Friday , 22 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

التعليم قديماً (2)

عيد بخت الرضا الفضي ومناهجها

بقلم دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه

بمناسبة حلول عيد بخت الرضا الفضي في العام 1959م، طلب سكرتير مهرجان العيد (وهو طالب بالسنة الخامسة المكلفة بأمر العيد) من عبدالرحمن علي طه أن يحيي تلك المناسبة بمقالة قصيرة تنشر في عدد مجلة بخت الرضا الخاص بالعيد. بعث إليه عبدالرحمن علي طه بالمقالة التالية بعنوان: «عندما تقسو الحياة»

حضرة سكرتير مهرجان العيد الفضي المحترم

تحية طيبة مباركة، وبعد:
تمر بي وبك وبغيرنا من الناس ظروف قاسية تجعلنا جميعاً نضيق بالحياة، ولكنا جميعاً ننشد السلوى ونسعى للخلاص من هذا الضيق بطرق مختلفة، فأنت مثلاً قد تجد التنفيس لما تحسه من ضيق في ذكرى عمل جليل قمت به منفرداً أو اسهمت فيه مع آخرين، وغيرك من الناس ربما يتخلص من هذا الضيق بطريقة مشابهة، أما أنا فحسبي في مثل هذه الظروف أن أذكر بخت الرضا، لأن ذكراها تغمرني بقدر من السرور لا سبيل لتصويره، وتجعلني أستقبل الحياة من جديد، فأراها مشرقة باسمة لا ضجر فيها ولا ضيق.

أذكر يا سيدي السكرتير أني نزلت مع النازلين في تلك الرقعة من الأرض نلتمس البعد المعقول من المدن الصاخبة بالحركة ليتوفر الهدوء، فنتوافر على العمل المنتج.
وما كدنا نشرع في اصلاح المناهج من استظهار رتيب إلى متعة حافزة، ومن جمود يميت القلب إلى تحلل من القديم القاتل، ومن ركود في الفكر السقيم إلى تفكير مستقيم – ما كدنا نشرع في هذا وفي غير هذا حتى واجهنا بعض الناس بألوان مختلفة من النقد الهادم.

قال بعضهم: ان الاستعمار اختار تلك البقعة الجرداء النائية لينفذ خطة مرسومة مقدرة ويحقق نية سوء مبيتة.

وقال آخرون: ان ادخال اللغة الانجليزية في منهج مدرسي المدارس الأولية لم يقصد منه الا قفل كلية غردون، والاستغناء عمن تخرجهم من كتبة ومحاسبين، وقال بعض آخر: ان اللعب بالطين والقصب أريد به ضياع الوقت في عبث لا غناء فيه.
وذهب الكثيرون إلى القول بأن كتاب «الجغرافيا المحلية» هو النواة لأقلمة التعليم، وآيتهم في ذلك كلمة «محلية» الواردة في اسم الكتاب.

وتندر غير هؤلاء بما لا يصلح موضوعاً للتندر، فهم يجادلونك في قيمة الفرق التجديدية (الكورسات) وفي قيمة الرحلات المدرسية، لأنها في حسابهم ضياع للوقت وحرمان من الدرس والتحصيل، وهم يؤكدون أن ما يسمعونه من نقاش حر في اجتماعات النادي الزراعي مثلاً سيدرب الشباب على اللجاج والخروج على التقاليد.
ان مثل هذا النقد الذي سقت أطرافاً منه، لم يثن عزيمة القائمين بالعمل، فمضوا فيما مضوا فيه يصلحون المناهج على ضوء التجارب العملية، ويضعون الكتب والكتيبات الشارحة، ويستقبلون الفوج بعد الفوج من الأساتذة للفرق التجديدية، ويضعون النواة لتعليم الكبار، ويهيئون السبل للرحلات المدرسية، ويتفقدون العمل في المدارس للارشاد والتأكد من سلامة التطبيق، وهكذا إلى أن كشفت الأيام عن الخطة المرسومة، ولكنها غير الخطة التي ألمعت إليها في مستهل الحديث، وغير الصورة المشوهة التي رسمها الناقدون.

والذي كشف الخطة سليمة قوية أخاذة، ورسم الصورة متناسقة ناطقة جذابة، هو أنت ورفاقك من عهد الانشاء إلى عهدك الحاضر وإلى العهود اللاحقة ان شاء الله.

