منتهى السعادة : الأهل فى دار فور على قيد الحياة !!
بقلم محمد بشير ابونمو
[email protected]
ربما يستغرب البعض من هذا العنوان وقد يضعه الاخرون فى “خانة ” المبالغة ، ولكن خذوا هذه القصة الحقيقية والتى امثل شخصيا طرفا فيها حتى تحكموا على ما اقول .
قضيت معظم ايام الاسبوع الماضى فى اتصالات هاتفية صباحية ومسائية مع قريب لى يسكن العاصمة المثلثة ، الا ان اسرته المباشرة والممتدة تعيش فى احدى القرى النائية بشمال دار فور ، وسبب الاتصال المتكرر هو انى علمت ان الجنجويد بدءوا فى اكتساح المنطقة الممتدة من مليط الى المنطقة الشمالية من دار زغاوة واستهداف كل القرى ومصادر المياه بهذه المنطقة ، وان قراهم تقع فى هذه المناطق .
مصدر قلقنا المشترك هو انه لا توجد وسائل الاتصال الحديثة فى تلك المناطق حتى يعرف الشخص عن مصير اهله فى ظل حكومة تستخدم المرتزقة والمليشيات القبلية لممارسة القتل والاغتصاب والنهب على المواطنين العزل وتجريدهم من كل وسائل الحياة كأبلغ تعبير لجريمة التطهير العرقى ، ومن ثم الالتفات الى المتمردين والذين فى العادة لا يتواجدون فى القرى والفرقان ، فهم لهم معسكراتهم وثكناتهم فى مواقع بعيدة عن القرى يعرفها هؤلاء الاوباش ولكن توجيهات قادتهم المباشرين وأسياد قادتهم فى الخرطوم تقضى بمسح القرى اولا وقتل وتهجير السكان من قراهم قبل البحث عن المتمردين الذين يقاتلون الحكومة .
فى اتصالى بالأمس ، وعلى غير العادة وجدت قريبى سعيدا ومنشرحا وشعرت على الفور ان هنالك اخبار سارة ، وعاجلته سائلا : لعل هنالك اخبار سارة ؟ قال نعم وصلتنى اخبارهم اليوم من الفاشر وهم بخير ، قلت هل تجاوز الجنجويد القرية او لم يجدوها فى طريقهم ؟ قال لا والله فقد اجتاحت مليشيات الجنجويد القرية وأحرقتها بالكامل ، قلت مذهولا وأين الاخبار السارة اذن ؟ قال والله انت يا اخى متفائل اكثر من اللازم ، الاخبار السارة هى ان اهلى واهلك قد جاءتهم الاخبار بحركة الجنجويد فى وقت مبكر وجمعوا اطفالهم ونسائهم وعجزتهم وتركوا القرية قبل خمسة ايام من وصولهم . وسألته ولكن اين ذهبوا ؟ رد قائلا : بالطبع الى الجبال الوعرة والوديان النائية ، وسألته غاضبا ولما السعادة اذن ؟ قال ضاحكا (وشر البلية ما يضحك ) يا اخى احمد ربك فان هذه الخمسة ايام كانت كافية لنقل ضرورات الحياة من القرية من ماء وزاد الى حيث يقيمون حتى يقضى الله امرا كان مفعولا ، ولكنى اضحك لأمر آخر ، فقلت ما هو ؟ قال ان خالك فلان (وهو والد المتحدث ) كاد ان يجهض خطة الاخلاء من اساسها لولا لطف الله ، وسألته ما القصة ؟ اجاب : الحاج رفض رفضا قاطعا مغادرة القرية وطلب من الجميع الاسراع بالمغادرة اما هو فلا يبارح بيته حتى يلقى ربه ، وحجته فى ذلك انه يرى ان كل ذنبه فى هذه العملية ان رب العباد قد خلقه وجعله “زغاويا ” عكس البشير ومرتزقته ، وهذا امر ليس بيده ولا بيد البشير او الغزاة القتلة القادمون ولا يستطيع احد فى هذا السودان ان يوجه له تهمة تستوجب قتله وحرق قريته وسبي نسائه ونهب امواله غير انه ينتمى الى قبيلة الزغاوة ، فاذا كان انتماءه القبلى يعتبر جريمة فهو يقبلها ، ولأنه قد تجاوز الثمانين من العمر فهو يعتقد انه قد لا يعيش بعد هذا العمر غير سنتين او ثلاثة على احسن تقدير وبالتالى فهو يفضل ان يموت شهيدا !
امام هذا الوضع الحرج ، فقد استعان احد ابنائه بأحد تجار الماشية بالمنطقة وهو يمتلك هاتف الثريا فتمكن من الاتصال بابن خاله الحاج “الرافض للرحيل ” وهو يقيم بمدينة الفاشر وتمكن من اقناعه لترك القرية بعد يومين عصيبين ، وكانت الحجة الوحيدة التى اقنعه بها ، هى انه لو اصر على البقاء فى القرية فلا سبيل لابنيه غير البقاء معه بعد ترحيل الاسر بعيدا عن القرية ، فتكون النتيجة الحتمية بدل استشهاده لوحده يكون معه ايضا ابنيه الشابين ، فانهار الرجل الثمانينى امام هذه الحجة القوية فتبع اهله متأبطا ابريقه الفخارى وحاملا سجادة صلاته على كتفه والقهر يملأ جانبيه !
هذا هو حال اهلنا فى دار فور الان ، ولكن من المفارقات ، انه وعلى مسافة ساعات قليلة بالسيارة من هذه المنطقة وعلى الحدود السودانية التشادية اُختتم مؤتمر فى قرية “ام جرس ” مسقط رأس الرئيس التشادى ، امه الرئيس السودانى والتشادى ورهط من مسئولى البلدين بالإضافة الى العشرات من ابناء قبيلة الزغاوة “ضحايا التطهير العرقى ” ،وقيل ان المؤتمر يبحث عن السلام فى دار فور وخاصة فى منطقة دار زغاوة المنكوبة الان !