يبقى السودان مهماً
بقلم علي الزعتري
منسق الأمم المتحدة المقيم للشؤون الإنسانية والتنموية
والممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في السودان
هل لم يعد السودان حاضراً بشكل واضح في وسائل الإعلام كما كان الحال عليه فى السنوات الماضية خاصة قبل إنفصال جنوب السودان في عام 2011؟ ألا يبدو أن الصراع الدامي في ولايات دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان لم يعد يستجلب الإهتمام حتى مع تزايد أعداد الضحايا السودانيين والمشردين (400 ألف نازح فى دارفور فى النصف الأول من عام 2014 فقط)؟ بل ألا يبدو أن أزمات المنطقة من سوريا وغزة والعراق إلى ليبيا وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان قد غلبت جميعها أزمة السودان، على الأَقلَّ إعلامياً؟ كل هذا فى حين تسيطر حركات التطرف وفظائعها على جل إهتمام مراكز التحليل السياسي والمجتمعي التى تحاول فهم الوضع الإنساني والسياسي والإقتصادي فى تلك البلدان ولكنها تعطى القليل من إهتمامها لما يحدث في السودان. ولعل السبب يعود أيضاً إلى أن أزمة السودان باتت مزمنة وطويلة الأمد مما يخلق جواً من قلة الترقب لمفاجآت تستدعي عاجل الإهتمام وكأّن موت مِئة أو تشريد الآلاف لا يكفي للفزع.
كما أَنه من المقلق لمن يعرف السودان أن يكون هناك تغاضٍ ولو لوهلة عن مكانته وأهميته حتى لو إعلامياً في ظل هذه الإضطرابات السياسية والحروب الطاحنة في الوطن العربي وإفريقيا، في حين أن ملتقى النيلين، وهو المركز الذي يمتزج فيها العربي والإفريقي ليشكل السودان عبره جسراً وبوابةً تربط كلا العالمين فيؤثر ويتأثر سلباً أو إيجاباً بما يحدث فيهما، يستحق العميق من الإهتمام والتحليل والعون. هذا الدور الطبيعي هو ضعيف آنياً لظروف مختلفة، فالسودان الغني بثرواته الطبيعية والبشرية بات محاطاً في جواره القريب وفي إطاره العربي الأوسع والمحتدم بعددٍ الإضطراباتِ السياسية والحروب الأهلية التي ترمي بسلبياتها عليه، وهو يعاني بذات الوقت من إختلالاته الإقتصادية المزمنة ونزاعاته السياسية العنيدة وتعدد حركاته المسّلحة التي تخوض حروباً مع السلطة منذ أكثر من عقد من الزمان مما يعرقل دوره الطبيعي لتنمية نفسه بتكاملٍ أو بمنحه فترة هدوء معقولة ليكون جسر الوئام الطبيعي بين العرب والأفارقة بل على العكس أمسته هذه العوامل قسراً و رغماً عاملاً من عوامل التأجيج المستشرية في المنطقة يتأثر كما يؤثر بها.
بل أنني بِتُ ألمس نبرة اليأس أنه قد خَلُصَ وبشكل غير عادلٍ في رأيي إلى أن السودان يتحول عملياً وتدريجياً إلى دولة مهمّشةً ويسوق البعض هذا الإستنتاج كنتيجة للصراعات الدموية والإقتتال المستمر بين الحكومة والمعارضة أو بين القبائل، علاوةً على الوضع الإقتصادي الصعب الذي يعانيه السودان في ظل تبدّل السياسات المالية والإقتصادية المُخْتَلَفِ دوماً على نجاعتها، والعقوبات الأحادية المفروضة عليه. كما أن النظرة العامة لسياسات السودان على أنها سياسات مجافية للحقوق الأساسية تسهم في تعضيد الإستنتاج المتسرع بالسودان المهمش. أما السودان الذي يُفَاخر بتاريخه الإفريقي والعربي فإنه ينظر لهذه