أنظر مثلاً إلى اللعب بالطين والقصب كيف بلغتم به مكاتب النشر ومعارض الفنون.
وإلى العيد كيف تخرجونه جميلاً يسر الناظرين حين تجلسون وتدرسون وتضعون الخطة العامة فالتفاصيل اليسيرة الدقيقة، ثم تقبلون على التنفيذ متعاونين مقدرين لمسئوليتكم. ان في القيام بمثل هذاالعمل خير دليل على تركيز الخلق العظيم في نفوسكم بفضل الجمعيات والرحلات وما إليها.

ثم استمع إلى عامة الناس حين يقولون: ان مدرستنا ناجحة لأن أغلب مدرسيها من خريجي بخت الرضا أو ممن تلقوا تدريباً في معاهدها.

ثم أنظر أيضاً إلى الزائرين كيف أنهم قصدوا بخت الرضا من الشرق والغرب وكيف أنهم أخذوا عنها كما أخذت عنهم.

وإلى بعض الكتب التي أخرجتها بخت الرضا فطبعت بالانجليزية، وما زالت تباع إلى يومنا هذا في أقطار أوروبا المختلفة.

سيدي السكرتير:
لقد قضيت بالمعهد زهاء ثلاث عشرة سنة، ولعلي أسهمت مع من أسهموا في نهضته، أو على الأقل شهدت عن كثب تطوره وتقدمه، وسواء أكان هذا أم ذاك، فاني عندما تقسو الحياة أو تجفو، ألتمس الخلاص من ضيق الحياة وقسوتها في ذكرى بخت الرضا، فأنت ورفاقك موضع فخري واعجابي، والذي يزيد من فخري حتى ليكون زهوا، ومن اعجابي حتى ليكون كبرياء، هو ما ألمحه في زياراتي المتباعدة من ابتكار بل من انشاء، في جوانب كثيرة من حياة المعهد.
فسيروا بالمعهد قدماً في مدارج الرقي ومعارج الكمال.
ثم بعد ذلك فلتضق الحياة ما شاءت أن تضيق، فأنتم ملء سمعي وملء بصري، وحسبي هذا من مسرة باقية، وبهجة غامرة.

كتاب الجمعيات (1943)

التدريب الخلقي وابتكار الأنشطة التي توفر الفرص لنماء الشخصية كانت تشغل حيزاً كبيراً ومهماً في مناهج بخت الرضا. ومن هذه الانشطة الجمعيات الطلابية كطريقة للتدريب العملي على الديمقراطية والحكم الذاتي أو بالأحرى العمل الجماعي باجراءات ديمقراطية. في الورقة التي قدمها عبدالرحمن علي طه في جامعة كولمبيا في عام 1949 عن النواحي الاقتصادية والسياسية للتعليم في السودان، نوه عن النجاح الذي حققه في هذا المضمار نادي صغار المزارعين في بخت الرضا. وفي تحيته لبخت الرضا في عيدها الفضي ذكر نقد البعض للجمعيات. فقد زعم هؤلاء أن الجمعيات ستدرب الشباب على اللجاج والخروج على التقاليد. صدر الكتاب المرجعي للجمعيات ضمن «سلسلة كتب الوطني الحق» في عام 1943 وكان من تأليف قريفث ومكي عباس. وقام بتجربته في بخت الرضا الهادي ابو بكر وجمال محمد احمد.

جاء في مقدمة الكتاب أن القواعد الحسنة لا تكفل وحدها النجاح للجمعية. «فنجاح الجمعية يتوقف فوق كل شيء على صفات خلقية كثيرة في الأعضاء التنفيذيين وفي بقية أعضاء الجمعية. فإذا لم يسد روح التعاون بين الأعضاء، وإذا لم يكن الرئيس منصفاً غير ساعٍ وراء تمجيد نفسه، وإذا لم يكن السكرتير من المجدين الذين يعتمد عليهم، وإذا لم يكبح محبو الكلام انفسهم ويقصروا كلامهم على ما هو ضروري، نقول إذا لم تتوافر في الاعضاء هذه الصفات وصفات كثيرة، آبت الجمعية بالفشل لا محالة رغم قواعدها الحسنة». ويلاحظ أن الكتاب يشير في مواقع كثيرة إلى الاخلاق والسلوك وإلى الحاجة إلى صفات معينة وإلى نتائج فقدانها.

