في إنتظار غودو
بقلم بابكر فيصل بابكر
[email protected]
قضى أبطال مسرحيَّة ( في إنتظار غودو ) لأحد كبار روَّاد دراما العبث “صموئيل بيكيت” حياتهم وسط يأس تام في إنتظار القادم “غودو” الذي لا يعرفون كنههُ والذي لا يجىءُ أبداً. وتُجسِّد قضية “الإنتظار” في مسرحيَّة الكاتب الآيرلندي الكبير مُحتوى مسرح العبث وروحه الخالصة حيث لا شىء يحدُث ولا أحد يجىء.
غير أنَّ مسرحيَّة العبث السياسي التي كان أبطالها قيادات الحزب الإتحادي الديموقراطي مؤخراً تفوق في دراميتها رائعة بيكيت، حيث شهدنا أحد تجليات المأزق الديموقراطي العميق الذي تعيشهُ أحزابنا المأزومة.
إجتمعت قيادة الحزب ممثلة في اللجنة المكلفة بمتابعة الأوضاع السياسية لدراسة القرارات الحكوميَّة المتعلقة برفع الدعم عن المحروقات وزيادة رسوم الجمارك والضرائب، وقررت فض الشراكة الحكوميَّة التي تجمعها مع حزب المؤتمر الوطني منذ عامين.
قالت اللجنة على لسان الناطق المناوب بإسم الحزب أنها قررت الإنعتاق من رفقة المؤتمر الوطني الذي ” ظلَّ يرمي بكل مذكرات الحزب لإتحادي في سلة مهملاته، دون أي التزام بما تم الاتفاق عليه بين الطرفين”، وأضافت أن أهداف “الحزب إصطدمت برؤى المؤتمر الوطني الأحادية والإقصائية ولذلك كان لزاماً علينا الخروج من الحكومة”.
هللت قواعد الحزب وجماهيره التي كانت منذ البداية تعارض مشاركة الحزب في الحكومة لقرار اللجنة، وظلت تترقب خروج وزراء الحزب من الحكومة، ولكن ذلك لم يحدث، وبات جلياً أنَّ “غودو” بدأ في ممارسة هوايته المفضلة في اللعب على حبال الوقت حتى يتبيَّن الكفة التي سترجِّح في خاتمة المطاف.
وكان برهان ذلك التصريحات المتتالية لوزراء الحزب في الحكومة، والذين رغم مشاركتهم في الإجتماع الذي تقرَّر بموجبه فض الشراكة خرجوا ليقولوا أنَّ اللجنة غير مفوَّضة بإتخاذ قرار وإنما مجرَّد “توصية” لرئيس الحزب الذي لا توجد مؤسسة حزبيَّة أو جهة قيادية سواه بإستطاعتها إتخاذ هكذا قرار.
حيث أعلن القيادي بالحزب يحيى صالح مكوار، وزير التنمية البشرية والسياحة والآثار بولاية الخرطوم أن وزراء الحزب الاتحادي “الأصل” مواصلون عملهم في الحكومة وباقون في السلطة، مشدداً على عدم وجود أي اتجاه للإنسحاب.
وكان من أغرب تلك التصريحات ما أدلت به عضو المجلس التشريعي لولاية الخرطوم عن الحزب الأستاذة مثابة حاج حسن التي قالت بحسب صحيفة الخرطوم أنَّ ( الحزب الإتحادي حزب رئاسي بنص دستوره، وليس من حق أى فرد أو جهة كانت إصدار قرار باستثناء رئيس الحزب ). إنتهى.
المفهوم الجديد الذي رفدت به الأستاذة مثابة – وهى خريجة كلية القانون – حقل العلوم السياسية، والذي لم يسبقها عليه أحد علماء السياسة في العالم هو مفهوم “الحزب الرئاسي”، فعلم السياسة يعرف من نظم الحكم الدستورية النظام الديموقراطي بشقيه الرئاسي وكذلك البرلماني، و لكنه لا يعرف شيئاً إسمه الحزب الرئاسي، فشكراً جزيلاً للأستاذة على هذا الإبتكار، وعلى الإستخدام المجَّاني لمفاهيم مثل الحزب والدستور، والله نسأله أن يلهم جماهير الحزب والشعب السوداني الصبر على البلاء.