الإتهامات وينفيها بضراوة الجريح مشيراً بأصابع الغضب إلى الغرب ومتهماً إياه بالنكوص دوماً عن الوعود برفع العقوبات عنه والتخفيف من ديونه التي باتت تقارب الخمسين بليون دولار وهي وعودٌ يقول السودان أنه وُعدَ بها مراراً حالما تنال دولة جنوب السودان الإستقلال وحال توقيعه إتفاقيات سلام مع الجماعات المتمردة. ويؤكد السودان أنه ألتزم بالشرطين غير أن الغرب لم يفِ بوعوده فحسب بل وشّدد من عقوباته المجحفة وإستخفافه بالسودان عبر تعريض قياداته لإتهامات جنائية وبنفس الوقت دعم معارضيه مما لوى يد السودان تنموياً في الداخل وأزَّم علاقاته الخارجية. ولم يساعد السودان مؤخراً توجيه الإنتقادات على خلفية قضية الردة ضد نظامه القضائي الذي ما دأب يقول أنه يمارس حقه الطبيعي للسير بخطوات القضاء المعروفة، ما زاد التشويه للصورة الموجودة في الأذهان عن السودان هذا على الرغم من حلّ القضية في النهاية. وتُبذلُ الجهود داخلياً وبمؤازرة إقليمية ودولية لحل مشكلاته المزمنة وذلك من خلال الحوار الوطني لإيجاد أرضية مشتركة بين الحكومة والمعارضة غير أن الحرب المستعرة ضد الحركات المسلحة وإعتقال السياسيين، وإغلاق منظمات المجتمع المدني، والتضييق على وسائل الإعلام، وهي الخطوات التي يتم التأكيد على صحتها حكومياً على أساس القانون المعمول به في البلاد وتهاجمها المعارضة المدنية والمسلحة والعديد من الجهات الناشطة مجتمعياً و سياسياً على أساس إنتهاكها للعوامل الأساسية المطلوبة لإنجاح الحوار تضع العصي في دواليب الحوار الوطني ومسيرة بناء الثقة داخلياً وخارجياً. معلومٌ أن الحوار الوطني يتطلب بالضرورة سيادة حريات التعبير والإجتماع والمعارضة العلنية ومسؤولية متبادلة للحفاظ على الأمن والسلم الداخليين وبغير ذلك تضعف الجهود لإنفاذ حوار وطني لابد من أن ينجح لمصلحة السودان. ولا يزال النقاش دائراً على أشده لبدء الجلسات المعمقة الحوار الوطني مع دوام تشبث كل طرف بموقفه والدخول في تفاصيل التفاصيل من دون الإستعداد الظاهر لتقديم التنازلات المعينة للتوصل لصيغة مقبولة للحكم الراشد الشامل الذي يتوجب أن يؤدي لرفع السودان من حالة الإعتياز إلى حالة الإنماء المتمكن من الإستدامة. فلا يعقل أن يرزح أكثر من 45% من السودانيين في حالة الفقر شبه المستديم وتفتقر نسبة موازية من السكان لخدمات الماء والصرف الصحي وتتفشي أمراض سوء التغذية أو أن يهاجر أبناؤه بعلومهم وخبراتهم بحثاً عن لقمة العيش فيزيدوا في إفقار بلدهم من الخبرات أو أن تُفرِزَ المؤسسات التعليمية التي شابها الكثير من الضعف آلاف الخريجين الباحثين عن العمل لتصل نسبة البطالة بينهم إلى مابين 20 أو 30%. إن الحوار الوطني يجب أن يضع نصب العين إنهاض السودان وبسرعة ووضعه على درب التنمية العاجلة النتائج المُحْترمة للحقوق الإنسانية كلها ولا تقلل هذه السلبيات التى تؤثر فى السودان من الجهود التي بُذلت في مناحي التنمية السودانية المختلفة فى السنين السابقة وإن تركزت في بعض المدن السودانية لكن هذا التقدم لا ينفى ولا يمكن له أن ينفى الحاجة الماسة والكلية لتنميةٍ تشمل الريف و البادية والحضر على قدم المساواة.