وعن دور المدرس في الجمعية المدرسية، ورد في الكتاب أن دوره يختلف بحسب اختلاف الجمعيات. ولكن القاعدة العامة أن وظيفته استشارية محضة في أغلب الجمعيات، فللجمعية أن تعمل بنصيحته أو لا تعمل بها.

يتكون الكتاب من بابين وعدة فصول تشمل على سبيل المثال: تقسيم اعمال ادارة الجمعية، كيفية السير في مناقشات الجمعية، واجبات الاعضاء، كيفية اتخاذ القرارات وتنفيذها، ضبط مال الجمعية، كيف ينتخب الأعضاء التنفيذيون، آداب الاجتماعات، الأقليات وغيرها، وورد في الكتاب أنه إذا شعر بعض أعضاء الجمعية بأن اللجنة التنفيذية قد بدرت منها اشياء جعلت الأعضاء لا يثقون بها، فلهم أن يستدعوا بعدم الثقة فيها.

لا مجال لبسط القول هنا حول محتويات كتاب الجمعيات. سنكتفي فقط ببعض ما جاء فيه عن كيف يتحول النظام الديمقراطي إلى نظام ديكتاتوري وعن الاقليات.

كيف يستحيل النظام الديمقراطي إلى نظام ديكتاتوري

ربما ترى أنه من المسلم به أن النظام الديمقراطي هو خير أنواع الحكم وتتطلع لليوم الذي نرى فيه بلادنا سائرة على نظام ديموقراطي محض. إن كلمة الديموقراطية من الكلمات التي تجعل الشخص يفكر في الحرية – خصوصاً في حرية التعبير عن آرائه كما إنها تحمل له معنى آخر من معاني الحرية وهو أن للشخص كلمة في سياسة قطره. هذه أشياء سامية ونحن نشاركك الاعتقاد بأن الديمقراطية خير أنواع الحكم.

ولكن لكي تكون الديمقراطية ناجحة يجب ألا تكون قاصرة على إعطائك الحرية للتعبير عن آرائك الخاصة ولتبذل ما في وسعك لتحمل الحكومة على الأخذ برأيك. فالناس يختلفون في الرأي وفيما يريدون وإذا لم يكن كل شخص مستعداً لان يتسامح مع الذين يخالفونه في الرأي ويتعاون معهم فإن الديمقراطية تصير غير قادرة على الحكم بجدارة، وربما تسود فيها الفوضى. وتكون النتيجة أن يمل الناس بقاءها ويرحبوا بقيام رجل واحد يقطع للناس العهود بأنه سيحكمهم بجدارة غير مدفوع بشئ سوى منفعة الوطن.

لا مراء في أن الناس عادة يجدون هذا الفرد قاسياً يسعى وراء المجد والعظمة ولكن هذا لا يتضح لهم إلا بعد أن يستلم أزمة الحكم ويصير أمر التخلص منه صعباً جداً. والواقع أنه لا يمكن التخلص منه إلا بعد الثورة وسفك الدماء.

ولذلك فإنه من المهم جداً ألا يكون هناك مجال في الديمقراطية للتراخي في العمل ولسوء النظام.
وإنك ستجد الفرصة سانحة في الجمعيات المدرسية التي تسير على نظام ديمقراطي والتي تدير شيئاً من المال – خصوصاً مال التلاميذ الخاص كما هي الحال في ناد لصغار المزارعين – ستجد الفرصة سانحة في مثل هذه الجمعية لاكتساب الخبرة عن بعض مواطن الضعف في الديمقراطية كما إنك ستجد مجالاً للاستفادة من تجاربك.

حدث مرة في ناد لصغار المزارعين أن عدداً كبيراً من الأعضاء كانوا يرغبون في الاستغناء عن اللجنة التنفيذية والتقدم إلى أحد المدرسين بالطلب ليدير الجمعية ومعنى هذا أنهم رغبوا في تعيين دكتاتور. وذلك لأنهم سئموا الاجتماعات الطويلة التي يكثر فيها الكلام ولا يصدر فيها قرار. ان الأخطاء التي وقع فيها أعضاء هذه الجمعية هي عين الأخطاء التي سببت انهيار الديموقراطيات في الماضي:
1- كان بينهم من وقفوا في سبيل اتخاذ القرارات بسرعة بالاكثار في الكلام لا لشيء سوى أنهم يحبون أن يظهروا للناس مقدرتهم على الكلام.
2- وكان بينهم آخرون غالوا في المعارضة ورفضوا أن يتعاونوا لا لشيء سوى أنهم كانوا يكرهون شخصاً أو أشخاصاً من مؤيدي الموضوع كراهة شخصية.
3- وكانت أغلبيتهم غير قادرة على أن تبدي آراء حكيمة أو أن تضع أصواتها حيث يجب وضعها عند أخذ الرأي لأن الكسل قعد بها عن دراسة المسائل المتعلقة بالتصرف في أموال النادي أو عن تفهم قوانين النادي.