والمُدهش كذلك في التصريح هو قولها أنه لا يحق لأية شخص أو جهة إتخاذ قرار سوى رئيس الحزب، فما هو إذاً الداعي لقيام المؤسسات الحزبية والهياكل الداخليَّة، وما معنى ديموقراطيَّة إتخاذ القرار ؟
ولم تكتف الأستاذة بحديثها المدهش أعلاهُ بل أضافت قائلة ( نحن في الحزب قضيتنا ليست في مشاورة الحكومة لنا فنحن شاركنا في الحكومة لمصلحة المواطن والوطن، وهذا هو هدفنا باعتبار إن الحكومة والمواطن والأحزاب الأخرى هم المكون الحقيقي لهذا الشعب السوداني وهو هدفنا الأساسي ). إنتهى.
لم تخبرنا الأستاذة بالكيفية التي سيحقق بها حزبها مصلحة “المواطن والوطن” دون مشاورة الحكومة، فالمؤتمر الوطني يصنع السياسات وينفذها ويتخذ القرارات منفرداً ويرمي بكل مذكراتكم في سلة المهملات كما قالت لجنتكم، فأى مصلحة للوطن والمواطن يمكن أن يجلبها حزب بهذا الضعف و الخوار ؟
ولكنَّ الرد على حديث الأستاذ مثابة – للمفارقة – جاء على لسان السيد محمد الحسن الميرغني نجل رئيس الحزب الذي قال بصراحة وجرأة شديدة ( إنَّ مشاركة البعض في الحكومة هي مشاركة شخصية لمصلحة شخصية، ولم ولن تدر لشعبنا وجماهيرنا بفائدة غيرالإضرار بهم )، وأضاف ( إنَّ علي المشاركين في النظام تحمل مسؤوليتهم الشخصيه التامة عن مشاركتهم). إنتهى.
ومع إتفاقنا الجزئى مع حديث السيد محمد الحسن الميرغني حول المصالح الشخصيَّة، إلا أننا نختلف معهُ في توصيفه لطبيعة المشاركة بأنها شخصيَّة، فالثابت لدى الجميع أنَّ الدخول للحكومة تمَّ بإسم الحزب وبمباركة والده ومشاركة شقيقه الأصغر الذي يعمل مساعداً لرئيس الجمهورية، وبالتالي فإنَّ مسئولية المشاركة تقع بالكامل على عاتق رئيس الحزب الذي قالت الاستاذة مثابة أنهُ الوحيد الذي يمتلك حق إتخاذ القرار.
أصاب الحرج لجنة متابعة الأوضاع السياسية، واجتهد أعضاؤها في الدفاع عن قراراهم بالإنسحاب دون جدوى، فالمؤتمر الوطني يسخر منهم، ويخرج لهم لسانهُ قائلاً : لم يصلنا أى خطاب يوضح إنسحاب الحزب الإتحادي، ووزراؤه يؤدون مهامهم العملية كالمعتاد، وأنَّ أحد الوزراء ترأس بعثة الحج السودانية لهذا العام.
الحزب الحاكم يتفنَّن في التلاعب بقيادة الحزب الإتحادي عبر وسطاء يُتقنون الحديث بلغة المال والمصالح والتجارة، يغنون بلسان “الختميَّة” ويصلون بلسان “المؤتمر الوطني”، بينما يتم تخدير الجماهير المغلوبة على أمرها بالحديث المبهم عن “مصلحة الوطن والمواطن” التي لم يجن الحزب من وراءها سوى الضعف والهوان.
قد كشف موضوع إنسحاب الحزب الإتحادي من الحكومة بصورة باهرة عُمق الأزمة التي تعيشها الأحزاب التي تنادي بالديموقراطية وتعجز عن تطبيقها في هياكلها الداخلية، وعكس هزال القيادات التي لم تعُد فقط غير قادرة على تلبية طموحات قواعدها الجماهيرية، بل أضحت تعمل عكس رغباتها وإرادتها.
تواترت الأنباء مؤخراً عن أنَّ قيادة الحزب الإتحادي – بعد أن طال إنتظارها – أرسلت وفداً لمقابلة رئيس الحزب لإقناعه بالإنسحاب من الحكومة، وما تزال قواعد الحزب وجماهيره تترقب قرار الرئيس الذي سيصدرهُ بعد النظر في “الإتجاهات الستة”.
من المؤكد أنَّ حزباً بهذا القدر من التفكك والتخبط وعدم الفاعلية لن يُضيف شيئاً يذكر لمُعسكر المعارضة فجماهيره الرافضة لمشاركته في السلطة تقف عملياً في الجانب المناوىء للحكومة، كما أنَّ فض شراكته مع المؤتمر الوطني لن يُضير الحكومة التي لم تتأثر قراراتها و سياساتها وبرامجها بوجوده سلباً أو إيجاباً.