الدستور والخلافة و دور الجماعات الإسلاميَّة
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
أوردت أخبار صحف الأسبوع الماضي ثلاثة تصريحات مُهمة حول قضايا الدستور والخلافة بجانب دخول الجماعات الدينية في المعترك السياسي. وتبيِّن هذه التصريحات مدى إستفحال الأزمة التي دخلت فيها البلاد عموماً، وأهل تيار الإسلام السياسي على وجه الخصوص في شأن تكييف العلاقة بين الدين والسياسة.
أخطر هذه التصريحات هو ما جاء على لسان نائب رئيس القضاء، عبد الرحمن شرفي، في ندوة حول الدستور أقامتها “هيئة علماء السودان” حيث إتهم ( بعض القوى السياسية بتلقي دعم من المعونة الأمريكية، ورعاية المكتب الإقليمي للجندرة، لإعداد مسودة دستور علماني للمرحلة القادمة، معتبراً أن الدستور يتضمن نصّاً يصف الربط بين الدين والدولة، بأنه أحد مخلفات المجتمعات الوثنية، مبديّاً إستغرابه من عودة نشاط الحزب الشيوعي والجمهوري بكثافة في الساحة السياسية، بعد قرار حل الأول وإعدام زعيم الثاني ).
بداية نتساءل عن مدى قانونية تصريح نائب رئيس القضاء برؤى سياسية صارخة ذات طابع خلافي ؟ وهل هو مسموحٌ للقضاة بحكم وظيفتهم التي تتطلب الإستقلالية والحياد التام الجهر بآرائهم في المنابر العامة ؟
ثم ندلفُ إلى لب التصريح غير الموفق للسيد نائب رئيس القضاء ونقول أنَّ محاولة الربط بين الدعم الأجنبي والقوى السياسية لا يخلو من ظلال “للتشكيك” لا تتماشى مع أجواء الحوار التي تنادي بها الدولة، وكان من الأجدى به توضيح السياق الذي تلقت فيه تلك القوى الدعم لأنَّ هناك جهات كثيرة تتلقى دعماَ من الخارج من بينها مفوضية الإنتخابات، وكذلك المفوضية القومية لحقوق الإنسان وغيرها، وهو دعم يتم بموافقة الحكومة.
ليس هذا فحسب بل إنَّ وسائل الإعلام كانت قد تداولت في فترة سابقة خبراً عن دعم يقدمه “الحزب الشيوعي الصيني” لحزب المؤتمر الوطني لبناء مقرِّه الجديد على أرض مقرِّه الحالي.
أمَّا الحديث عن وجود نص في مسودة الدستور يصف الربط بين الدين والدولة بأنه أحد “مخلفات المجتمعات الوثنية” فهو حديث خرافة لم يُقل به أية حزب سوداني على حد علم كاتب هذه السُّطور. مختلف القوى السياسية تطالب بمدنيَّة الدستور، وبأن تكون “المواطنة” هى أساس الحقوق والواجبات في الدولة، وهى أمورٌ يتضمنها دستور 2005 الذي يحكم به السودان الآن فإن كان ذلك يعني علمانية الدستور فهذا يعني أن دستور 2005 دستور علماني بإمتياز.
إنَّ الخطورة الحقيقية لهذا التصريح تتمثل في التساؤل التحريضي عن عودة نشاط الحزب الشيوعي والحزب الجمهوري. فالحزب الشيوعي ظل موجوداً في الساحة السياسية حتي بعد قرار حله في 1965 وشارك في إنتخابات 1985 وكان له ثلاثة نواب في البرلمان، وهو حزب تعترف به هذه الحكومة وله مقرات حزبية وصحيفة وقد إجتمع الرئيس البشير بزعيمه الراحل محمد ابراهيم نقد، فأين كان نائب رئيس القضاء طوال هذا الوقت ؟ ولماذا يطرح سؤاله في هذا التوقيت بالذات ؟
امّا الحزب الجمهوري وإن كان نشاطه قد ضمُر بعض الشىء في أعقاب إغتيال رئيسه فإنه ظلَّ موجوداً عبر الأفكار التي لا تموت، وعبر أعضاؤه المنتشرين داخل وخارج السودان، وعبر منابر الثقافة والفكر والعلم.
إنَّ أية محاولة لتحريض السُّلطة على حظر أنشطة هذين الحزبين أو غيرهما من الأحزاب ستضرُّ بعملية الإصلاح السياسي وستعود بالسودان لمربَّع “الطفولة” السياسية الذي تجاوزته كل الأحزاب أو الذي يُفترض أن تكون قد تجاوزته.
الخوف كُل الخوف أن يكون هذا التصريح مقدمة لحملة إضطهاد وتكفير وتخوين أخرى ضد أحزاب وجماعات فكرية و سياسية وهو الأمر الذي يعني أننا لم نستفد من دروس الماضي وتجاربه التي أضرَّت كثيراً بالوطن ولم نستطع تجاوز آثارها السالبة حتى اليوم.
التصريح الثاني منسوبٌ لأمينة المرأة بحزب المؤتمر الوطني “إنتصار أبوناجمة” التي قالت في ندوة آليات تعزيز الهوية السودانية ( إنَّ الانقاذ لم تتسبَّب في تفشي القبلية وإنها جاءت لتعيد دولة الخلافة الاسلامية).
