في العلمانية والصحوة الإسلامية والمشروع الحضاري
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أجرت صحيفة “الوطن” الاسبوع الماضي حواراً مع القيادي بالحركة الإسلامية “عباس الخضر حسين” الذي قاد مبادرة رأب الصدع بين المؤتمر الوطني و”شقيقه” الشعبي، وأشتمل الحوار على العديد من المحاور التي رأيتُ ضرورة الكتابة عنها ليس لأنها صادرة من الأستاذ عباس ولكن لأنَّ جزءاً كبيراً منها يعكس أوجه القصور والمغالطات التي يحتوي عليها خطاب أهل “الإسلام السياسي”.
سئل الأستاذ عباس عن أسباب التقارب بين الوطني والشعبي وهل كان من بينها ما حدث للإخوان المسلمين في مصر، فأجاب بالقول : (المخاطر التي تواجه الأمة في العالم كثيرة وأخطرها العلمانية التي تقف وراءها الولايات المتحدة الامريكية وتدعمها الصهيونية العالمية من أجل إبعاد الناس عن الدين وهم يعلمون ان هنالك صحوة اسلامية عالية انتظمت العالم ولذلك هم يعملون على وقفها بالعلمانية التي تقوم بإبعاد الدين عن حياة الناس).
إجابة الأستاذ الخضر أعلاهُ تتضمنُ – دون رابط منطقي – الكلمات السحرية التي أدمن تيار الاسلام السياسي دغدغة عواطف بسطاء المسلمين بها : أمريكا، الصهيونية، العلمانيَّة، وهو كذلك يشير للغز أسمهُ : الصحوة الإسلاميًة.
إنَّ الزعم بأنَّ العلمانيَّة تعني “الفصل بين الدين والحياة” – كما يقول عبد الله النعيم – هو قول ضالٌ ومُضلِّل وغير عملي. فحقيقة الأمر أنَّ الأخلاق المُستمَّدة من مصادر دينية هى أساس الحكم والقضاء والإقتصاد وباقي الأمور المتعلقة بالصالح العام، ولهذا فإنَّ الدين يتخللُ جميع جوانب الحياة العامة للمجتمع. إنَّ مختلف القضايا التي تواجه المجتمع من ضبط الإجهاض وحضانة الأطفال بعد الطلاق، إلى تنظيم التأمينات الصحية أو العقوبات والسياسات العقابية تحتاج للنظر الأخلاقي العميق الذي يمارسهُ أغلب المواطنون من خلال معتقداتهم الدينية، وهكذا فلا يُمكن للعلمانية إقصاء الدين عن الحياة العامة.
العلمانية – كما ذكرنا كثيراً – حركة عقلانية تدعو لإعمال العقل والعلم والأخذ بهما لتطوير العالم. ومن الخطأ النظر إليها كنسقٍ واحدٍ نهائي، فهى تنشأ متأثرة بمعطيات كل مُجتمع، وتختلف بإختلاف السياقات الإجتماعية والتجربة التاريخية، وبالتالي فإنَّ خصائصها تختلف من بلدٍ لآخر.
قد مثلت أمريكا الحاضنة الأساسية لتيار الإسلام السياسي أبَّان الحرب الباردة والصراع مع الإتحاد السوفيتي، وقد تحالفت مع ذلك التيار لمحاربة التوجهات الوطنية والقومية التي شكل رأس الرمح فيها النظام الناصري في مصر، وهى كذلك الدولة التي قامت بصناعة جميع الحركات الجهادية التي حاربت في أفغانستان وعلى رأسها “تنظيم القاعدة”، وأيادي أجهزة مخابراتها ليست بعيدة عما يدور في العراق وسوريا اليوم من صناعة جديدة لتنظيمات مثل “داعش” و “جبهة النصرة” وغيرها من الجماعات المتطرفة.
الصهيونية العالمية كذلك لا يُضيرها أن يُسيطر تيار الإسلام السياسي على العالمين العربي والإسلامي، ذلك أنها لن تجد نظاماً آخر أفضل منه يصرفُ جهود الأمة إلى القضايا الهامشية، قضايا التديُّن الشكلي، ويجعلها تعيشُ في غيبوبة فكرية، وغربة عقلية تنشدُ المستقبل في الماضي، وتبعدها عن أسباب القوة الحقيقية المتمثلة في قوة العلم والعقل، وتغمرها بالموضوعات والفتاوى الإنصرافية.
أمَّا “الصحوة” الإسلامية التي يتحدث عنها الأستاذ عباس فليست سوى شعار لا محتوى لهُ، وهى تضم في داخلها جماعات مثل داعش وأنصار الشريعة والقاعدة وطالبان وبوكو حرام لا تقدِّمُ للمسلمين سوى القتل والذبح والتفجير، جماعات تُعبِّد طريق الجنة عبر إختطاف التلاميذ ومنع تعليم البنات وتكفير الشيعة. ومن بين تلك الجماعات أيضاً من لا همَّ لهم غير حرب الموتى و تحطيم قباب الأولياء و التذكير بعذاب القبر.
من ضمن جماعات الصحوة كذلك من إدعى الحداثة ومجاراة روح العصر، وعندما إستولى على السلطة بقوة السلاح لم ينتج مشروع حكمه “الحضاري” سوى الإستبداد و الحروب الأهلية والفساد وضياع الأرض.
وعندما يُشير المدافعون عن تلك الصحوة المزعومة لتجربة حزب العدالة التركي ( وهى التجربة الوحيدة التي يتفاخر بها بعضهم ) فإنهم يقعون في حرج شديد ذلك أنَّ نجاح تلك التجربة لم يقع إلا لإلتزام حزب أردوغان بقواعد “الدولة المدنية” وبأسس اللعبة “الديموقراطية” وبالدستور “العلماني”.
وغنىٌ عن القول أن بعض فصائل تلك الصحوة المزعومة تعتبر تلك المفاهيم ( الدولة المدنية، الديموقراطية ) مفاهيم “كفرية” ولا ترى في تجربة حزب العدالة التركي سوى تجربة “علمانية” لا علاقة لها بالحكم الإسلامي الصحيح.
سُئل الأستاذ عباس إن كان الخلاف بين الشعبي والوطني قد إنتهى أم لا، فأجاب بالقول ( يمكننا القول أنَّ الأفكار قد تقاربت وحدث نوع من التعايش والتفاهم وكل في موقعه ويتعاونان ضد القوى التي تريد النيل من الإسلاميين ).
لا ضير أن يصطلح الحزبان ويرجعا لسابق عهدهما، فهذا شأنٌ يخصهما، ولكن ما يعنينا هنا هو تحليل الأسس التي جعلتهما يتقاربان، وهى للأسف الشديد أسس “غير عقلانية” لا تخاطب جوهر الخلاف ( كما صوَّروه حينها) وتستند فقط إلى “عاطفة” التوَّحُد لمواجهة عدو خارجي متوهم “يريد النيل من الإسلاميين”.
لقد صوَّر الدكتور الترابي وأشياعه خلافهم مع الحكومة والوطني على أنه خلافٌ حول المبادىء المتمثلة في الحُرِّية والعدالة وعدم إحتكار السلطة وتكافؤ الفرص بين جميع السودانيين، فما هو الشىء الجديد الذي طرأ على هذه الأمور، هل أتيحت الحرية كاملة ؟ أم هل باتت السلطة مبسوطة للجميع ؟ أم يا ترى هل عاد النظام الديموقراطي ؟ بالطبع لم يحدث أية شىء من ذلك.
وبالتالي فإنَّ هذا التقارب لن يعود بأية فائدة على “الوطن” ولن تكون ثمرتهُ سوى المزيد من المشاكل، خصوصاً فيما يلي قضية العلاقات الخارجية، فمن الواضح أنَّ القوى التي يعنيها الأستاذ عباس بالقول أنها “تريد النيل من الإسلاميين” لا تقتصرُ على الاحزاب في الساحة الداخلية بل تشمل أطرافاً خارجية تخوض صراعاً مكشوفاً مع جماعة “الإخوان المسلمين”.
وعندما سُئل الأستاذ عباس الخضر عن المشروع الحضاري الذي تبنتهُ الحكومة أجاب بالقول (عندما جاءت الإنقاذ كان هنالك 800 مسجد بالخرطوم والان 15 الف مسجد وكان صلاة القيام وقراءة القرآن في مسجد ابوبكر الصديق فقط وبعضهم يذهب لشيخ العباس في توتي ومساجد العاصمة كلها الآن تصلي القيام وبجزء كامل والزي نجد أن الحجاب انتشر والاعلام التلفزيون السوداني الان يسمى القناة الطاهرة نحن لم نصل الى مانريد ولكن هناك توجه اسلامي كبير البعض يظن الاسلام هو الحدود القطع والقتل ولكن الاسلام هو التربية والتنشئة ).
إجابة الأستاذ عباس تجسِّد المأزق الحقيقي لتيار الإسلام السياسي، والذي يتمثل في الإهتمام “الشكلي” بمظاهر الدين دون جوهره، صحيح أنَّ إنشاء المساجد أمرٌ محمودٌ ومطلوب، ولكن الأهم من ذلك هو أثر تلك المساجد في نفوس الناس وسلوكهم، فعلى الرغم من أنّ الناس يتزاحمون للصلاة إلا أنَّ ذلك لم يمنع الإنتشار الواسع للرشوة والفساد و الكذب والنفاق في المُجتمع، ولم يوقف إنتشار مرض الأيدز والمخدرات بهذه الصورة المخيفة، ولم يحُد من إنتشار الجريمة التي إتخذت اشكالاً غير معهودة من قبل.
لقد ذكرتُ في مناسبة سابقة أنَّ بعض المساجد قد تحوَّل لمراكز لإظهار “الوجاهة الإجتماعية”، روَّادها من أصحاب الشالات ناصعة البياض، والعمائم المعطرة بالمسك، ويُخبرك “فلان” أنهُ لا يُصلي إلا في المسجد الفلاني، ولو كان ذلك المسجد يبعد عدة كيلومترات عن مكان سكنه لا لشىء سوى السبب الذي ذكرناه.
إنتشار الحجاب كذلك لم يفعل شيئاً تجاه تدفق مئات الأطفال الرُّضع لدور رعاية الأطفال مجهولي الأبوين، ولم يمنع الزواج العرفي، ولم يوقف الكثير من الفظائع الأخلاقية التي تمتلىء بها دفاتر شرطة أمن المجتمع.
أمَّا القناة “الطاهرة” التي يتحدَّث عنها الأستاذ عباس فهى في حقيقة الأمر قناة لا يشاهدها الناس، ويمكن الرجوع في ذلك للإحصائيات المقارنة، ذلك أنَّ برامجها غير جاذبة ورتيبة وأحادية التوجه. أمَّا التسمية فإنها تحملُ نوعاً من “الإستعلاء” يتميز به تيار الإسلام السياسي ذلك أنَّ نعت قناة واحدة بصفة الطاهرة يستلزم بعكسية الدلالة أن تكون باقي القنوات “غير طاهرة”.
إنَّ إطلاق مثل هذه التسميات لا يهدف لشيء سوى تغطية الفشل، فما فائدة الطهر الشكلي لقناة لا يشاهدها الناس ؟ القنوات التليفزيونية هدفها جذب المشاهدين وليس تشجيع الفشل بإدعاءات أخلاقية مصطنعة.
وأخيراً نقول للأستاذ عباس إنَّ قولك ( البعض يظن الاسلام هو الحدود القطع والقتل ) مردودٌ عليك ذلك أنَّ هذا “البعض” ليس سوى تيار الإسلام السياسي الذي ظل على الدوام يعتبر أنَّ الشريعة هى الحدود فحسب، وكان أحد شعاراته التي لا تخلو من مزايدة ينادي ب “شريعة سريعة أو نموت الإسلام قبل القوت” ولم تكن تلك الشريعة تعني شيئاً سوى الحدود، أما الموضوعات الأخلاقية وتزكية النفوس والتمسك بالقيم فهى تأتي في مؤخرة أولويات ذلك التيار وما تجربة الحكم المستمرة منذ ربع قرن إلا أكبر شاهدٍ ودليل على ما نقول.