هيئة عُلماء السُّلطان وتحريم الغناء في رمضان
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
قال الأمين العام لهيئة علماء السودان (بروفيسور) محمَّد عثمان صالح في تصريح صحفي الأسبوع الماضي أنَّ القنوات الفضائية المحلية (ساهمت بشكل كبير في هزيمة المشروع الإسلامي للدولة)، وطالب الجهات المسئولة ( بمنع الغناء في شهر رمضان لأنهُ يساعد على الفساد )، وأضاف أنَّ الهيئة أصدرت في وقت سابق ( فتوى بتحريم الغناء في رمضان والعمل على تقليله في الشهر الفضيل حتى لا ينشغل الناس عن العبادة ).
في البدء نقول أنَّ الحديث أعلاهُ لا يعترض على ضربٍ مُعيَّن من ضروب الغناء، ولا يُميِّز بين غناء هابط وآخر رصين، ولكنهُ يرفض الغناء من حيث المبدأ، وهو رفضٌ عقيم يُغالط الواقع و حقائق التاريخ الإسلامي.
يعلمُ كل من لديه إلمامٌ بسيط بالتاريخ أنَّ “الحضارة الإسلاميَّة” في أوج قوتها و تألقها في ظل الدولة العباسية، وخصوصاً في القرن الثالث الهجري شهدت إزدهاراً للموسيقى والغناء بصورة غير مسبوقة، وكانت قصور الخلفاء ودور العلماء تمثل ساحات رحبة للطرب و للإستماع للمغنين والمغنيات.
في تلك الحقبة إزدهرت الموسيقى وتطورت آلاتها ولا سيما في مدينة بغداد التي صار لها مركز الصدارة والشهرة في هذا الفن. و ظهرت أسماء أشهر المغنين والمغنيات مثل إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وتلميذه “أبو الحسن علي بن نافع ” الملقب بزرياب وقمر البغدادية وغيرهم ، و كذلك برع في دراسة الموسيقى من الناحيتين النظرية والعملية عددٌ من كبار العلماء والخلفاء أمثال الكندي والفارابي والخليفة الواثق العباسي.
كذلك كان الحال في حضارة الإسلام بالأندلس منذ عهد عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) حيث أضحت مركزاً للغناء و صدَّرت موسيقاها ليس إلى المشرق فحسب بل إلى كافة أنحاء العالم، ولم تكن الدولة العثمانية إستثناءاً في هذا الخصوص حيث إزدهرت في ظلها الأغانى والإيقاعات والتأليف الموسيقى والموشحات.
الموسيقى والغناء شأنها شأن كافة العلوم والفنون والآداب تمثل مؤشراً لإزدهار الحضارة أو إنحطاطها، وهى – على العكس مما قاله (البروفيسور) – لا يُمكن أن تشكل أداة لهزيمة أية مشروع حضاري إذا كان ذلك المشروع حقيقياً وليس مُجرَّد شعارات مُبهمة و فضفاضة خالية من المحتوى.
هكذا كان الحال في ظل الدولة العباسية التي شهدت نهضة شاملة في العلوم التجريبية والآداب، وتفاعلت مع حضارات العالم وعلومها عبر “بيت الحكمة” الذي برع في النقل والترجمة، ولم يكن الخلفاء “يزدرون” الموسيقى والغناء ويعتبرونها مدعاة “للفساد”.
المشاريع الحضارية – يا بروفيسور – لا تهزمها الموسيقى بل يهزمُها الفساد وإنتشار الرشوة والمحسوبية، ويهدمها الظلم والفقر والغبن، وما الموسيقى والغناء إلا مؤشرات لمدى نجاح تلك المشاريع أو فشلها.
إنَّ حديث البروفيسور يحتوي على إعتراف ضمني بفشل وهزيمة “المشروع الحضاري”، ولكنهُ يتهرَّب من مناقشة الأسباب الحقيقية لتلك الهزيمة، ذلك أنَّ أحد أسبابها هو وجود هذه الطبقة التي ينتمي إليها و التي تطلق على نفسها مسمى “العلماء”، ومن سماتها الرئيسية الإنشغال بالأمور الإنصرافية وترك القضايا الأساسية التي تهم الناس.
هؤلاء العلماء “بزعمهم” مشغولون بإصدار الفتاوى التي تُحرِّم الموسيقى وتمنع النساء من لعب كرة القدم وتحظر استخدام الفتيات فى الإعلان ، ولكنهم لا يتحدثون عن الفساد الذي إنتشر و عمَّ القرى والحضر، والأزمة الإقتصادية الطاحنة، واحتكار السلطة، والفاقد التربوي، والتفاوت الطبقي الحاد.
همُ مشغولون بإصدار البيانات التي تدعو لمنع إنشاء المقاهي الشعبية في الشارع وخصوصاً شارع النيل، فالمقاهي في وجهة نظرهم تمثل “بقعة سوداء في وجه المدن الحضارية “، وهذا نموذج ساطع للظاهرة التي أسميتها من قبل ب “التديُّن الشكلي” وهو نوعٌ من التديُّن يحصر الدين في الشعائر والمظاهر ولا يهتم بجوهر الدين وقيمه وتعاليمه الحقيقية.
المُتدّين الشكلي – كما قلت في مقال سابق – قد يُستفز و يجّن جنونهُ وهو يرى إمرأة كاشفة رأسها ،وقد يذرف الدمع وهو يستمعُ لخطبة يلقيها أحد شيوخ الفضائيات عن عذاب القبر، وقد يهتف حتى يبح صوته في مسيرة لتأييد الحاكم المؤمن، ولكنه لا يُحرِّك ساكناً وهو يرى طفلاً مُشرداً يبحث عن لقمة داخل صندوق القمامة.
هيئة العلماء تعتبر المقاهي “بقعة سوداء في وجه المُدن الحضارية”، ولكنها لا تسأل نفسها عن النساء اللائي يعملن في تلك المقاهي وما الذي دفع بهنّ للخروج من بيوتهن للعمل منذ الخامسة صباحاً وحتى السادسة مساء ؟ ولماذا إضطررن للخروج للعمل بعد هروب أزاوجهن الذين عجزوا عن إعالة أسرهم، أو موتهم وفقدانهم في الحروب العبثية التي لا تتوقف ؟ هى كذلك لا تسألُ عن مصاريف الدراسة والعلاج وإيجار المنزل التي أصبحت سيفاً مسلطاً على رقاب هؤلاء النسوة، وغير ذلك من الأسئلة الكثيرة المؤلمة.
أية مدن حضارية – يا بروفيسور – تلك التي لا تستطيعُ توفير “المياه” الصالحة للشرب لسكانها وهى ترقدُ آمنة بين ذراعي النيل ؟ وأية مدن حضارية تلك التي يضطر قاطنوها لأكل “الدجاج الميت” وطهى آذان “الأبقار” حتى يذهبوا عنهم الجوع ؟
هؤلاء العلماء بزعمهم معزولون عن الناس وهمومهم ، متماهون مع السلطة التي برعت في إسكاتهم واستمالتهم عبر خلق أنواع من الوظائف المصنوعة التي لا تعود بالنفع إلا على أصحابها فأضحوا متواجدين بكثافة في كل وزارة ومصلحة حُكومية وجامعة ومؤسسة مالية وبنكية ومجالس إدارات الشركات، يُصدرون الفتاوى والأحكام تحت مسمى الرقيب الشرعي، وهى بدعة لم تعرفها مؤسسات الدولة عندما كانت القوانين والنظم واللوائح هى التي تضبط عمل الخدمة المدنية أبَّان فترة عظمتها وإزدهارها.
هيئة العلماء بزعمهم تعيش خارج العصر و تسير في الإتجاه المعاكس للتاريخ، فهى تعتقدُ أنَّ اصدار الفتاوى التي تحرِّم الغناء ستمنعُ الناس من الإستماع للموسيقى والأغاني – مساكين، هذا فهمٌ ساذجٌ وعقيم، فنحن نعيشُ في عصر “العالم الهاتف” وليس “العالم القرية” كما كان يُقال قبل سنوات قليلة، بوسع المرء أن يشاهد ويستمع عبر الهاتف الذكي لأحدث أغاني “ماريا كيري” و “بيونسى” و “جيسون مراز” فضلاً عن “جورج وسوف” و “آمال ماهر” و “ديديه عوضي” وغيرهم من المطربين العالميين والأفارقة والعرب.
من الجلي أنَّ فتاوى الهيئة تستهدف برنامج “أغاني وأغاني” لأنهُ البرنامج الذي يحقق أعلى نسبة مشاهدة في الشهر الفضيل، وقد سعوا من قبل لتغيير موعد بثه ومع ذلك ظلَّ الجمهور يتابعه بإهتمام. هذا البرنامج يُعيد إنتاج الغناء السوداني الرَّصين، ويُعرِّف بالشعراء والمطربين والمُجتمع بإسلوب “السهل الممتنع” الذي يتميَّز به الشاعر الكبير السر قدور، وبالتالي فلا مجال للإدعّاء أنه “يُفسد” الناس.
و من ناحية أخرى فإنَّ هذا البرنامج لا يشغل الناس عن العبادة في الشهر الكريم لأنَّ زمن الحلقة لا يتعدى نصف ساعة في اليوم، والناس يستمتعون بمشاهدته وينتظرونه بشغف شديد، وبالتالي فإنَّ محاولة “إجبارهم” على ترك مشاهدته بالقوة و بواسطة فتاوى “التحريم” لن تجدي، ولو كان لدى هيئة العلماء بزعمهم برامج أخرى جاذبة فعليها بثها والمنافسة بها “والحشاش يملا شبكته” كما يقول المثل.
لن ندخل مع (البروفيسور) في جدل فقهي حول الموسيقي والغناء فيكفي ما أوردناهُ من شواهد التاريخ وحقائق العصر، ولكننا نقول أنَّ حديثهُ ينطوي على تناقض واضح، فهو يقول أنَّ هيئته أصدرت فتوى (بتحريم الغناء في رمضان ) والعمل على تقليله في الشهر الفضيل حتى لا ينشغل الناس عن العبادة، وكأنهُ يوحي بأنَّ الغناء في غير شهر رمضان “حلال” و مباح فالفتوى تقصر “التحريم” فقط على هذا الشهر.
ختاماً : نأملُ أن لا تستجيب الحكومة لدعوة هيئة العلماء وأن لا تتدخل في هذا الأمر وتترك المُجتمع يُقرِّر في مثل هذه القضايا التي لا تحتملُ أوامر السلطة ونواهيها بل يبتُ في أمرها الحس العام للجمهور، وهو بدون شك حسٌ سليم لأنهُ يُعبِّر عن رغبات الناس وخياراتهم الحقيقية.