يبدو أنَّ الأستاذة إنتصار لم تدرك التناقض الذي تقع فيه عندما تتحدث عن “هوية سودانية” وفي نفس الوقت تتحدث عن إستعادة “الخلافة الإسلاميَّة”، وهو تناقض – كما ذكرنا في مقال سابق – بين “الأمميَّة الإسلاميَّة” و “الوطنية”. وهو الأمر الذي ظننا أنَّ حزبها قد أدركهُ بعد ربع قرن من محاولة قسر الهُوية على مكوِّن واحد من مكوناتها وهو “الدين”، حتى أنَّ كاتب خطاب الرئيس – سيد الخطيب – إعترف بإستعجال من قالوا بأنَّ سؤال الهوية قد حسم في السودان.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا إفترضنا “حسن النيَّة” في مقصد الحكومة إستعادة الخلافة الإسلامية فإنَّ التجربة العملية الطويلة أدَّت لعكس ما تصبو إليه حيث إنفصل الجنوب و تحلل المجتمع لعوامله الأولية ( القبيلة، الجهة، العرق) و صار السودان بلداً ضعيفاً منهكاً تمزقهُ الحروب والنزاعات وهذا وحده كفيل بأن يجعلها تتراجع عن هذا الشعار.
صحيح أنَّ الإنقاذ لم تخلق المشكلة القبلية في السودان، ولكنَّ الصحيح أيضاً أنها أكثر الحكومات التي ساهمت في تفاقمها وذلك بإضعافها وتقسيمها للأحزاب الكبيرة و بتسييسها للإدارات القبلية الأهلية وأخيراً بتوظيف القبائل في صراعاتها الداخلية (الصراع بين المؤتمرين الشعبي والوطني).
إنَّ أية محاولة لنفي الدور السلبي للحكومة في هذا الصدد لا يُمكن فهمها إلا في إطار آلية “الإنكار” التي تحدثت عنها في مقال الإسبوع الماضي وهى الآلية النفسية والسياسية التي يتم إستدعاؤها لمواجهة “حقيقة” غير مريحة أو مؤلمة، و قلنا أنَّ خطورتها تكمن في أنَّ أصحابها يشعرون “بالإهانة” عندما يُحاولون قبول الحقيقة ولذا تتحوَّل إلى عائق دائم يحجب الرؤية ويؤدي للفشل الحتمي.
غير أنَّ أكثر التصريحات عقلانيَّة هو ما صدر عن الدكتور غازي صلاح الدين الذي قال إنه ( لا يؤيد وجود جماعة إسلامية على سدة الحكم بالبلاد) وأشار إلى أن ( الأفضل للجماعة الإسلامية أن تكون قوة ضغط تتبنى مواقف أخلاقية أفضل من أن تكون على سدة الحكم لأنه سينسحب على الإسلام ).
أصاب الدكتور غازي كبد الحقيقة بمطالبته الجماعات الدينية النأي عن الصراع السياسي والإكتفاء بإصلاح النفوس والأخلاق، وهو قول من شأنه أن يُبعدها عن الإنغماس في أمور السياسة التي تحتملُ النزاع و التآمر والخداع والمناورة وهى أشياء تتناقض مع أهدافها . و تنبعُ أهميَّة التصريح كونه يُعبِّر عن خلاصة تجربة رجل كان جزءاً من الحكم والسلطة لأكثر من عقدين من الزمان.
أمَّا أكثر التصريحات إثارة للإستغراب فقد صدر عن الشريك المؤسس مع الدكتور غازي لحزب “الإصلاح الآن” الأستاذ حسن عثمان رزق الذي شبَّه العضو الذي ينسلخ من حزب المؤتمر الوطني كأنه ( خرج من الكفر إلى الإسلام )، واعتبر أنَّ خروج نائب والي شمال كردفان السابق محمد بشير سليمان من الوطني وانضمامه للإصلاح الآن مثل ( خروج عمر بن الخطاب من الشرك للإسلام ).
من الواضح أنَّ الاستاذ رزق يخلط خلطاً كبيراً بين السياسة والدِّين، على الأقل في مستوى الخطاب، و تكمن خطورة هذا التصريح في إيحائه بأنَّ حزب المؤتمر الوطني حزب “للكافرين” وأنَّ الخروج منهُ سيسبغ على العضو نعمة “الإسلام” وهذا تلبيس لا يجوز، وتوظيف للدين بطريقة فجَّة في موضوع السياسة.
إنَّ خروج الدكتور غازي وحسن رزق من المؤتمر الوطني بعد قرابة الأربعة عقود لم يكن لسبب “ديني” بل لخلافات “سياسية” حول الإصلاح والشفافية والديمقراطية الداخلية، وبالتالي فإنَّه لا المؤتمر الوطني حزب “كافرين”، ولا الإصلاح الآن حزب “مؤمنين” بل كلاهما أحزاب يجب أن تحاكم بمعايير السياسة وليس الدِّين.
قد طالبنا أهل الإسلام السياسي مراراً بضرورة إجراء مراجعات نقدية للأفكار والمنهج لأنَّ تغيير المواقف السياسية وحدها لا يكفي لوقوع إصلاحات أساسية، فهاهو الأستاذ رزق يُشبه حزبه السابق بحزب الكفار والمشركين وهو ما يُشير إلى أنه لو كان مسنوداً بالسلطة لإستخدمها دون تردد في تصفيتهم عبر تهمة الرِّدة عن الدين، وهو كذلك يؤكد أنَّه إذا إختلف مع حزب “الإصلاح الآن” مستقبلاً فإنه سيرميه بنفس التهمة.
إنَّ حزب “الإصلاح الآن” مطالبٌ بسحب هذا التصريح فوراً والإعتذار عنه بصورة علنية و واضحة.