الإحتياطي النقدي والعلاقة مع أمريكا
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
تناولتُ في مقالٍ نشر قبل أسبوعين موضوع احتياطي النقد الأجنبي و قضية إلغاء الديون الخارجية، وكانت مناسبة المقال هى زيارة وفد حكومي ضخم برئاسة وزير المالية بدر الدين محمود لأمريكا لحضور إجتماعات الربيع الخاصة بصندوق النقد والبنك الدولي.
قال الوزير أنهم سينتهزون فرصة إجتماعات واشنطون لمناقشة قضية إلغاء دين السودان الخارجي مع الجهات الدائنة، وقلتُ في ذلك المقال أنَّ ما ذكرهُ الوزير ليس سوى “أحلام” بعيدة المنال، وسقتُ العديد من الحيثيات التي تُعضد وجهة نظري تلك.
ذكرتُ في ذلك المقال كذلك أنَّ السيد الوزير سُئل في مناسبة سابقة عن حجم إحتياطي النقد الأجنبي ققال أنه لا يستطيع الإفصاح عنه، وبرَّر ذلك بالقول : (المرة ما بتوري عُمرها) أي (المرأة لا تفصحُ عن عمرها الحقيقي).
قلتُ أنَّ إجابة الوزير هذه تفتقد لأبسط أسس المعرفة بالأمور الإقتصادية، وهى لا تليقُ بالمسؤول الأول عن ادارة الشؤون الإقتصادية والمالية بالبلاد، الذي يجب أن يحرص على إعطاء معلومات وأرقام دقيقة في هذا الخصوص، ذلك لأهميته وارتباطه بقضايا الإستثمار الخارجي وغيرها من القضايا الإقتصادية.
غير أنَّ الوزير في زيارته لواشنطون أصرَّ على مواصلة نهج “الهروب” من الإجابة الواضحة و المحددَّة على ذلك السؤال، مما يؤكد حديثنا المتكرِّر عن سياسة التعمية وعدم الشفافية التي ظلت تسم أقوال وتصريحات المسؤولين الحكوميين في مختلف القضايا، وخصوصاً تلك المتعلقة بالأمور الإقتصادية.
أجرت مجلة “تايم” حواراً مع السيد الوزير، تناول قضية علاقات السودان مع أمريكا، وموضوع الديون الخارجية، وكذلك تطرق لسؤال حجم الإحتياطي النقدي السوداني، وحتى نتحرى الدقة في تناولنا لإجابته سأوردها كما جاءت باللغة الإنجليزية، ومن ثم نكشف محاولة التهرب من الإجابة المباشرة.
قال الوزير في رده عن السؤال حول حجم الإحتياطي النقدي :
The international reserve is always evaluated in terms of months of imports. Now the Central Bank has about three months reserve of foreign currency and we are trying to build more reserves. Our import bill is $7-8 billion. You can calculate after that.
هذه الإجابة يمكن ترجمتها كالتالي ( في العادة يتم تقييم احتياطي العُملات الأجنبية بعدد الأشهر التي يكفي لتغطية تكاليف الواردات فيها، حالياً لدى بنك السودان المركزي احتياطي من العُملات الصعبة يكفي ثلاثة أشهر، ونحن نسعى لزيادة احتياطياتنا من العُملات الصعبة. إنَّ فاتورة وارداتنا تبلغ ما بين 7 – 8 مليارات دولار، و عليه يمكنك إجراء عملية حسابية لتعرفي كم يبلغ احتياطي السودان من العُملات الصعبة حالياً ).
هذه الإجابة تحمل بين طياتها كثيراً من “المراوغة” والتهرُّب، فالسيد الوزير يعلم أنَّ مراسلة المجلة التي حاورته في واشنطون ليست متخصصة في شئون الإقتصاد، ولذلك عمد إلى إعطائها إجابة مبهمة ومُضللة أوقعتها في الخطأ الذي أعتقدُ أنه سعى إليه.
الوزير لم يبيِّن للمراسلة ماذا قصد بعبارة “فاتورة وارداتنا” ، هل هى الواردات السنوية أم الشهرية ؟ وترك الإجابة مفتوحة لتقديراتها هى، وبحكم عدم معرفتها بأمور الإقتصاد إعتقدت أنه عنى الواردات “الشهرية”، ومن ثم قامت بحساب 7 و8 مليار مضروبة في عدد 3 أشهر، ثم وضعت العنوان الجانبي كالتالي : The Central Bank of Sudan has approximately $21-24 billion in foreign exchange currency (Forex). ويترجم كالآتي : ( بنك السودان المركزي لديه ما يتراوح بين 21 – 24 مليار دولار من العملات الأجنبية ).
يعرف كل من له إهتمام بشئون الإقتصاد أنَّ الوزير كان يُشير لواردات السودان “السنوية” وليس “الشهرية”، ولكن سيادته قصد أن تقوم مراسلة المجلة بعملية معقدة حتى تصل للرقم بنفسها، وهنا يكمن التضليل المتعمد، فقد كان حرياً به أن يُجيب بطريقة مباشرة : لدينا مبلغ كذا من العملات الأجنبية في بنك السودان.
