الغُربة الزمانيَّة
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي شنها تنظيم القاعدة على أمريكا، طالب كثيرٌ من الخبراء و دوائر صنع السياسات و مراكز الأبحاث الأمريكية بضرورة مراجعة “المناهج التعليمية” في الشرق الأوسط، والتي رأوا أنها كانت أحد الدوافع الرئيسية وراء صُنع “القنابل” البشريَّة التي فجرَّت بُرجي التجارة و جزء من مبنى البنتاجون.
وكنتُ قد أعددتُ بحثاً في الدراسات العُليا بجامعة دينفر ذهبت فرضيتهُ الأساسية إلى أنَّ هنالك أسباباً أخرى أكثر أهمية وتلعبُ الدور الحاسم في “صناعة الموت” التي أتقنتها التيارات العنيفة، وقد تناولت الدراسة مناهج التعليم في المعاهد الدينية التابعة للأزهر الشريف بإعتبار أنَّ التجلي الأخير لتيارات الإسلام السياسي العنيفة قد تبلور بصورة واضحة في مصر قبل أن ينتقل للبلدان العربية والإسلامية الأخرى.
لقد خلُصتُ من دراستي تلك إلى أنَّ هناك واقعاً أكثر خطراً تصنعهُ وتكرِّس له المناهج الدينية، ويتمثلُ في تخريج مئات الآلاف من الطلاب الذين يُعانون من حالة “غربة زمانيَّة” تجعلهُم يعيشون بأجسادهم في القرن الحادي والعشرين بينما عقولهم تمرحُ في أودية القرن الحادي عشر في أفضل الأحوال.
كان أكثر ما يُثير دهشة أستاذتي الأمريكية المشرفة على البحث هو قِدَمْ الكتب المُقررة على طلاب تلك المعاهد في المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية. فعلى سبيل المثال كان من بين كتب الفقه المقررة في المذهب الشافعي كتاب “الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع” للإمام الخطيب الشربيني المتوفي في 977 هجرية وهو شرح مطول على متن “الغاية والتقريب” لأبي شجاع الأصفهاني الشافعي المتوفي في 593 هجرية.
وكذلك كان من بين مقررات الفقه الحنبلي كتاب “الروض المربع بشرح زاد المتسنقع” للشيخ منصور البهوتي المتوفي في 1051 هجرية، وهو شرحٌ على متن “زاد المستنقع في إختصار المقنع” لمؤلفه الشيخ شرف الدين أبي النجا موسى الحنبلي المتوفي عام 960 هجرية. من الواضح أنَّ المتن الأول كتب قبل نحو ثمانية قرون ونصف القرن، بينما كتب الثاني قبل نحو خمسة قرون.
وبما أنَّ كتب الفقه هذه تشمل العديد من الموضوعات والأحكام المتعلقة بكثير من القضايا التي تحيط بواقع الفرد المسلم، و توجه تصرفاته تجاه الناس والمجتمع، و تحكم كيفية تعامله مع الأمور الدنيوية اليومية، فإنها تمثل مصدراً مهماً، بل في غاية الأهمية، في تشكيل عقل الإنسان المسلم ونظرته وتصوراته الكلية للحياة.
من هنا تنبع خطورة الدور الذي تلعبهُ هذه الكتب والمناهج التي “تعتقل” عقل الإنسان المسلم في “سجون” الماضي بمشاكله وقضاياه ومعاييره، و بالتالي فهى تنتجُ أجيالاً وجيوشاً من الشباب الذين ينشدون حلولاً لمشاكل الحاضر في تجارب “الماضي” بحيث يتحول “التاريخ” إلى مسيرة تراجع وإنحدار وليس منصَّة إنطلاق لإرتياد آفاق “المستقبل”. غربة الزمان هى أخطر الادواء التي تواجهها الأمة الإسلامية اليوم.
