الافتتاح الرسمي لمدرسة حنتوب: الثلاثاء 4 مارس 1947
دكتور فيصل عبدالرحمن على طه
[email protected]
لجنة ديلاوير
في فبراير 1937 استُقدمت إلى السودان لجنة برئاسة لورد ديلاوير للوقوف على أوضاع التعليم في كل مراحله واعداد توصيات بشأن تطويره. زارت اللجنة بعض المدارس الأولية والوسطى وكلية غردون ومدرسة الطب ومعهد التربية ببخت الرضا. وقد أُعجبت اللجنة ببخت الرضا. وأوصت بانشاء «بخت الرضا» في كل مديرية. كما أوصت بنقل المدرسة الثانوية من كلية غردون إلى موقع ريفي بعيداً عن مؤثرات الخرطوم الاجتماعية والسياسية. وأوصى ديلاوير بأن تُستغل مباني كلية غردون التذكارية لتطوير التعليم العالي.
شُرع في بناء المدرسة الثانوية الجديدة في ضاحية وادي سيدنا التي تقع شمالي ام درمان (القديمة) وتبعد عنها بحوالي 14 كيلومتراً. ولكن ثانوي كلية غردون لم ينتقل في بداية الأمر إلى ذلك الموقع لأن ظروف الحرب العالمية الثانية اقتضت استخدام مباني كلية غردون ومباني المدرسة الجديدة في وادي سيدنا لايواء قوات عسكرية. لذلك انتقل الثانوي إلى مدرسة أم درمان الأميرية الوسطى وتم إيواء الطلاب في منازل مستأجرة في العرضة ومواقع أخرى قريبة من المدرسة. وفي ذلك الأثناء شُرع في بناء ثانوية أخرى في حنتوب على الضفة الشرقية للنيل الأزرق قبالة مدينة وادي مدني. وقد تم ذلك إعمالاً لخطة مصلحة المعارف للفترة 1938 – 1946.
الدفعة الأخيرة في أم درمان
كانت آخر دفعة تكمل الثانوي بأم درمان في ديسمبر 1945 الدفعة التي كان أولها بجدارة عبدالخالق محجوب. وكان من بين أفرادها كذلك: محمد عمر بشير، واحمد عمر خلف الله، وعبدالله علي جاد الله، وصلاح عبدالرحمن علي طه، ويحيى عبدالمجيد، وعبدالله عبدالوهاب، وعبدالرحيم ميرغني، والباقر عبدالمتعال، وموسى ساسون ليفي، وتوفيق احمد سليمان، وكمال عثمان بلال، وكمال البكري، وفاروق الطيب ميرغني، وصلاح أمبابي، ومرتضى احمد ابراهيم، وامام دوليب، وابو بكر عثمان محمد خير، وكرار أحمد كرار، ومحمد خير البدوي .. .وغيرهم كثير.
غروب شمس ثانوي الكلية
في عام 1946 انشطر ثانوي كلية غردون العريق إلى قسمين قسم اتجه صوب وادي سيدنا واتجه القسم الآخر إلى حنتوب. كانت وادي سيدنا أول المغادرين حيث تم افتتاحها في 29 يناير 1946 مع أن بعض مبانيها كانت لا تزال محتلة من قبل القوات الجوية لجنوب افريقيا.
اختير لانج ناظراً لوادي سيدنا وعين له مساعدان وقد كانا مستر هانكس وعبيد عبدالنور وانتقل إليها من أم درمان كمدرسين صالح عبدالعظيم خليفة، وعبدالله بشير سنادة، وحسن احمد، واحمد المرضي جبارة، وبشرى عبدالرحمن صغير ومجموعة من المدرسين البريطانيين كان بضمنهم برايت الذي اصبح من بعد رئيساً لشعبة اللغة الانجليزية ببخت الرضا، أما عدد التلاميذ بوادي سيدنا آنذاك فقد كان 322 تلميذاً.
