القطيعة مع الآخر
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
قلتُ في مقالاتٍ سابقة أنَّ خطاب جماعات الإسلام السياسي يستبطنُ بطبيعته نوعاً من القطيعة مع الآخر المُختلف، وتزداد هذه القطيعة إذا كان ذلك الآخر صاحب عقيدة دينية مُخالفة، وهو أمرٌ يقودُ بالضرورة لخلق علاقة بين الطرفين تطغى عليها ظلال الشك والتوجس ويميزها عدم التواصل وسيادة “نظرية المؤامرة”.
المشهد الإسلامي الحالي الذي تبرز فيه بقوة جماعات الإسلام السياسي يشي بإستمرار حالة “التخلف” التي يعيشها المسلمون منذ مئات السنين، ذلك أنَّ الخروج من المأزق الحضاري الراهن ومحاولة اللحاق بركب الأمم المتقدمة يتطلب نوعاً من التواصل والإنفتاح لا يتوافر لدى هذه الجماعات.
ولا أستثني في حديثي هذا بعض من يسمون أنفسهم بالإسلاميين الحداثيين داخل تيار الإسلام السياسي فهؤلاء لا يختلفون كثيراً عن إخوانهم “المتشددين” في فهمهم للقضايا الفكرية الحاسمة في مسألة العلاقة مع الآخر.
وليس ثمة دليل أوضح من تجربة حكم هؤلاء الأخيرين في السودان وما حملتهُ من شعارات تنذر بدنو عذاب أمريكا وروسيا، و سياسات وتوجهات تنبني على مقولات التآمر والإستهداف وهو ما أدَّى في خاتمة المطاف لقطيعة غير مسبوقة مع المجتمع الدولي.
الذي دعاني للتأمل في هذه القضية هو خبر منشور بموقع قناة “العربية” الإلكتروني قبل عدَّة أيام يقول أنّ أمير “جبهة النصرة” في منطقة حارم بريف إدلب السورية أمر بإغلاق المعهد المتوسطي في المدينة، والتابع للائتلاف الوطني السوري المعارض، كونه يدرس اللغة الإنجليزية، والتي وصفها الأمير بـ”لغة الصليبيين”.
وجاء في الخبر كذلك أنَّ بعض الطلاب سأل أحد عناصر “جبهة النصرة” عن سبب الإغلاق، فأجاب هذا الأخير أن “النصرة” ستغلق قسم اللغة الإنجليزية كونها لغة “الصليبيين”، مضيفاً أن “جبهة النصرة” ستطبق قراراً يلزم الفتيات بعدم الدراسة، كونها “حرمة” حيث إن عملها يكون في بيت زوجها أو بتربية أولادها فقط. وأوضح هذا العنصر للطالب أن “كون الإسلام حديثاً في المنطقة” ستطبقه “جبهة النصرة” بالتدريج وستسمح مبدئياً بدراسة اللغة العربية فقط.
هذا القرار يعكس أزمة عميقة في فكر أهل الإسلام السياسي عموماً، وهى أزمة تشمل جميع ألوان طيف ذلك التيار وليس الفئة المتطرفة فيه، وإذا كان هذا القرار يمثل التجلي الأكثر وضوحاً لتلك الأزمة فإنَّ ظلاله موجودة في أفكار المرحوم سيد قطب حول “الجاهلية” و تقسيم العالم “لدار الإسلام و دار الكفر”، وكذلك في فكرة “الولاء والبراء” التي تزدحم بها كتب المتشددين من تكفيريين وسلفيين ، ومناهج التعليم بما في ذلك منهجنا السوداني.
جميع هذه الأفكار تؤسس لمفهوم القطيعة مع الآخر، وتعمل على ترسيخ حالة التخلف التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، وهى أفكار تتعارض جذرياً مع تلك الأفكار التي تبناها المسلمون عندما كانت حضارتهم ناهضة وتتقدم ركب الأمم في العلوم والفنون والأفكار، وفي الإنفتاح على الآخر والمثاقفة معهُ.
قد كان القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) هو قرن التوهج الحضاري للدولة الإسلامية، حيث شهدت حركة الترجمة فيه تطوراً كبيراً وعلى وجه الخصوص في عهد الخليفة هارون الرشيد الذي توسع في ترجمة كتب الطب والفلسفة اليونانية والفارسية والهندية.
ثم جاء من بعده الخليفة (المعتزلي) المأمون الذي دعم الحركة العلمية، وأمر بترجمة الكتب في مختلف الفنون والعلوم ، وكان يُعطي وزن ما يترجم ذهباً مما أدى إلي توافد العلماء والمترجمين ورواج صناعة العلم والأدب والفنون والنقل والترجمة.
