة لهم مُجرَّد كيانات صنعها “الإستعمار”، ولا تُعطي قيمة للحدود التي تفصلها، ولا تؤمن بمفهوم “الوطنية”، وأعضاؤها يلتزمون فقط “ببيعتهم” للمرشد وليس لرئيس الجمهورية أو رأس السلطة الحاكمة في البلد المعيَّن، وولاؤهم كاملٌ للتنظيم الدولي وليس للوطن الذي يعيشون فيه.
يقول الشيخ حسن البنا في توضيح الفارق بين فهم الجماعة للوطنية وفهم الآخرين لها : ( أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجعرافية).
ويقول سيِّد قطب : (لا رابطة سوى العقيدة، ولا قبول لرابطة الجنس والأرض واللون والوطن والمصالح الأرضية والحدود الإقليمية إن هى إلا أصنامٌ تعبدُ من دون الله ).
هذا المفهوم لا يُمثل بُعداً محدوداُ في فكر الجماعة، ولكنهُ مرتكزٌ أصيلٌ تقوم عليه “المنظومة الفكرية” التي تهدفُ لإحداث التغيير في المُجتمعات الإسلامية والعالم بحسب التصُّور الذي طرحهُ حسن البنا والذي يُحدِّد مراحل الإنتقال من واقع “الإستضعاف” إلى قوة “التمكين” عبر ست مراحل تبدأ بالفرد ثم الأسرة ثم المُجتمع ثم الدولة ثم الخلافة الإسلاميَّة وأخيراً “أستاذية” العالم.
وبالتالي فإنَّ “الدولة الوطنية” لا تُمِّثلُ في فكر الجماعة سوى مرحلةٍ طارئةٍ و مؤقتة، حلقةٍ ضمن حلقات الإنتقال، و لكنها ليست السقف النهائي الذي يجب أن تتجِّه كافة جهودها لخدمة مصالحه بل هناك تقاطعات ومصالح أهم منها تسعى الجماعة لخدمتها من أجل الوصول لهدفها النهائي المتمثل في “الخلافة الإسلاميَّة”.
هذه “الأمميَّة” الفكرية لا تُنادي بها جماعة الإخوان المسلمين وفروعها المُختلفة فقط، ولكنها أيضاً مُكوِّن أساسي في فكر بقية تيارات الإسلام السياسي بما في ذلك الحركة السلفية الوهابية بمدارسها المُختلفة.
ولكنَّ مورو يمضي بعيداً في نقده لموقف الإسلام السياسي من الدولة حتى يصل للقول الجرىء بأنَّ ( الأمة ليس لها كيان وطني، فإيجاد الكيان الوطني مُقدَّمٌ على تطبيق الشريعة، القضية ليست تطبيق القانون الأهم هو بناء دولة العدالة، فليست القضية قطع يد أو قطع رأس أو إقامة حد، بل بناء دولة المواطنين ).
لا شك أنَّ الحديث أعلاهُ سيفتحُ على الأستاذ مورو أبواب جهنم، خصوصاً من قبل المنتمين لتياره من غير أهل النهضة، فهو يُجرِّدهم بهذا الكلام من “السلاح” الذي ظلوا يشهرونه في وجه “الجميع” ، وهو موضوع “الشريعة الإسلامية”، والذي أوضحت التجربة التطبيقية له والممتدَّة منذ ربع قرن في السودان أنهُ مُجرَّد “شعار” خالٍ من المحتوى والمضمون، ولا قيمة له سوى إستخدامه مطية للوصول للسُّلطة بأية ثمن.
ثم أنَّ دعوته لبناء دولة “المواطنين” ستصطدمُ مباشرة بتعاليم الجماعة الأساسية، وهى تعاليمٌ تنادي بقيام دولة “طائفية” لا يتساوى فيها الناس في الحقوق والواجبات، ولا يحقُّ لغير المسلم تولي “الولاية العامة” أو القضاء، بل يُمكن الإستعانة به في بعض الوظائف عند الحاجة، هذا ما قاله حسن البنا في “رسالة التعاليم” : ( لا بأس أن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة و لا عبرة بالشكل الذي تتخذه و لا بالنوع ، مادام موافقا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي ).