في امتحان شهادة كمبردج للعام 1946 كان عدد الجالسين للامتحان من وادي سيدنا 74 ممتحناً حصل منهم 59 على الشهادة. ونجح 17 من هؤلاء بمستوى قبول لندن Matriculation London.
انتقلت حنتوب إلى مقرها الجديد شرقي واد مدني في سبتمبر 1946 وقبل أن تكتمل معظم مبانيها. وبذلك أُسدل على الستار نهائياً على ثانوي كلية غردون. ودع أحمد محمد صالح إنقضاء عهد ذلك الثانوي بقصيدة ورد فيها:
مال ميزانها وحان الغروب
وانقضى عهدها فليست تؤوب
شمس علم قد عبرت نصف قرن
وهي كالسيف عزمها مشبوب
برزت من قرابها (وادي سيدنا)
وانبرت من عرينها (حنتوب)
وكما أوصى لورد دي لاوير فقد أقيمت في عام 1945 في مباني الكلية بالخرطوم، الكلية الجامعية المكونة من عدة مدارس هي الآداب، والعلوم، والبيطرة، والزراعة، والهندسة، والحقوق، والادارة. تؤهل الكلية الجامعية الطلاب للحصول على الديبلوما بعد دراسة لثلاث سنوات. ويجوز أن يدرج الطالب في نظام درجات Degrees جامعة لندن إذا حصل على مستوى قبول لندن Matriculation London.
حنتوب في دارها
كما سبقت الاشارة، غادرت حنتوب أم درمان في سبتمبر 1946 واتخذت الهدهد شعاراً لها. أُطلق على القارب (اللنش) الذي كان يربطها بمدينة واد مدني اسم (هدهد) وأُسلم قياده للربان الماهر (عبدو).
وكان سكان حنتوب من التلاميذ مزيجاً قومياً او تدامجاً وطنياً فريداً. فقد كان يؤمها التلاميذ من دارفور وكردفان وكسلا وبورتسودان ومن مديرية النيل الازرق القديمة ونعني بذلك الجزيرة وكوستي والدويم وسنجة والروصيرص. كما أُلحق بها تلاميذ من اليمن الجنوبي والصومال البريطاني. ونحن نذكر اليمن يجدر بنا أن ننوه إلى أن المعارف انتدبت حسن فريجون ونخبة من المدرسين السودانيين لانشاء أول مدرسة ثانوية في عدن. وكان قد سبقه إلى المكلا بحضرموت الشيخ القدال سعيد القدال منتدباً من بخت الرضا لانشاء تعليم أولي هناك.
كان لويس براون أول ناظر لحنتوب وكان قبلها يشغل منصب ناظر المدرسة الثانوية الصغرى (الزراعية) ببخت الرضا. وعُين له مساعدان وقد كانا كرايتون واحمد محمد صالح. وضمت هيئة التدريس القادمة من أم درمان نصر الحاج علي، وعبدالحليم علي طه، وأمين زيدان، والسني عباس، وعبدالله عبدالرحمن الأمين، وقدم إليها من المصريين محمد راتب الصديق ومحمد محيي الدين ابو النجا، ومنير ونيس. ومن البريطانيين هولت (التاريخ) وماكبين (الجغرافيا)، واستايلز، وجونز، وبرت، ودوقلاس.
جلس لامتحان شهادة كمبردج في حنتوب في نهاية عام 1946، 47 تلميذاً نجح منهم 32 تلميذاً. وقد اعتبرت مصلحة المعارف هذه النتيجة مرضية للغاية بسبب الاضطراب وحالة عدم الاستقرار التي سببتها أعمال البناء الضخمة التي كانت تجري في حنتوب وحركة العمال ومراقبي الأعمال وغيرهم.
الداخليات
في عهد كلية غردون التذكارية كان تُطلق على الداخليات أسماء بريطانية مثل كرومر (قنصل بريطانيا العام في مصر)، كري (أول مدير تعليم)، كوكس (مدير المعارف سابقاً)، كتشز (حاكم عام سابق)، مفي (حاكم عام سابق)، إستاك (حاكم عام سابق)، آرشر (حاكم عام سابق).