كما إنه من الضروري عدم تهوين أوتهميش دور السودان الذي يمر بحلقات متتالية من الضعف الإقتصادي والإجتماعي و الإعتراك السياسي والإقتتال الداخلي، بل ينبغي الحرص مع أهله على فتح أبواب الحوار بين الأطراف المتنازعة في داخله، وبين السودان والمجتمع الدولي، والإصرار على إبقاء قنوات الإتصال هذه مفتوحة حتى في أصعب الأوقات لأن أقدار الكثيرين في السودان تتوقف على الوصول إلى حلول كريمة لهذه الحلقات الصعبة على المستوى الوطني والإقليمي والدولي. ولعل من الأسباب التي تجعل التعاون مع السودان أمراً مهماً، بل وجودياً، ما يمكن تلخيصه في أربعةٍ أراها أساسية في الوقت الحالي:
الواجب الإنساني :هناك إلتزام أخلاقيٌ ومعنويٌ لا مفر منه تجاه 6.9 مليون نسمة في السودان (20% من مجموع سكان السودان) هم بحاجة إلى مساعدات إنسانية معظمها منقذة للحياة في عام 2014 لوحده حسب تقدير الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية والحكومة السودانية، حيث إرتفع عدد المحتاجين للمساعدات الإنسانية منذ يناير 2014 ب 800,000 نسمة متجاوزاً التقديرات الأولية عند وضع خطة الإستجابة الإنسانية للسودان والتي قدرت أعداد المتأثرين في بدايات عام 2014 بنحو 6.1 مليون نسمة. ويعود ذلك قطعاً إلى النزاعات المسلحة في دارفور إلى جانب الصراع الدائر في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأبيض والذي يمنع منظمات الأمم المتحدة من الدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة لتقييم الأوضاع الإنسانية فيها، وكذلك إلى هروب اللاجئين من دولة جنوب السودان إلى السودان بسبب الحرب الأهلية القائمة هناك. أما مستويات سوء التغذية الحادة لدى الأطفال دون سن الخامسة فقد تجاوزت بكثير الدرجة المقبولة عالمياً لتدخل المرحلة الحرجة ليرتفع معدل سوء التغذية من 15٪ إلى 28.2٪، وليصل في بعض المناطق إلى 42٪. من أجل هذا، فإن على المجتمع الدولي، الذي يقدم هباتٍ وتبرعات هائلة الحجم منذ عقود، واجبٌ وإلتزامٌ أخلاقيٌ للمساعدة المستمرة و الكافية لإحتياجات السودان الإنسانية وعلى السودان أن يوفر بالتوازي البيئة اللازمة سياسياً وإدارياً لتلقي هذه المساعدة ومن ثم العمل مع المجتمع الدولي للخروج السريع من أزماته الإنسانية عبر التحول التدريجي الواثق من خلال تجفيف الحروب الداخلية نحو التنمية المسؤولة.
الحد من إنتشار التطرف : لا يمكن التخلي عن السودان وهو الجسر الذي يربط العالم العربي وإفريقيا ومن ورائهما القارة الأوروبية وتركه عرضةً لأزمات إقتصادية تليها هزات وخلخلةإجتماعية تخلق من ثم أرضاً خصبة للأفكار والممارسات المرفوضة. فلا ينبغي الدفع بالسودان إلى الزاوية البائسة، بل يجب وضع كافة أشكال التعاون الدبلوماسي والحوافز السياسية والإقتصادية موضع التنفيذ مع السودان لتحقيق إنفراجات ملموسة لتجنب أي حالة من الفوضى أو الضعف في البلاد والتي إن حصلت ستصب في مصلحة الذين يفضلون الفراغ ليملؤوه بمنكراتهم مثل تهريب البشر وإستغلالهم عضوياً أو جنسياً، وتجارة الأسلحة خاصةً الصغيرة منها، وتهريب المخدرات على أنواعها، والتطرف الفكري من كافة الأطياف الأثنية والعقائدية. إنه لمن الممكن تجنب كل ذلك من خلال الحوار المفتوح بين السودان والمجتمع الدولي، فكلا الطرفان يتحملان مسؤولية إبقاء هذا الحوار مستمراً من أجل السلم الداخلي والإقليمي مع ضرورة وجود رغبة مسبقة لدى الجانبين للتوصل إلى إتفاق يعين السودان من خلال تنازلات متوازية في المواقف والقرارت بين الطرفين تتيح المجال للإتفاق. لابد كذلك من مكان للطبقة الوسطى يعيد أَلَقها ودورها وعميق أفكارها في كل المجالات التنموية لكي تبقى منارة معرفة وتطور في بلدها عوض عن أن تهجره، ولن يتأتى هذا إلا بإنهاض الأفكار والممارسات السمحة والمستنيرة التى تتحلى بها جموع أهل السودان الكرام النفس والأبييَّ الهمّة.
تعزيز الإستقرار: إن السودان هو أرض الفرص للمستثمرين الجادين في كل مناحي الإستثمار التى لا يمكن إحصاءها ولكن أموالهم تحتاج لقوانين جاذبة منافسة تمكنهم من الربحية دونما إجحاف وتكون قابلة للتعديل بما يتواءم مع الحاجة، وفي نفس الوقت يجب على المستثمرين أن يحترموا مسؤولياتهم المجتمعية لمساعدة السكان المحيطين جغرافياً بمشاريعهم الإستثمارية وعموم السودان إن أمكن على التعلم والتدريب وحماية البيئة المعرضة للخطر. فإن كان التنقيب عن المعادن هو فرصة ثمينة للمستثمرين في السودان، فإن هنالك حاجة ماسة لمراعاة القوانين المحلية والدولية واتخاذ التدابير الوقائية التي يتعين تطبيقها. فعلى سبيل المثال يقوم العديد من المنقبين في السودان خاصةً في عمليات البحث عن الذهب بتبني تقنيات خطرة عن طريق إستخدام مواد كيميائية سامة كالرصاص والزئبق، أو إستخدام الأطفال مما يؤدي لوفاتهم خنقاً أو تسمماً والذي يشكل بأي حال من الأحوال خرقاً لعديد القوانين الإنسانية. إن السودان يحتاج المستثمرين الذين يحملون حقوق الإنسان وحقوق العمال والسلامة والصحة المهنية على محمل الجد، والسودان يحتاج أن يؤهل البيئة الصحية الحاضنة للمستثمرين بنفس الوقت. وفي هذا الإستثمار المسؤول رافد هائل لإقتصاد السودان في ظل توفر الثروات الطبيعية في أراضيه على أن يرى المواطن السوداني الآثار الإيجابية لهذه الإستثمارات تنعكس تقدماً وتطوراً على أوجه حياته.
سلة الخبز : بغض النظر عن أن أراضي السودان هي في الغالب صحراوية، تبقى الزراعة هي العمود الفقري للإقتصاد وتبقى كذلك الثروة الحيوانية المتمثلة في أكثر من مائة مليون رأس من المواشي والجمال والخراف مصدرا رئيسياً للثروة. هناك ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية والرعوية التي ترويها الأنهار والأمطار والتي ينبغي أن توظف لتوفير الغذاء للملايين من الناس في السودان والعالم، يتطلب هذا بذل جهد هائل من جانب الحكومة لإعادة تأهيل هذه الأراضي وإعدادها، كما يتطلب أيضا من المجتمع الدولي أن يستثمر في هذا القطاع لأنه من غير الممكن أن يستمر السودان في الإعتماد على المعونات والهبات الغذائية في حين أنه يستطيع وبسهولة إنتاج غذائه وتصدير الفائض. إن الأمن الغذائي في السودان ليس مجرد عملية تقنية ولكنه عملية سياسية ومجتمعية تتضمن المصالحة الجدية بين الأطراف المتحاربة خاصةً القبلية الزراعية والرعوية منها، وعلى السودان والمجتمع الدولي استخدام ذلك كوسيلة لتحقيق السلام في الوقت الذي يتم فيه تلبية إحتياجات الأعداد المتزايدة من السكان للغذاء محلياً وخارجياً.
هذه أربعة من بين العديد من الأسباب التي يمكن سوقها والتي تجعل من اللازم وضع السودان مجدداً وبلا تردد على خارطة الإهتمام الدولية والتي يمكن من خلالها إستئصال دورة العنف والإستعاضة عنها بدورة للإنتاج والتعايش السلمي. إن من المستحيل تحقيق أية نتائج إيجابية إن لم يجتهد أهل وأصدقاء السودان بالتفكير في حاضر ومستقبل الأجيال السودانية القادمة، فلابد للمجتمع الدولي من أن يُقْبِلَ على العمل مع السودان من أجل سلامته وسلامة المنطقة وأن يُقْبِل السودان كذلك على العمل بمرونة وثقة مع المجتمع الدولي، وإلا فإننا سنشهد، لا قدر الله، مآسي لا قبل لنا بها. فالسودان اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى لعمل مخلص ومنسق من جانب المجتمع الدولي ومن جانب أبناءه أولاً وآخراً لكي نتوقف عن التكلم عن ملايين المحتاجين للعون الإنساني ونحيلهم لقوة بشرية هادرة متفائلة آمنة مطمئنة لمستقبلها ومستقبل أبناءها.