تُرى هل يمتلك الدكتور حسن الترابي الذي يعتبره مُشايعوه مفكراً مُجدِّداً، وعالماً بحراً- بعد الفشل الذريع الذي مُنى به مشروعه في الحكم – الجرأة الكافية للقول بأنَّ بناء دولة العدالة يجب أن يسبق تطبيق الشريعة ؟
بالطبع فإنَّ دعوة مورو ستضعهُ في خانة “أعداء الشريعة” من قبل جماعات الإسلام السياسي المتشددِّة، ولكنهُ بالقطع إستطاع الولوج لجوهر القضية والمتمثل في إقامة “العدالة” والتي بدورها لن تتأتي إلا في ظل “الحرية”، وليس تطبيق القوانين، حيث يقول الرجل أنَّ : ( من يريدون تحكيم الشريعة، يريدون تطبيق القانون فقط، و يختزلون القضية في النص القانوني )، ويتساءل : ( وهل مشكلتنا هي النص القانوني المستمد من الشريعة ؟ )
بالطبع ليست المشكلة في القوانين، ولكن المُشكلة كما يقول أنَّ : ( تخلف العالم الإسلامي أكبر من ترك الصلاة، وعدم لبس المرأة للحجاب الشرعي، وعدم إطالة اللحية، أو تقصير الثياب، أو عدم تطبيق الحدود، فالعالم الإسلامي تخلف لأنه لم يستطع الحفاظ على القيم الأخلاقية التي تحمي حقوق الناس وكرامتهم ).
حماية “حقوق الناس وكرامتهم” لن تتم في ظل نظام سياسي يستمدُ مبادئه من أفكار جماعة الأخوان المسلمين وتيار الإسلام السياسي العريض، فكما رأينا رأيهم في حقوق غير المسلمين، فإنهم كذلك يحرمون المرأة من حق تولى الولاية الكبرى والقضاء، بل أنَّ البنا يحرمها من حق العمل والتصويت في الإنتخابات ويقول : ( ما يريده دعاة التفرنج وأصحاب الهوى من حقوق الإنتخاب والاشتغال بالمحاماة مردودٌ عليهم بأنَّ الرجال، وهم أكمل عقلاً من النساء، لم يحسنوا أداء هذا الحق، فكيف بالنساء وهنَّ ناقصات عقل ودين ).
ليس هذا فحسب بل أنَّ المُرشد المؤسس يعتبرُ النظام الديموقراطي الذي ثبت أنهُ أفضل أنظمة الحكم التي توصلت لها الإنسانية وأقدرها على الحفاظ على “حقوق الناس وكرامتهم” نظاماً “تافهاً” ويقول عنهُ : (هذه هي دعوتنا ليس لها منهاج إلا الكتاب الكريم، ولا جنود إلا أنتم ولا زعيم إلا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فأين من نظامنا هذه النظم التافهة المتداعية ؟ هذه الديمقراطية، والشيوعية، والدكتاتورية).
قد يخرُج علينا فلِحاسٌ (سمج) ليقول ولكن الجماعة إرتضت الديموقراطية في العديد من الحالات، وسنردُّ عليه بالقول، نعم إرتضوها عندما أيقنوا أنها ستحملهم للسلطة، وما الغريب في ذلك فقد إرتضى “هتلر” من قبل الإنتخابات وعندما وصل للحكم قال : إنتهينا. هذه ديموقراطية المرَّة الواحدة، والتي يبدأ بعدها مشروع “التمكين” بمراحله التي أوضحها البنا.
ثم يُوجِّه مورو رسالة في غاية الأهمية لأتباع الإسلام السياسي فحواها أنَّ ( العالم لا يُدار من منبر المسجد، لأنَّ رواد المسجد يأخذون ولا يعطون، يتأثرون ولا يؤثرون، يستفيدون ولا يفيدون )، ويُقدِّم لهم نصيحة مفادها أنَّ ( المجتمعات لا تتغير بالحكم، بل تدار بالحكم )، ويُخاطبهم قائلاً : ( أنتجوا للناس ما يجعلهم يختارونكم على غيركم، قدموا منتوجاً يُرضي الناس ).
من الواضح أنَّ قيادات حركة النهضة – ودون الخوض في الدوافع والأسباب – قد إختطت نهجاً مُختلفاً بصورة كبيرة عن بقية جماعات الإسلام السياسي، وهو في جوهره نهجٌ يسير في الإتجاه التاريخي الصحيح، ويخالف الأطروحات الفكرية والشعارات الأساسية لذلك التيار، وإذا أرادت تلك الجماعات أن تحفظ لها مكاناً في المُستقبل فيجب عليها تبني النهج الجديد والعمل على تطويره وترسيخه بصورة أعمق في أوساط أتباعها.