فالديموقراطية لا تسلم من الخطر الذي يهددها إلا إذا كان الأعضاء: (أ) على اتم استعداد لأن يكلفوا أنفسهم مؤونة درس المواضيع الصعبة التي يراد البت فيها، (ب) غير متأثرين ساعة أخذ الرأي بمن يحبون أو بمن يكرهون من الأعضاء الذين أيدوا الموضوع أو الذين عارضوه عندما طرح للبحث (ج) مستعدين لأن يساهموا في تنفيذ قرارات الأغلبية حتى ولو كانوا يرون أن القرارات ليست صائبة.

الأقليات

انقسام الآراء: قد يحصل في الجمعيات الكبيرة كالمؤتمر مثلاً أن ينقسم الرأي في أمور هامة كأن يرى البعض أن تكون نسبة الأموال التي تصرف على التعليم الأولي أكبر من النسبة التي تصرف على التعليم الأوسط. ويرى فريق آخر عكس هذا الرأي … وربما يظل الفريقان على هذا الاختلاف في الرأي سنوات عديدة. إن الطريقة المتبعة للوصول إلى القرارات في المواضيع التي تختلف فيها الآراء هي أن نأخذ الاصوات ونتبع رأي الأغلبية.

الأقليات المستديمة: وعلى هذا فإنه ربما تمضي سنون دون أن تجد مجالاً في الجمعيات التي تنتمي إليها في المستقبل لتنفيذ رأي تشاركك فيه أقليات من أعضاء جمعيتك خصوصاً إذا كنت منتمياً إلى فرقة دينية تعتنق مذهباً غير مذهب الأغلبية أو إلى عنصر يكون أقلية بالنسبة للسكان. هذا وإن كل فرد لا بد أن يمر عليه يوم يجد نفسه في صفوف الأقلية، فيعارض المشاريع التي تنوي الأغلبية تنفيذها. لهذا السبب كان لزاماً على كل فرد أن يعرف حقوق الاقليات وواجباتها.

الاهتمام بأمر الأقليات: وهنا سبب آخر يحملنا على الاهتمام بأمر الاقليات، ذلك هو أن سعادة الاقليات وتعاونها مع الأغلبية من أكبر ضرورات التقدم في القطر. وإنك إذا رجعت إلى التاريخ تجد أنه كثيراً ما ثارت الأقليات أو تضامت مع الاعداء على الكيد لبلادها إذا أساءت الأغلبية معاملتها. وأقرب مثال نسوقه إليك هو أن الأقليات المهضومة الحقوق كانت أحد الأسلحة المهمة التي ساعدت هتلر على قهر أوربا.

ان الخبرة التي تكتسبها في المدرسة عن الطريقة التي ينبغي أن تعامل بها الأغلبية الأقلية وعن الخطة التي يجب أن تسير عليها الأقلية لتتعاون مع الأغلبية على ما فيه نفع الجمعية، هي جانب مهم من التدريب الذي تحتاجه لتكون وطنياً نافعاً. لأنها ربما تجعلك قادراً في المستقبل على القيام بخدمة لبلادك إذا ما أخذ البعض في إذكاء روح الحزبية وتنمية العصبية. اذ ربما تستطيع في مثل هذه الظروف أن تساعد في حمل الناس على التسامح والتعاون باخلاص على ما فيه خير الجميع. وربما تساهم في وضع حد للانشقاق وفي قمع العنف اللذين قد خيَّبا آمال كثير من الأمم التي حاولت انشاء حكم ديموقراطي.