ولكن “التمويه” لا يقفُ عند هذا الحد، حيث أنَّ قول الوزير بإمتلاك بنك السودان لعملات صعبة تُعادل قيمة تلاتة أشهر من الواردات هو كذلك قولٌ غير صحيح حتى بإعتبار أنَّ الواردات السنوية تتراوح بين 7 – 8 مليار دولار.
هذا الأمرُ أشارت إليه بوضوح تقديرات الأرقام الصادرة عن برنامج المراقبة الذي يجريه صندوق النقد الدولي حالياً على الإقتصاد السوداني ( في تقرير المراجعة الثاني ) والتي أوضحت أنه حتى نهاية عام 2015 لن يكون لدى البنك المركزي إحتياطي يكفي لتغطية ثلاثة أشهر من الواردات.
هذا ما كان من أمر الإحتياطي النقدي، أمَّا الأمر الآخر المُثير للإستغراب والذي ورد في ذات الحوار فهو قول السيد الوزير أنَّ إجتماعاته مع المسئولين في الإدارة الأمريكية تهدف ( لتعزيز التطورات الإيجابية في العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة، وليس بحث ملفات سياسية سودانية داخلية ).
ووجه الإستغراب يكمن في أنَّ علاج ما يعتبرهُ السيد الوزير “ملفات سياسية سودانية داخلية” يُمثل بالنسبة للجانب الأمريكي مطلباً رئيسياً لتحسين العلاقات الثنائية، وتشمل هذه الملفات قضايا وقف الحرب واطلاق الحريات وإحترام حقوق الإنسان، وهى المشاكل التي ظل الطرف الأمريكي يدعو الحكومة السودانية لإيجاد حلول دائمة لها.
وجهة نظر السيد الوزير هذه تعكسُ بجلاء عجز الرؤية الحكومية وإخفاقها في تطوير العلاقة مع أمريكا، حيث تظن الخرطوم أنَّ تعاونها مع واشنطون في ملف مكافحة الإرهاب هو وحده كفيلٌ بتحسين العلاقات و رفع العقوبات الإقتصادية، وحذف إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإلغاء الديون الخارجية.
وهذا هو بالتحديد ما قاله السيد الوزير في حواره مع “تايم” وهو يُعبَّر عن خيبة أمله في سياسة أمريكا تجاه السودان، حيث قال : ( دعيني أكون صريحاً معك، لقد حاولنا كثيراً التعاطي مع الأمريكان، لكنهم كانوا دائماً يأتوننا بأهداف سياسية متغيرة، شعورنا هو أن السياسة الأمريكية تهدف لتغيير النظام في السودان وليس التعاون معه، حاولنا باستمرار التعاون مع الأمريكيين والمجتمع الدولي في محاربة الإرهاب، ولقد وضعنا ضوابط في نظامنا المصرفي لمكافحة تمويل الإرهاب وغسيل الأموال، وبدلاً عن مكافأتنا على هذه المجهودات يتم عقابنا ).
وكما ذكرتُ في العديد من المقالات فإنَّ أمريكا لا تدعم تغيير النظام في السودان بالقوة، وإنما تعمل على إحداث تحوُّل يكون الحزب الحاكم جزءاً منهُ، وقد عبّر عن هذا الموقف العديد من المسؤولين الكبار في إدارة الرئيس أوباما، ومنهم المبعوثون الرئاسيون للسودان وآخرهم دونالد بوث.
وهو الأمر الذي أكد عليه البيان الأخير الذي صدر عن دول الترويكا ( أمريكا، النرويج، المملكة المتحدة ) حول الإنتخابات في السودان وقالوا فيه أنهم يدعمون الأطراف السودانية الراغبة في ” إيجاد عملية سياسية شرعية شاملة للحوار من أجل إنهاء النزاع، واحداث إصلاح ذو معنى في تركيبة الحكم والاستقرار فى المدى البعيد”.
ولكن من الواضح أنَّ الحكومة تريد أن تُبقي على الحال كما هو، وتمسك بمقاليد السلطة بالكامل، ولا ترغب في مناقشة الملفات السودانية الداخلية كما يقول وزير المالية ومع ذلك تأمل في تحسين علاقتها مع أمريكا !!
ختاماً نقول : تحسن العلاقات مع أمريكا يتطلب إحداث تغيير حقيقي في تركيبة الحكم الحالية، وإذا لم يقع هذا التغيير ستظلُّ مشاكل الإقتصاد السوداني المتعلقة بالإحتياطي النقدي، والدين الخارجي، والإستثمار مستمرة ذلك أنّ أمريكا هى اللاعب الأكبر في هذا المجال، وأنَّ العقوبات الإقتصادية الصادرة عنها كما رأينا قد أنهكت إقتصادات أكبر من الإقتصاد السوداني بكثير، ودوننا التجربة الإيرانية.
وإذا لم تستوعب الحكومة وحزبها هذه القضية، وإستمر الحال على ما هو عليه، فلن تكون هناك جدوى من إرسال الوفود لإجتماعات المؤسسات المالية العالمية، ولا داعي كذلك “للطم الخدود” وطلب “المكافأة” من أمريكا على التعاون في ملف محاربة الإرهاب، فهذه الأخيرة قد قالت كلمتها ، وعلى الحكومة الإختيار.