عند انتقال حنتوب إلى مقرها في سبتمبر 1946 كانت هناك اربع داخليات هي: المك نمر، والزبير، وعثمان دقنه، وأبوعنجه. وفي مستهل عام 1947 وقبل الافتتاح الرسمي في 4/3/1947 أضيفت داخليتا النجومي و ود ضيف الله (صاحب الطبقات). وفي تواريخ لاحقة شُيدت داخليتا علي دينار وابو الكيلك. وقبل أن يغادر جيلنا حنتوب في حوالي مارس 1959، اقيمت داخلية ود عدلان في الفضاء الواقع بين داخليتي ضيف الله والمك نمر، وقد أدينا فيها امتحان الشهادة لأنها لم تكن قد سُكنت بعد. وقد ورد في تقرير صحفي نشر في 14/3/1947 أن التلاميذ أعربوا «عن فرحتهم عند إبدال الأسماء الانجليزية باسماء أبطال التاريخ السوداني مما يدل على مقدار اعتزازهم بقوميتهم السودانية ومبلغ اعتدادهم بها».
مراسم الافتتاح
حضر حفل الافتتاح مستر بريدن مدير مديرية النيل الازرق وبعض موظفيه، ومستر ويليمز مدير مصلحة المعارف، ونائب عميد كلية غردون، وناظر مدرسة وادي سيدنا، ونائب عميد معهد التربية ببخت الرضا عبدالرحمن علي طه ونفر من مدرسي المعهد، وقاضي القضاة بالإنابة، ورجال التعليم الحكومي والأهلي بالعاصمة والجزيرة، وبعض العاملين بشركة السودان الزراعية التي كانت تدير مشروع الجزيرة. كما حضر الحفل الشريف عبدالرحمن يوسف الهندي وعدد كبير من أعيان واد مدني والجزيرة.
بدأت مراسم الافتتاح بوصول الحاكم العام هيوبرت هدلستون وعقيلته في الساعة العاشرة والنصف صباحاً حيث تفقد أولاً طابور الشرف المكون من طلاب التدريب العسكري بالمدرسة ثم قص الشريط الحريري بمدية سودانية قيل أنها أثرية. دخل بعد ذلك إلى فناء المدرسة وقرع الجرس ثلاث مرات معلناً بذلك افتتاح المدرسة. بعد الكلمة التي وجهها الحاكم العام تقدم الطالب عثمان ابراهيم رئيس داخلية النجومي ورئيس الرؤساء (الطبيب من بعد) فشكر الحاكم العام نيابة عن الطلبة وأهدى له المدية السودانية كتذكار.
تناول الحاكم العام والضيوف وجبة الغداء في قاعة طعام الطلاب. وقد تكفل بنفقات الغذاء والمرطبات التي قُدمت في ذلك اليوم الشيخ أبو زيد أحمد التاجر بواد مدني وأحد أعيانها، كما تبرع للمدرسة بـ 120 جنيهاً. ويعتقد على نطاق واسع أن بعض الأراضي التي أُقيمت عليها المدرسة كانت من أملاكه. ربما كان افتتاح حنتوب آخر مهمة كبرى قام بها ذلك الحاكم العام. فقد انتهت فترة عمله في السودان في ابريل 1947 وحل مكانه في مايو 1947 حاكم عام جديد هو سير روبرت هاو. وكانت تلك أول مرة يتولى هذا المنصب ديبلوماسي قادم من الخارجية البريطانية.