وهناك مسلك خاطئ وهو أن بعض الأعضاء يبارحون الاجتماع العام أو ينفصلون من الجمعية أو النادي لا لشيئ سوى أن الاقتراح الذي قدموه لم ينل موافقة أغلبية الأعضاء. هل اشترط هؤلاء الأعضاء على الجمعية عندما التحقوا بها أن توافق على رغباتهم وتتبعها؟ لا شك أن هناك أحوالاً يرى فيها العضو أن الجمعية قد انحرفت عن غرضها الأساسي أو ان الروح الطيبة التي كانت تسودها قد فسدت ولذلك فإنه يرغب في الانفصال عنها. ولكن الأحوال التي يجد فيها الشخص مبرراً للانفصال يجب ألا تكون أكثر من الأحوال التي يصمم فيها الفرد على المهاجرة من بلاده لا لسبب إلا لأنه لا يستطيع تحمل تصرفات الحكومة.

إن التصرف الصحيح الذي يلجأ إليه العضو عندما ترفض الأغلبية آراءه هو أن يلجأ إلى الدعاية… لا تيأس اذا كانت مشاريعك معقولة ومفيدة للجميعة. ان الطريقة التي تمكنك من الحصول على موافقة الأغلبية هي أن تبث دعوتك بين الناس. وأن تحاول إقناعهم وإثارة اهتمامهم متوخياً في ذلك اللباقة… فإذا ثابرت وصبرت ربما تحمل الأغلبية على الموافقة على مشروعك. لا تنس أن كثيراً من الاصلاح الذي أدخل في مختلف أجزاء المعمورة في مختلف العصور كان نتيجة مثابرة رجال قليلين وصبرهم على بث الدعوة حتى تقتنع الأغلبية بآرائهم. هذه هي الطريقة التي نشر بها نبينا صلى الله عليه وسلم الديانة الاسلامية والتي حذاها «ولبر فورس» في القضاء على تجارة الرقيق في العصور الحديثة.


كتاب «الجغرافيا المحلية» (1938)

هذا الكتاب من تأليف ف.ل. قريفث وعبدالرحمن علي طه. كان هذا الكتاب يدرس في السنة الثانية بالمدرسة الأولية. في مقدمةالطبعة الأولى للكتاب في مارس 1938، قال مؤلفا الكتاب: «إن طرق المواصلات السريعة ووسائل النقل الحديثة قد جعلت العالم يبدو وكأنه قطر واحد. كما أن المخترعات الحاضرة غيرت ظروف الحياة المادية في كل مكان تغييراً رأينا معه ما يبرر تدريس الجغرافيا حتى في مدارس القرى النائية على شرط أن يراعى في اختيار المادة حاجة الغالبية العظمى من التلاميذ الذين تقيد الضرورة مدة تعليمهم. فما أسماء الاقطار والأماكن الكثيرة، وما التعمق في تعليل الظواهر الطبيعية بألزم لهم من:
(1) أن يدركوا ادراكاً واضحاً موقفهم في المجتمع المحلي ومكانهم فيه.
(2) وأن ترسم في اذهانهم صورة حية دقيقة لحياة غيرهم من الناس ممن تربطهم بهم صلات اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية».

وقال المؤلفان أيضاً «إن هذه الدراسة في الجغرافيا لم تجمع مرتبة في هذا الكتاب إلا بعد أن جُرب تدريسها أكثر من مرة، وأُصلحت على ضوء هذه التجربة غير مرة أيضاً، وإن مادتها وإن تكن ذات صبغة محلية، إلا أن الطريقة، فيما نرى، لا تقتصر في تطبيقها على مكان معين بل تصلح للاستعمال في الأماكن الأخرى».

نُشر الكتاب باللغة الانجليزية أيضاً في ديسمبر 1939 في انجلترا تحت اسم: بداية تعلُم الجغرافيا في افريقيا وأي مكان آخر.

قدم للطبعة الانجليزية استاذ الجغرافيا المرموق جيمس فيرقريف. ذكر في تقديمة أن أحد نظار المدارس في انجلترا ومن المعروفين في عالم الجغرافيا، قال إن هذا الكتاب قد وفر له الحل لبعض المسائل التي كانت تحيره طيلة عمله في مهنة التدريس. وقيل أيضاً عن طبعته الانجليزية: إن تدريس الجغرافيا بهذه الطريقة تجعل منها مادة حية كما ينبغي أن تكون، وتثبت كذلك قيمتها العظيمة في تدريس التربية الوطنية.

