Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

الغيبوبة الحضارية

بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]

تمرُّ جميع أمم العالم وشعوبه دون إستثناء بمراحل تراجع حضاري تتسبب فيها عوامل وظروف تاريخية مُعينة، وقد تستمرُّ تلك المراحل في بعض المجتمعات لعدة قرون، بينما تستطيع مُجتمعات أخرى النهوض من كبوتها واللحاق بركب التقدم في فترات زمنيَّة أقصر.

ومن أهم العوامل التي تساعد المُجتمعات والدول في الإنتقال من حالة التخلف الحضاري ومواكبة العصر هو إدراكها “لشروط” النهضة، والتي يأتي في مقدمتها “الإنفتاح” والتواصل مع العالم، ونقل العلوم و المعرفة وأدواتها، وتطوير أساليب الحكم بما يسمح بإشراك البشر في عملية الإنتقال بفعالية، وغير ذلك من الأشراط.

وقد “تستعصي” بعض المُجتمعات والدول على إنجاز عملية الإنتقال، ليس بسبب نقص الثروات المادية أو الموارد البشرية، ولكن بسبب “الإنغلاق”، ومحاولة البحث عن مُحددات “المستقبل” في أضابير “الماضي”، والإصرار على التمسُّك والتركيز على القضايا “الشكلية” مع إهمال المطلوبات “الجوهرية” لعملية الإنتقال.

ما دفعني لتسطير هذا المقال هو إعلان صادر عن “مُجمع الفقه الإسلامي الدولي” التابع لمنظمة التعاون الإسلامي عن تنظيم ندوة عالمية للإجابة عن أسئلة شرعية منها ما يتعلق بأكل لحوم البرمائيات، والطبخ بالخمر.

وقال المُجمَّع أنه ( سيُجيب عن حكم أكل لحم الحيتان وسمك القرش والضفادع والتماسيح والسلاحف، والحيوانات التي تندرج ضمن قائمة البرمائيات ومشتقاتها من البيض والجلود وغيرها، كما سيوضح الطريقة الصحيحة في تذكية الحيوانات، وحكم صعق الدواجن قبل الذبح، والحكم فيما كان المذكي إمرأة ).

وكذلك قال المعهد أن الندوة ستبحث أيضاً ( الحكم الشرعي في استخدام مادة الكحول الإثيلي للتنظيف والعلاج والصناعات الأولية للمواد الغذائية، ووجودها بشكل طبيعي في الأغذية، واستخدام الخمر في الطبخ، والخل المصنوع من الخمر، والفرق بين الخمر والكحول وحكم إضافة الأخير إلى مستحضرات التجميل والعناية بالفم والأسنان ).

كما ستصدر الندوة أيضاً الحكم الشرعي في ( الجبن المصنوع من المنفحة “إنزيمات تؤخذ من معدة الحيوانات” إضافة لحكم استخدام المواد المشتقة من جسم الإنسان وإفرازاته أو الحيوان في الأغذية ومستحضرات التجميل وفي فرش الشعر والأسنان والفرش المستخدمة في إعداد الطعام، وفي ما يضاف إلى الطعام من أحجار كريمة ومعادن ثمينه كالذهب والفضة كجزء من الغذاء ).

أُصبت بدهشةٍ كبيرة وانا أطالع هذا الإعلان، وليس مصدر دهشتي هو الإهتمام “بالرأي الشرعي” في هذه الأنواع من الأطعمة، بل هو مساحة “الإهتمام” التي تحتلها مثل هذه الموضوعات في ترتيب أولويات “العقل” في العالم الإسلامي مُقارنة بما تهتم به بقية الدول والمُجتمعات في العالم.

لا يستطيع أحدٌ أن ينفي أهمية “الرأي الشرعي” في مثل هذه القضايا ولكن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه في هذا الأطار هو : هل تمثل هذه القضايا ولو نسبة ضئيلة جداً من هموم ومشاكل وتطلعات الشعوب الإسلامية حتى توجه منظمة كبرى مثل منظمة التعاون الإسلامي مواردها لعقد ندوة دولية بهذا الخصوص ؟

وأين هى الشعوب الإسلامية التي تأكل طعاماً مضافاً إليه ( أحجاراً كريمة ومعادن ثمينه كالذهب والفضة ) ؟ بل أين هى تلك الشعوب التي ( تأكل لحم الحيتان وتستخدم الخمر في الطبخ ) ؟ وهل من أولويات المسلمين اليوم معرفة الطريقة الصحيحة في ( تذكية الحيوانات وحكم صعق الدواجن قبل الذبح، والحكم فيما كان المذكي إمرأة ) ؟

هذه قضايا يُمكن علاجها في أطر محلية كلما ظهرت الحاجة لذلك، ولكنها لا يجب أن تكون في مقدمة هموم أمة يفوق عددها أبنائها المليار ونصف المليار شخص، وتقبع في ذيل الأمم من حيث التقدم الحضاري والتطور الإقتصادي والتقني.

المُهمة الكبرى والأساسية للحكومات والهيئات والمنظمات الإسلامية ينبغي أن تتمثل في كيفية الإجابة على سؤال النهضة والتقدم الحضاري أسوة بما فعلتهُ وتفعلهُ شعوب وأمم أخرى إستطاعت أن تتجاوز حالة الإنحطاط والجمود التي مرَّت بها مُجتمعاتها وتلحق بركب الحضارة.

أين نحنُ من أمةٍ مثل اليابان تمكنت من الخروج من أزمتها و من حُطام الحرب العالمية الثانية بنجاح منقطع النظير، وبتواصل وتعاون مع العالم دون أن تضحي بموروثها الثقافي والديني “الشنتوي”، حتى صارت في مقدمة الدول صاحبة الإقتصاديات المتطورة.

أين نحنُ من الهند التي لم يمنعها نظامها الإجتماعي العتيق، وموروثها الديني “الهندوسي” من خلق الإستقرار السياسي وإدراك مطلوبات العلوم العصرية، حتى باتت أكبر دول العالم إنتاجاً للكادر المدرَّب في علوم الحاسوب والتقنيات المتطورة، بل مضت في طريق المعرفة حتى تمكنت – بفضل علمائها – من الوصول لكوكب المريخ بتكلفة مالية لم تتعد ال 74 مليون دولار فقط.

ترى كم تنفق الدول والمنظمات الإسلامية من الأموال في نشر “العلوم الدينية” القروسطية التي تعمق مأساتنا الحضارية ؟ وكم من الأموال تصرف على الدعاة والبرامج التعليمية والقنوات الفضائية التي لا تنتج سوى أجيال من الشباب المسلم الذي يعيش “خارج الزمن” ويحلم بتحطيم سنن الكون وقوانينه عبر “إستجلاب” الماضي ليتحكم في الحاضر والمستقبل ؟

أين نحنُ من الشعب الألماني الذي دكت طائرات قوات التحالف ومدافعه أرضه دكاً في الحرب الكونية الثانية، و لكنه ما لبث أن ضمَّد جراحه وإستعاد عافيته في أقل من نصف قرن، حتى صار إقتصاد المانيا أكبر إقتصاد في أوروبا.

أنظار العالم الإسلامي متجهة نحو “وهم كبير” عمادهُ نظرية المؤامرة ، ولحمتهُ وسداهُ التمسك بالموروث البالي الذي لا ينتج سوى “الجمود والتراجع”. لقد تسمَّرت أبصارنا في محطة “صفين والنهروان وكربلاء”، وتوقفت عقولنا عند “فتاوى بن تيمية”، وفقه النكاح والسبايا، والمأكل والحيض ، بينما أنظار أمم العالم شاخصة نحو “القمر والمريخ و المشتري”، وعقولهُ منصرفة نحو الاختراعات “الميكرو-إليكترونية”.

تناسى المسلمون الرازي وإبن ماجد وإبن النفيس وجابر بن حيان، وباتوا ينقادون لشيوخ الغفلة الذين لا همَّ لهم سوى عورة المرأة وزواج المسيار وفتنة الفتى الأمرد والمداواة ببول البعير، يُنكرون كروية الأرض وأنَّ المطر ينتج من تبخر المياه، ومع ذلك يدَّعون – كذباً – أنهم يتحدثون بإسم “خير أمة أخرجت للناس”.

الأولويات التي يجب أن تنصرف إليها أموال الدول والمنظمات الإسلامية من شاكلة منظمة التعاون الإسلامي ينبغي أن تشمل إرسال البعوث العلمية للعالم الأول، والبحث العلمي والترجمة والنشر، وتمكين قيمة الحرية والديمقراطية، وتطوير الجامعات والمؤسسات العلمية، مثلما فعلت أمم أخرى من شاكلة كوريا الجنوبية.

كانت كوريا الجنوبية حتى عام 1960 تعتبر من أفقر دول العالم، حيث بلغ متوسط دخل الفرد فيها حوالى 79 دولار أمريكي، ولكنها باتت اليوم ضمن مجموعة العشرين لأكبر اقتصادات العالم، والسبب الرئيسي وراء ذلك كان بكلمة واحدة هو : التعليم، الذي تمَّ التخطيط له بطريقة مدروسة تفي بحاجة البلاد لإدراك النهضة.

لقد أحدثت العلوم وتطبيقاتها نقلة هائلة أوصلت الأنسان للقمر ، ومكنتّه من فحص التربة في كوكب المريخ، كما أدى التطور العلمي الي إنكماش الزمان والمكان، وحلت مقاييس جديدة ومرعبة في قياس ذلك الإنكماش، فأصبح المريخ علي بعد دقائق من الأرض، وأصبح بمقدور العلم أن يعبر الي داخل الثانية تفتيتا وتجزيئاً .. الي واحد على مليون على بليون منها، وما زلنا نحنُ نبحث في الحكم الشرعي لأكل لحم الحوت، فتأمل !

ختاماً أقول أنني لم أجد وصفاً يُصوِّر حال مجتمعات العالم الإسلامي سوى المثل السوداني البليغ ( الناس في شنو ، وال….. في شنو) !

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *