عبد الحي يوسف ورايات الصليبيين
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أوردت صحيفة “المجهر السياسي” خبراً مفادهُ أنَّ الشيخ عبد الحي يوسف شنَّ في خطبة الجمعة الماضية هُجوماً حاداً علی تنظيم (داعش)، علی خلفية إحراقهم الطيار الأردني “معاذ الكساسبة” ووصف أفراد التنظيم بـ “الفئة الجاهلة”، واتهمهم بالحرص علی إظهار الإسلام بصورة بشعة ومروِّعة ومنفِّرة.
وكذلك أفتی الشيخ عبد الحي بعدم جواز تكفير الطيار الأردني إلا بعد إقامة الحُجًّة عليه، وأكد أنَّ الإسلام خيَّر المسلمين بين (المن) علی الأسير أو مُفاداته بالمال أو مقابل أسری، لكنه بالمقابل أقرَّ بأنَّ الرسول قتل أسيرين يوم بدر، وقال: ( لكن الدين علمنا أن نحسن القتل إذا قتلنا وحرَّم علينا التعذيب بالنار لأنه عذاب الله ).
توصيف الشيخ عبد الحي أعلاه لداعش يتوافق مع الحس الإنساني السليم، ويُعبّر عن رؤية إسلامية تتماشى مع قيم الدين الحنيف التي ترفض إذلال البشر وترويعهم بالطريقة التي يمارسها هذا التنظيم المتطرف، وكذلك رفضه لتكفير الطيار الأردني يعكس وجهة نظر سليمة ترفض الأحكام العشوائية التي تصدرها داعش.
غير أنَّ المدهش في حديث الشيخ عبد الحي هو إتهامه للطيار الأردني القتيل بالقتال تحت راية صليبية يهودية، حيث قال : (صحيح أنَّ الطيار الأسير لم يكن خارجاً دفاعاً عن دين الله، بل خرج تحت راية صليبية يهودية لكن يبقی حكم الإسلام في حقه كأسير ثابتاً ).
نحنُ من جانبنا نقول للشيخ عبد الحي إنَّ الطيار الأردني حارب بقرار “سياسي” من حكومة بلده التي يخدمها في الجيش، وهو بالتالي كان يؤدي واجباً مهنياً وطنياً وينفذ أوامر قيادته، ولا يجب أن يكون لهذا الأمر أية أبعاد “دينية” تُعطي إنطباعاً بأنه كان يُقاتل في “صفوف الكفار” ضد “المسلمين” فهذا خلطٌ لا يجوز في هذا المقام.
الحرب التي تدور في سوريا الآن ليست حرباً دينية بين مسلمين وكفار، بل هى حربٌ سياسية بإمتياز، والتحالف الذي يشارك في هذه الحرب يقوم على التقاطعات في “المصالح”، وليس على أساس الإنتماء الديني وهو ليس بالأمر بالجديد في العالم الإسلامي، في الماضي أو الحاضر، حيث ظلت الأحلاف تقوم على الدوام لخدمة مصالح الأطراف المعنية.
لقد تحالف الخليفة العباسي هارون الرشيد مع الملك الفرنسي شارليمان ضد الأمويين الذين أقاموا دولة مستقلة في الأندلس، ومنح هارون الرشيد شارليمان لقب حامي قبر المسيح في القدس والولاية على المؤسسات الدينية المسيحية في الشرق الإسلامي التابع للدولة العباسية، كالتدريس والصيانة وتنظيم رحلات وقوافل الحج إليها، فهل كان هذا الحلف حلفاً “صليبياً” ضد المسلمين ؟
و حينما دبَّ الخلاف بين الملك عبد العزيز بن سعود، وجنوده المعروفين بإسم “الأخوان” الذين كانوا ذراعه الباطش الذي أخضع به كل قبائل الجزيرة العربية، لم يتوانى الملك في سحقهم بإنزال ضربة عسكرية قاصمة بهم مستعينا بالقوات البريطانية التي أستعملت الطائرات لتشتيت فلولهم ودكّ حصونهم وذلك في معركة السبلة عام 1929، فهل يجوز القول أنَّ الملك عبد العزيز تحالف مع “الصليبيين” ضد المسلمين ؟
وحينما قام جُهيمان العُتيبي وأكثر من 400 من المُتطرفين بحصار المسجد الحرام في مكة المكرمة في عام 1979 إستعانت السعودية بقوات “الكوماندوز الفرنسيين” لمهاجمة هؤلاء المتطرفين، وتحرير المسجد الحرام، فهل كان ذلك حلفاً مع الصليبيين ضد المسلمين ؟
وعندما حاربت فصائل “المجاهدين” الأفغان الجيش السوفياتي، فعلت ذلك في حلف واضح مع أمريكا وما كانت لتستطيع الحاق الهزيمة بذلك الجيش لولا تعاونها الوثيق مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية التي مدّتهم بالمعلومات والسلاح ، و على وجه الخصوص بصواريخ ” ستينجر” المضادة للطائرات التي لعبت الدور الحاسم في اندحار الجيش الأحمر، فهل كان هؤلاء “المجاهدون صليبيين” ؟
وعندما قام صدام حسين بخطوته الهوجاء بغزو الكويت في 1990، واستباح الأموال والأعراض والأنفس والثمرات، من الذي أخرجه من ذلك البلد المُسلم المسالم، ألم يكن هو الحلف “الصليبي” الذي شاركت فيه غالبية الدول العربية وعددٌ من الدول الإسلامية ؟
وفي كوسوفو، من الذي أنقذ الشعب الألباني الذي يشكل المسلمون فيه 95 % من السكان في حرب عام 1999 ؟ ألم تكن هى أمريكا، القائدة الكبرى للتحالفات “الصليبية”. و يُمكن أن يُقال الشيء ذاته عن البوسنة (ذات الأكثرية المسلمة أيضاً) حيث كان للدور الأميركي “الصليبي” في حرب البوسنة (1992-1995) أثره في إنقاذ المسلمين هناك من مأساة لم تعرفها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولولا تعاون ثوار ليبيا مع حلف الناتو “الصليبي” في الثورة الليبية في عام 2011 لتمكن الطاغية الراحل القذافي من إبادة سكان شرق ليبيا “بنغازي” عن بكرة أبيهم، فهل تحوًّل الثوار بذلك التعاون إلى صليبيين ؟
أما قول الشيخ عبد الحي أنَّ الطيار الأردني ( لم يكن خارجاً دفاعاً عن دين الله ) فيجعلنا نسأله ُ السؤال التالي : ومن هى الجهة التي خرجت تدافع عن دين الله في هذه “الهوجة العبثية” ؟ هل هى داعش أم جبهة النصرة أم الجيش الحر ؟ جميعهم يقتتلون لتحقيق أهداف و مصالح “سياسية” وليست دينية، وبالتالي فلا مجال لإقحام “الدين” في هذه الصراعات “الدنيوية” المحض.
لا يُفهم من كلامنا هذا أننا ندافعُ عن طرفٍ في مُقابل طرفٍ آخر، فليس غرضنا هنا الإنتصار لموقف التحالف الذي يُحارب داعش، ونحن نعلمُ أنّ أطرافاً مؤثرة في هذا التحالف ساهمت في صنع هذا التنظيم الظلامي، ولكننا أردنا التأكيد على أنَّ هذه الحرب تحركها المصالح السياسية وليس الدين.
لقد تقاتل المسلمون ( أصحاب رسول الله الكريم )، ومنهم مُبشرون بالجنة، في ما عرف إصطلاحاً “بالفتنة الكبرى”، وسالت دماؤهم غزيرة في الجمل وصفين والنهروان، فهل يستطيع أحدٌ أن يُحدَّد جازماً أىٌ طرف فيهم كان يُمثل الإسلام ؟ وأيهم خرج دفاعاً عن دين الله ؟ من المؤكد أنه كان صراعاً حركتهُ مواقف ورؤى ومصالح مُختلفة، ولم يكن خلافاً حول “الدين” نفسهُ.
لذا يتوجب الحذر في إطلاق الأحكام الدينية على المواقف السياسية، خصوصاُ من طرف أئمة المساجد الذين باتوا يلعبون دوراً خطيراً ومؤثراً في توجيه الرأي العام، ذلك أنَّ أعداداً كبيرة من الشباب المتحمس ينقاد لهذه الأحكام دون علم أو بحث وهو الأمر الذي تترتب عليه عواقب وخيمة في الحاضر والمستقبل.
الطيار الأردني القتيل كان شخصاً متديناً، وبحسب شهادة زوجته كان ملتزماً باداء واجباته الدينية حتى أنها صارت تؤدي صلاة الفجر بعد زواجها منه لحرصه على أداء الفرائض في وقتها، كما أنه كان مؤمناً متوكلاً على ربه في رزقه ، وكانت الآية القرآنية ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ) لا تفارق شفاهه أبداً، وعندما خرج في التكليف العسكري كان يؤدي واجباً مهنياً ووطنياً.
لذلك فإنَّ أية محاولة للتشكيك في نواياه تصبُّ في خانة الموجة العاتية التي تكتسح الدول العربية والإسلامية والتي تزدري الإنتماء “الوطني” وتحطُّ من شأن الإلتزام بأداء الواجب الذي يفرضه ذلك الإنتماء بحجج واهية عنوانها العريض “عدم مخالفة الدين” بينما الدين منها بُراء حيث تم إقحامه في كل شىء لتحقيق مصالح ضيقة وغايات وهمية لن تؤدي في خاتمة المطاف إلا لوقوع الفتن والمزيد من الفوضى.