اللغة الإنجليزية قبل أن تكون لغة “الصليبيين” كما يقول أهل جماعة النصرة و داعش و القاعدة و غيرهم من جماعات الإسلام السياسي، هى لغة العلوم والتواصل الأولى بين شعوب العالم في هذا العصر، ولا تستطيع أمة من الأمم تتطلع للنهوض واللحاق بركب التقدم الحضاري الإستغناء عنها.
وهذا هو الأمر الذي أدركه (مأمون) المسلمين في هذا الزمان : مهاتير محمد، الذي إستوعب بحصافة ووعى أحوال العصر و ظروفه الإقليمية و إتجاهاته العالمية، وعلم أنّ أية تخطيط إستراتيجي يهدف لتنمية بلاده لا يمكن أن ينجح الا في ظل “التواصل” مع الآخر و خصوصاً مع الدول الغربية. ولم يجد في ذلك ما يناقض إتجاهاته الدينية، ولذلك قال قولته الشهيرة : (حين أصلي أدير وجهي للكعبة، وحين أتعامل أقتصادياً أدير وجهي ناحية بورصة نيويورك ).
و يُخبرك العارفون بالتجربة الماليزية بأنّ التعليم كان رأس الرمح والركيزة الأساسية في عملية التنمية والنهوض، وقد تم الإهتمام على وجه الخصوص “باللغة الانجليزية” في تعليم الرياضيات والعلوم، كما تم إبتعاث آلاف الطلاب الماليزيين للدراسة في الخارج وخصوصاً في أوروبا وأميركا.
التجربة الماليزية – لمن لا يعلم – ليست لديها أية إرتباطات فكرية أو عملية بجماعات الإسلام السياسي، بل هى على النقيض مما يدعون له، ولا يغرَّن الناس التشبث “المرضي” لأهل ذلك التيار في بلادنا بتلك التجربة ومحاولة تصويرها كرصيد يحسب في صالح توجهات تلك الجماعات.
ليست ماليزيا الإسلامية وحدها من إختطت هذا الطريق ولكن دولاً تعتنق أدياناً أخرى سارت في نفس الطريق، و منها اليابان وكوريا الجنوبية والهند والعديد من دول العالم التي حدثت فيها معجزات تنموية. وفي منطقتنا سار حاكم مصر “المستنير” وباني نهضتها الحديثة محمد على باشا في ذات الطريق عندما أرسل البعوث التعليمية لأوروبا في القرن التاسع عشر لدراسة التجربة الحضارية الغربية والاستفادة منها.
في سوداننا المنكوب، ومنذ إستلام “الجماعة” للسلطة، تدهورت العلاقات مع المجتمع الدولي وخصوصاً الدول الغربية، وتوقفت البعثات التعليمية والتدريبية التي كانت يذهب فيها مئات السودانيين لدول مثل بريطانيا والمانيا وأمريكا، وإذا كان صحيحاً أنهم لم يمنعوا تعليم اللغة الإنجليزية بفرمان حكومي، فإنَّ الصحيح أيضاً أنهم فعلوا فيها الأفاعيل، بل أنهم ساموا لغتنا الأم مُر الخسف حتى صار خريج الجامعة يكتب “لكن” هكذا : “لاكن” !
( إنَّ الأمة الإسلامية مازالت تعيش في سُباتٍ عميق وينبغي أن نعترف لأنفسنا قبل غيرنا بأن المجتمعات الأخرى قد سبقتنا ببضعة قرون، ومن ثم فإنّ المسلمين مطالبون أكثر من أي وقت مضى أن يدركوا حقيقة الوضع الذي هم فيه في ضوء ما استحدثته المجتمعات البشرية المتطورة من أفكار تجديدية، وتقنيات حديثة ما زالت الأمة غير مهيأة لإستيعابها وعاجزة تماما عن التعامل معها ).
الكلمات أعلاه قالها الدكتور مهاتير محمد مُلخصاً الأوضاع البائسة التي تعيشها الأمة الإسلامية، وداعياً المسلمين للإستفادة من “الأفكار” الحداثية التي أنتجتها المجتمعات المتقدمة حتى تستطيع تجسير الفجوة البالغة “عدة قرون” من أجل مواكبة العصر، وهو الأمر الذي لن يتم دون “تواصل” إيجابي مع تلك المجتمعات.
دعوة الدكتور مهاتير تتطلبُ التخلي عن الأفكار الدينية المتعصبة التي تدعو للقطيعة وتعزِّز الشكوك وعدم الثقة في “الآخر” وهى الأفكار التي تتبناها مُختلف تيارات الإسلام السياسي بدرجات متفاوتة والتي رأينا نماذجها التطبيقية الصارخة في إمارة الطالبان بأفغانستان، والدولة الإسلامية في سوريا والعراق، وبدرجات أقل في السودان وإيران.