كما سبقت الاشارة فإن الكتاب كان بمثابة المرشد للمدرس المكلف بتدريس مادة الجغرافيا في السنة الثانية بالمدرسة الأولية. الغرض من هذا الكتاب أن يلم التلميذ بمبادئ الجغرافيا فيعرف الفرق بين الصورة والخريطة والاتجاهات ورموز الخريطة. ويتعلم رسم الخريطة ابتداء بخريطة الفصل والمدرسة وما جاورها. وكذلك قراءة الخريطة والسير بها للوصول إلى مواضع دُفن فيها قليل من البلح أو الحلوى داخل مظاريف وكان هذا التمرين يعرف بالكشف عن الكنز باستخدام الخريطة. ويشمل المنهج كذلك زيارة اشخاص في البيئة المحلية يؤدون خدمات للمجتمع المحلي، ويكون السير لهؤلاء أيضاً بخريطة. قد تشمل الزيارات الطبيب وإمام المسجد والجزار والتاجر ووكيل البريد وضابط الشرطة. ومن خلال هذه الزيارات يتعرف التلميذ على طبيعة عمل كل واحد من هؤلاء وأهميته للحياة، ويدرك أن حياة الناس مترابطة. وفي مرحلة لاحقة يتوسع هذا الادراك عندما ينتقل خارج قريته الصغيره إلى مجتمع أكبر يعتمد أيضاً بعضه على بعض. وقد تكفل بذلك كتاب «سبل كسب العيش في السودان».

كتاب «سبل كسب العيش في السودان» (1941)

كان هذا الكتاب يمثل منهج الجغرافيا للسنة الثالثة في المدرسة الأولية. أُعد هذا الكتاب من واقع زيارات حقيقية قام بها في عام 1937 نفر من مدرسي بخت الرضا. وقد كانوا عبدالرحمن علي طه، والشيخ مصطفى، وعثمان محجوب، وسر الختم الخليفة، ومكي عباس، واحمد ابراهيم فزع، والنور ابراهيم، وجانسون سميث.

جاء في مقدمة الكتاب في طبعته الأولى (1941) أن الأسر في الزيارات الخمس الأولى (القولد، ريرة، الجفيل، بابنوسة، يامبيو) يحصلون على اسبا ب العيش بطريقة لم تتغير إلا قليلاً عن عهد اسلافهم. ومن العوامل الرئيسية التي تكيف حياة الأسر في هذه الزيارات الخمس، المطر الذي يتدرج من غزير إلى أغزر، بينما تحصل الأسرة الخامسة (محمد قول) على اسباب العيش بطريقة موروثة أيضاً. إلا أنها تعتمد في ذلك على البحر لأعلى الأرض. أما الأسر الثلاث الأخيرة (ود سلفاب، أم درمان، عطبرة – بورتسودان) سواء كانوا زراعيين أو من سكان المدن، أو ممن يعملون في المواصلات، يخضعون في حياتهم اليوميةلأوامر وقوانين قلما كان يتعرض لها اسلافهم. وفي نظير ذلك تتوافر عندهم سبل الراحة أو ضمان العيش أو هما معاً، أو قد تسنح لهم فرص ينعمون فيها بطرف من ملاذ الحياة.

وجاء كذلك في المقدمة، أن الكتاب لم يستخدم طريقة الجغرافيا الاقليمية المتبعة عادة في تدريس الجغرافيا. فقد استقر الرأي على أنه في مثل هذا القطر الواسع الذي لم يُلم سكانه بعد إلا بالقليل من أحواله العامة، ولم تنضج في نفوس أهله بعد روح الميل لخير الشعب بوجه عام، فإن أهم شيئ للولد من الناحية التأسيسية أن يدرك أن حياة غيره من السودانيين تشبه حياته كثيراً، وكل ما هناك من فوارق يعود إلى أن لكل جهة ظروفاً مختلفة يعمل أهلها على تذليلها والتغلب عليها. ولن يتيسر التقدير الحق لموقف الغير والعطف عليهم، ولن يتوافر الاعتماد المتبادل بين المدينة والقرية وبين القبيلة والقبيلة، إلا إذا أدرك الولد تلك الفوارق والاختلافات. لذا رؤي أن تُدرس هذه الفكرة التأسيسية عن طريق الوصف المحسوس لأسر حقيقية لا عن طريق التعميم كما في الجغرافيا الاقليمية. فمن خلال هذا الكتاب وعبر الطريقة التي انتهجها يخرج التلاميذ من الوسط المحلي إلى محيط أوسع فيمتد أفقهم وتتسع مداركهم ويرون بعين الخيال اصدقاءهم في أنحاء السودان المختلفة في صور حية يعيشون في جهات مختلفة متباينة في مناخها وبيئاتها وموارد ثروتها الطبيعية.