من أمثلة هذه الغربة، الحديث الذي تضمنَّهُ كتاب “تقريب فتح القريب” في المذهب الشافعي المقرر على الصف الثالث الاعدادي حول موضوع إستبراء الأمة حيث يقول : ( الإستبراء : هو انتظار الأمة (العبدة) مدة بسبب حدوث البلل فيها أو زواله عنها تعبداً أو براءة من الحمل. وأسبابه هى : أن يموت سيدها عنها أو يعتقها أو يريد السيد تزويج موطوءته، فيجب إستبراؤها قبل تزويجها حذراً من اختلاط الماء). الحديث أعلاهُ يُدرَّس لطلابٍ يعيشون في القرن الحادي والعشرين وفي مجتمعٍ إنتهت فيه “العبودية” وأصبح الرِّق جريمة تعاقب عليها القوانين، فما هو الغرض إذاً من غرس مثل هذا الكلام في عقول الطلاب ؟
ولا تقتصر الغربة على موضوع الرق فقط، ولكنها تشملُ كذلك أشياء مثيرة للرثاء من شاكلة المثال ادناهُ الوارد في كتاب الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع الذي يُدرَّس لطلاب الصف الأول الثانوي، حول شروط قصر الصلاة، و التي من بينها تحديد المسافة، حيث يقول أنَّ المسافة لا يجب أن تقل عن “ثمانية وأربعين ميلاً” ثم يشرح للطالب كيفية قياس المسافة فيقول :
( الميل أربعة آلاف خطوة، والخطوة ثلاثة أقدام، والقدمان ذراع، والذراع أربعة وعشرون إصبعاً معترضات، والإصبع ست شعيرات معتدلات، والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون ) ، ثم يُحيل التلميذ لهامش الصفحة لتعريف البرذون حيث يقول بإطمئنان شديد أنَّ : البرذون هو نوعٌ من الخيول غير العربية !
تري كيف سيتحصل التلميذ على شعيراتٍ من الخيول حتى يقيس عليها المسافة ؟ ويا ليت الشعيرات موجودة في كل الخيول، لا .. إنها للبرذون الذي هو خيل غير عربية، فتأمل ! ولماذا يضطر التلميذ في هذا الزمان للقياس بالإصبع والشعر ؟ أين مقاييس المسافات العصرية التي يستطيع أن يستوعبها التلميذ ويسهل عليه إدراكها ؟
ومن بين الفرضيات الخرافية المدهشة التي يوردها الكتاب في موضوعات “الجنابة” و “الحيض” التالي :
( من أولج أحد ذكريه أجنب إن كان يبول به وحده )، وكذلك ( لو خلق للمرأة فرجان فيكون الخارج من كل منهما حيضاَ ). ولا تعليق لدىَّ على هذا الكلام. أمَّا في فصل الرضاع فيقول الكتاب : ( إذا إرتضع صغيران من شاه لم يثبت بينهما أخوة فتحل مناكحتهما وكذلك الجنيِّة إن تصور إرضاعها بناء على عدم صحة مناكحتهم وهو الراجح ). فلو إقتنعنا بأنَّ “الشاة” يمكن أن ترضع أطفال البشر ( وهو مستحيل ) فكيف يُمكننا الإقتناع بإمكان إرضاع “أنثى الجان” للانسان ؟!
وفي الجزء الثاني من نفس الكتاب، وهو الجزء المقرر على طلاب الصف الثاني الثانوي، يعود الحديث عن موضوع الرق والعبودية، فيقول أنَّ من بين الأشياء التي يصح رهنها ولا يصح بيعها ( الأمة “العبدة” التي لها ولد غير مميز ولا يجوز إفراز أحدهما بالبيع ويجوز بالرهن. وعند الحاجة يباعان ويقوم المرهون عنهما موصوفاً بكونه حاضناً أو محضوناً ).
هل يُعقل أن تدرِّس مناهجنا التعليمية التلاميذ في القرن الحادي والعشرين أنَّ بإمكانهم “رهن” إنسان أو “بيعه” وكأنه عقار أو سيارة أو أية سلعة أخرى ؟ ومن بين ما يتحفنا به ذات الكتاب في الحديث عن بيع الكتب يقول : ( لا يصح بيع كتب الكفر والتنجيم والشعوذة والفلسفة ).
المنهج يضع كتب “الفلسفة” في مرتبة واحدة مع كتب “الشعوذة” فهل هناك حربٌ على “العقل” أكثر من ذلك ؟ و ماذا نتوقع أن تكون مخرجات هذا المنهج الذي يحتقر الفلسفة التي شكلت أساس الفنون والآداب والعلوم – بما فيها التجريبية – التي أحدثت الثورة المعرفية الهائلة في عصرنا هذا والعصور التي سبقته ؟
أمَّا كتاب “الروض المربَّع بشرح زاد المستنقع” فإنه يُتحفنا بروائعه المدهشة ومن بينها السؤال التالي : (أمرنا بأن نسجد على سبعة أعظم هى الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين، ماذا يفعل من خلق برأسين وأربع أيدى وأربع أرجل ؟ ).
وهو كذلك يقول عن حمل المرأة لجنينها أنّ ( أقصي مدة للحمل هي أربع سنوات) ، وهذا حديث مناف للعلم ومجاف للعقل ، وهو حديث خرافة لا يجوز تدريسه للطلاب في عصر العلم. فمع تطور علوم الطب، ومتابعة الحوامل بصورة دورية أصبح بالإمكان التأكد من مدَّة الحمل بدقة، وقد رصد الأطباء المختصون بأمراض النساء والولادة في العصر الحديث ملايين الحالات، ولم تسجل لديهم حالات حمل طبيعية تدوم لسنة واحدة، ناهيك عن عدة سنين.
عندما أعددتُ دراستي تلك كان عدد المعاهد الأزهرية يبلغ 8.772 معهداً تحتوي على 46.633 فصلاً تضم 1.772.800 طالباً، وبالطبع فإنَّ هذا العدد ينحصر فقط في هذه المؤسسة التعليمية في مصر، فكم هو عدد المؤسسات والمعاهد في العالم الإسلامي التي تدرِّس مثل هذه المناهج ؟ وكم هو عدد الشباب في العالمين العربي والإسلامي الذين ينهلون العلم من مثل هذه الكتب عبر التعليم غير النظامي “إنفورمال” ؟
إنَّ الصورة التي يعيشها عالمنا الإسلامي قاتمة للدرجة البعيدة، فهذه الأجيال التي تقع ضحيَّة المناهج التي تكرس للغربة الزمانية هى الأجيال التي يُعوَّل عليها في النهوض بالأمة من أجل اللحاق بعصر المعرفة.
إنَّ المجتمعات التي تبنى على امتلاك ناصية المعرفة وعلى المساهمة في خلقها وتعميقها وتطوير فروعها المختلفة، هى وحدها المؤهلة للسير في ركب التقدم و الحضارة، إذ أنَّ تأثير المعرفة على الحياة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وعلى أنماط حياة الناس أضحى ضخماً للغاية بفضل ثورة العلوم والتقنية.
إنَّ ثورة العلوم والتقنية التي غيَّرت وجه العالم إستندت في الأساس على “مناهج التعليم” خاصة في المجالات الالكترونية والنووية والفيزيائية والبيولوجية والفضائية ، وتشير المعطيات إلى أنّ البشرية قد راكمت خلال العقدين الأخيرين من المعارف مقدار ما راكمته طوال آلاف السنين.
لقد سعت بلدان كثيرة في العالم الثالث للدخول في ركب المعرفة عبر تطوير مناهج التعليم بما يتناسب مع متطلبات العصر الرقمي من مرحلة التعليم الأساسي ووصولاً للتعليم الجامعي، وهاهى الهند باتت تصدِّر اليوم نحو مائتا ألف (200.000) خبير صناعة برمجيات في العام إلى أمريكا فضلاً عن دول أوروبا.
وهاهى كوريا الجنوبية تُحقِّق مُعجزتها الإقتصادية والتكنولوجية خلال أقل من “أربعة عقود” بفضل مناهج التعليم المتطورة والفعالة التي تركز على إكتساب المعرفة والمهارات التقنية.
كيف يُمكننا دخول عصر المعرفة ونحن ما زلنا قابعين في كهوف الماضي ، و مناهجنا التعليمية تغذي عقول تلاميذنا بمثل هذه المعلومات المُخجلة و البائدة، بينما العالم أضحى يعيش اليوم في مرحلة “المعلومات الذكيَّة” أو ما يُعرف بال “بزنس إنتيليجانس”، و يتطلع لمرحلة “المعلومات الهائلة” أو ال “بغ داتا” ؟
إنَّ مناهج التعليم عموماً – والتعليم الديني بشقيه الرسمي وغير الرسمي على وجه الخصوص – تشكل عقبة أساسية وكبرى أمام نهوض الدول العربية والإسلامية ومحاولات اللحاق بعصر المعرفة، وإذا إستمر الحال هكذا فإنَّ الغربة الزمانيَّة ستتعمَّق بصورة أكبر مع طلوع شمس كل يوم جديد، وستظل هذه الدول قابعة في مؤخرة ركب الأمم، تُعاني من الفقر والأمية والحروب والتبعية الإقتصادية و غيرها من الأدواء.