بعد الظهر حضر الضيوف الألعاب الرياضية والسباقات بين الداخليات. كان بضمنها سباق إختراق الضاحية. جاء في المركز الأول لهذا السباق الطالب عبدالرحمن أحمد الصومالي الذي عاد إلى السودان في تاريخ لاحق كسفير لبلاده. وحصل طالب صومالي آخر هو أحمد حاج دوعال على المركز الثاني ثم انتقل الجميع إلى فناء المدرسة حيث أقيم حفل شاي ألقى فيه احمد محمد صالح قصيدة حيا فيها المناسبة نقتطف منها قوله:
برزت للورى منارة علم
رمزها هدهد ورأي سديد
فأتاها الحجيج من كل صوب
ذاك مسترشد وذا مستفيد
تيمتني ولم ترق لحالي
فأنا اليوم مستهام عميد
والقى مدير المعارف ويليمز كلمة باللغة العربية الفصحى أوضح فيها اهتمامه بالتعليم الثانوي، وذكَّر التلاميد بأن التعليم الثانوي امتياز لا يحصل عليه إلا القلائل وأنه يجب على الذي يحصل على هذا الامتياز أن يوطن نفسه ليكون عضواً نافعاً في المجموعة. وفي تعليقه على كلمة المدير، قال أحد الصحفيين: «إنه لو لم يكن يشوبها لكنة بسيطة لما كانت تقل عن خطبة أي عربي في العصر العباسي».
للفائدة نذكر أنه بالاضافة إلى وادي سيدنا وحنتوب كانت هناك مدرسة ثانوية صغرى تجارية في أم درمان أُنشئت في سنة 1942. كما كانت هناك مدرسة ثانوية صغرى زراعية في بخت الرضا. وفي سنة 1948 أُنشئت مدرسة رمبيك الثانوية. وفي 28 يناير 1950 افتتح عبدالرحمن علي طه بوصفه وزيراً للمعارف مدرسة خور طقت الثانوية. وأعلن في خطاب ألقاه بتلك المناسبة أنه ستفتح مدرسة ثانوية خامسة في عام 1954 في المديرية الشمالية، وسادسة في أم درمان في عام 1956.
وداع احمد محمد صالح
لم يبق احمد محمد صالح طويلاً في حنتوب إذ نقل منها في نهاية عام 1947 لرئاسة مصلحة المعارف مساعداً للمدير وحل محله في حنتوب النصري حمزة. وفي حفل وداعه ألقى عبدالحليم علي طه قصيدة طويلة بالشعرالقومي قال في مطلعها:
الهـــدهـــد حــزين مرت عليهو ليالــي
اتبـــدل نغيمـــــو خلاّ لحنــو الحـــالي
مسجون في الجنوب إنهدّ ركنو العالي
تلعبو الجـــنوب لكـن هواهو شـــــمالي
ســــامر للنجـــم كتر السهر متـــــوالي
والفـــاقد الدليل من الســــهر مــا ببــالي
ومن الكثير الذي قاله في مدح احمد محمد صالح نقتطف:
لا دهــــراً معين لا ثروة في دنيــاهو
عايش بالكفاف والبلقى صارفو نداهو
كل ما نال مراد زاد في البُعد مرماهو
زاهد في الظهور والحكمة زايد جاهو
وودع احمد محمد صالح حنتوب بقصيدة نقتطف منها بغير ترتيب الأبيات التالية:
رب عيش لنا بحنتـــوب غــض كـــان أنقى من الزلال شـرابا
وليال هي الربيـــع ابتســـــاما عبــقت بالشذى وفاحت ملابا
كيــف أنســـى صحابة آزروني وكســـــوني مــن الفخار ثيابا
من كهـــول أعفــــة وشـــيوخ ضربــوا المجــد بالعراء قبابا
وشـــباب على الفضيلة شــبوا يعشـــــقون الاخلاق والآدابا
أســـروني فـمـا أطيـق فـكاكـاً لا ولا عنهم إرتضيت الذهابا
يا رفاقي دنا الرحيل وأضحى أمــر هذا الفراق حتماً مجـابا
لكم العهد أن أظل على العهـد وألا ازداد إلا إقتــــرابــــــــا
فــاذكرونـي إذا تبلـــج فجــــر واذكـروني إذا الأذان أهـــابا
واذكروا ناصحاً أميــناً وفــــياً لــم يكـــن في ودادكم مرتابا