نُشر مع كتاب «سبل كسب العيش في السودان» مرشد للمدرس لتدريس الكتاب(1941). ورد في المرشد أن هناك فوارق في اللغة والعادات والدين بين الأسر التسع التي تمت زيارتها. وورد فيه أيضاً أن الكتاب لم يتجنب وصف هذه الفوارق كما أنه لم يبالغ في توكيدها. فقد كان الغرض بيان أن الناس الذين نزورهم ما هم إلا بشر لهم مالنا من الشعور والرغبات. ولكن هناك خطر أن يحتقر الأولاد بعض هذه الأسر أو يكرهونها لأن لغتهم او عاداتهم أو ديانتهم تبدو غريبة لهم. والشيئ الوحيد الذي يدرأ هذا الخطر هو موقف المدرس وشعوره نحو هذه الاختلافات. فعلى المدرس أن يتجنب تلك الطريقة التي يصعب علينا وصفها، ولكنا نقول أنها تبدأ عادة بابتسامة السخرية. وعليه أن يتذكر أن الكثير من هذه العادات التي قد تبدو سخيفة هي في الحقيقة قد تكون مستندة إلى سبب معقول في الوقت الحاضر أو إلى آخر كان معقولاً عندما بدأ الناس ممارسة هذه العادات.

وورد في مرشد المدرس كذلك أن الزيارات المحلية في منهج السنة الثانية توضح للولد كيف أن أعمال الأفراد في المجتمع المحلي يرتبط بعضها ببعض، وكيف أنه في الواقع يعتمد بعضنا على بعض. وتنظبق هذه الحقائق على المجموعة السودانية عامة. كما أن الولد سيتعلم بالتدريج أن تبادل المنفعة هذا يهيمن على تسيير دفة الأعمال في العالم بأسره.

جُربت مسودة كتاب «سبل كسب العيش في السودان» لأول مرة في مدرسة بخت الرضا الأولية في عام 1938 تحت اشراف احمد ابراهيم فزع. وبعد ذلك ارسلت المسودة لاشخاص عهد فيهم المقدرة على ابداء الملاحظات. كما نوقشت مع بعض نظار ومدرسي المدارس الأولية الذين وفدوا إلى بخت الرضا لحضور دورات (كورسات) تجديدية. كما كُلف عبدالعزيز أمين عبدالمجيد (وهو مصري) رئيس شعبة اللغة العربية ببخت الرضا والشيخ عبدالله البنا بمراجعة الكتاب لجهة صلاحية لغته للقارئ المبتدئ. وهكذا كان نهج بخت الرضا التمحيص والتدقيق والتجريب قبل التعميم لضمان سلامة النتائج وتحقيق الاهداف. وذلك من منطلق ان اصلاح التعليم امر جد خطير ولا يسمح بالارتجال. وقد روى لي الوالد عبدالرحمن علي طه أنه في مرحلة من مراحل إعداد الكتاب ثار شك حول صحة معلومة تتعلق بزيارة ريرة في منطقة البطانة وبالتحديد في موقع يقال له «السباغ» وتكتب احياناً «الصباغ». ولتأكيد أو تصويب تلك المعلومة، اضطر للسفر إلى القضارف لقضاء ليلة واحدة لمقابلة ناظر قبيلة الشكرية.

يكتمل منهج الجغرافيا للمدرسة الأولية في عهد بخت الرضا برحيل تلاميذ السنة الرابعة بخيالهم إلى اصدقاء في خارج السودان وذلك من خلال كتاب «سبل كسب العيش في العالم» الذي أعده في طبعته الأولى في عام 1950 ج.ى. ودول وعبداللطيف عبدالرحمن. وقد روعي في اختيار الأماكن المزورة في الخارج أن تكون صالحة للمقارنة بمرافق الحياة الهامة في السودان كالرعي والزراعة. يحدد هذا المنهج للتلاميذ وضع السودان بالنسبة للعالم ويعينهم على مقارنته بأقطار العالم الأخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مجتزأ من كتاب: عبدالرحمن علي طه: أوراق في التعليم والسياسة (تحت الطبع).

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *