نداء خاص للمغتربين والمهاجرين السودانيين
بقلم : فتحي الضَّـو الأربعاء 25 سبتمبر 2013 ـ كنا قد ذكرنا في مقال الأسبوع الماضي، أننا نحن معشر السودانيين وجدنا أنفسنا في ظل حُكم العُصبة ذوي البأس نرزح بين فسطاطين. مستغربون يقبعون تحت ويلاتهم في داخل الوطن، ومغتربون يكتوون بنيران سياساتهم وقد تبعثروا في مختلف أصقاع العالم. ليس هذا فحسب، بل إن من نكد الدنيا على هؤلاء وأولئك ألا يعرف أحد عددهم أصلاً حتى يستقيم الحديث عنهم بصورة منهجية. لكن للدقة يمكن القول إن العُصبة عملت مرتين على إحصاء مستغربي الداخل خلال فترة حكمها التي تمطَّت وتثاءبت وبلغت ربع قرن إلا بضع أشهر. ومن المفارقات التي لن تدهش أحداً أن كلا المحاولتين كانتا لأسباب غير ما دَرج الناس على تعريفه بـ (الإحصاء السكاني) والذي يتعين على الحكومات المحترمة إجراءه حتى تستطيع إنفاذ مشاريعها التنموية وبرامجها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لكن العصبة المتجبرة أسقطت كل هذه الغايات النبيلة واستبقت وسائل القهر التي تضمن بقاء السلطة في حضنها بثلاثٍ شدادٍ. فتأبطت بهن شراً سمته (التمكين) وعاثت به في الأرض فساداً وطغياناً واستبداداً!
تذكرون يا سادتي أنه في بواكير تسعينات القرن الماضي، أعلنت السلطة الغاصبة عن عزمها إجراء إحصاء سكاني في 24 ساعة فقط. ومن عجبٍ أنها فعلت ودخلت به (موسوعة جينيس) للأرقام القياسية، وكأن الناس لا يعلمون أنه كان محض إحصاء أمني في إطار خططهم الرامية لاحكام القبضة على خناق الشعب السوداني. يومذاك فرضوا على المواطنين عدم مغادرة منازلهم مهما كانت الدواعي، وطافوا عليهم بمعلومات ظاهرها الإحصاء وباطنها الإخصاء، بغية تحقيق الغرض المذكور. أما المرة الثانية فقد كانت قبيل مهزلة الانتخابات الأخيرة التي أُجريت في العام 2010 وكان بهدف التمهيد لإجراء تزوير ممنهج لتلك الانتخابات. الأمر الذي تمَّ وفق ما خُطط له أيضاً، وبموجبه أُطلق عليها في الثقافة الشعبية (انتخابات الخج) فصارت اسماً على مُسمى. وسواءٌ هذه أو تلك، فنحن لسنا بصدد تأكيد أن العصبة تحكم قوماً لا تعرف عددهم، فهذا أمر لا يمكن أن يفوت حتى على فطنة (ذبيح الله مجاهد) الناطق الرسمي باسم إمارة طالبان الإسلامية. لكن ما نود تثبيته بحكم الواقع أن الأحياء والأموات في قاموس العصبة يتساوون في الرثاء. ألم يقل الرئيس (الضرار) إن عدد ضحايا حرب دارفور لا يتعدون عشرة آلاف قتيلاً!
بيد أن مغتربي الخارج ليسوا بأحسن حالاً من سابقيهم، مع فارق أن العصبة لم تجهد نفسها بإحصائهم.. لا سهواً ولا عمداً. ذلك لأنها ببساطة لا تحتاجهم في تزوير انتخابات وضعت سداً بينهم وبينها. كما أنها لا تخشاهم في زعزعة أمنها لأنهم واقعياً يوجدون خارج نطاق قبضتها الجغرافية. وعوضاً عن هذا وذاك فتحت منافذ البلاد على مصراعيها ليخرجوا زرافات ووحدانا في هجرة جماعية لم يشهد السودان لها مثيلاً. الغريب الذي لن يفجع أحداً أيضاً، أن العصبة تقر هذا التهجير بلسان ينضح تباهياً. فقد قال كرار التهامي إن جهاز شئون المغتربين الذي يدير مملكته، يُصدِّر ثلاث آلاف تأشيرة خروج يومياً (المذكور قال في حديث منشور إنه عُين في هذا المنصب بحكم أنه كان “غواصة” للجبهة الإسلامية أيام الطُلب، فتأمل!) كذلك قال فرح مصطفى وزير العمل إن عدد المغادرين في الربع الأول من العام الماضي 2012 بلغ نحو عشرين ألف مواطن. عليه يمكن القول إن العصبة أدخلت الإنسان السوداني ضمن الصادرات بأمل أن يدر عملات صعبة تسد بها جشعها، ولهذا لا غرو أنه كلما تكاثر أعداد الفارين من الجحيم، تنامت شهية العصبة لمزيد من الجبايات بدءاً من دمغة الأحياء، وانتهاءً بدمعة الأموات!
بما أن السوء بالسوء يذكر، كلنا يعلم أن سدنة العصبة يُشنفون آذاننا بحديث يكاد يفقد المرء وقاره من الضحك. فهم مثلاً يحدثونك عن فوائد الظلام عندما يتواتر انقطاع الكهرباء، ويذكرونك بضرورة الاستشهاد إذا وضعوا أعينهم على إرث طمعوا في أيلولته إليهم بعد رحيلك عن الدنيا، وإذا أفلست الدولة وصارت خزائنها خاوية على عروشها من أثر الفساد – مثلما هو الحال الآن – يقولون لك إن لهذا من صنع المتآمرين والطابور الخامس والإمبريالية العالمية. على ذات النسق، قال الرئيس المشير ضمن هرطقاته في المؤتمر الصحافي 23/9/ 2013 إنه اتّفق مع وزير المالية للسماح للمغتربين بإيداع أموالهم بالعملة الصعبة، وسحبها بنفس العملة متى ما شاءوا. هل سمع أحدكم برئيس جمهورية يمارس أفعال الحواة؟ فبغض النظر عن أن حديثاً كهذا يعبر عن طبيعة السلطة الديكتاتورية لأنه اتفاق بين رئيس ومرؤوس نُثر على الهواء الطلق.. كيف لرئيس ألا يحسن الظن بذكاء مغتربيه فيتحايل عليهم بالحديث في أمر يعرفون دوافعه الآن، ويحدثهم في زمن أصبحت سلطته كمنسأة سيدنا سليمان تنتظر الإسقاط. أشهد أنني رأيت الكثير من الفهلويين في حياتي ولم أك في حاجة للمزيد، وواقع الأمر كنت قد كتبت من قبل وقلت إن الرئيس المشير رجل كذوب، ولم أفتر عليه كذباً، فقد جاء حديثنا مشفوعاً بالأقوال والأفعال الموثقة، ومع ذلك ما كنت أظن أنني أحتاج لنعت شخص يوماً بشيء أبغض من الكذب.. وأتضاءل حياءً من ذكره!
ذكرنا في المقال الماضي أن تحويلات المغتربين عبر المنافذ الرسمية تبلغ نحو 5 مليار دولار سنوياً. وقد قرأت منذ نحو أسبوع أن هذا الرقم انخفض قليلاً لأسباب غير معروفة بالنسبة لنا، إذ بلغت تحويلات العام الماضي 2012 نحو ثلاث مليارات دولار ومائة واثنين وسبعين مليوناً. وكنت قد ذكرت في مقال سابق معلومة موثقة، تقول إن السفارة السودانية في الرياض تقوم بإيداع 2 مليون ريال يومياً في حسابها البنكي (عبارة عن حصيلة مختلف الأنشطة التي فصلّناها في المقال المشار إليه) ويزيد هذا المبلغ في بعض أيام الأسبوع، نقول ذلك لمن يريد أن يستخدم الآلة الحاسبة في عمليات الجمع والطرح، أو الكر والفر بلغة العصبة الباطنية!
كذلك يطيب لي دائماً التذكير بأرقام يجتهد المنقذون دائماً لمحوها من الذاكرة الجمعية لأهل السودان، هذا على الرغم من أنها من بنات أفكارهم وليست من انتاج المعارضين والمغرضين والعملاء. أما تكرارها في مقالاتنا فيجيء أولاً من باب الذكرى التي تنفع الغافلين. وثانياً حتى يعلم الناس أنهم أُفقروا في بلدٍ غني بكل المقاييس المعروفة. فبالإضافة لتحويلات المغتربين البالغة 5 مليار دولار سنوياً. نقول إن عائدات البترول في الفترة من العام 1999 أي العام الذي شهد تصديره لأول مرة وحتى العام 2011 أي عام انفصال الجنوب، كانت نحو 70 مليار دولار. أضف إلى ذلك الموارد الطبيعية الأخرى والمعادن، وأضف الصادرات الحيوانية والزراعية من قبل أن تعبث العصبة بمشروع الجزيرة وإخوانه. فكيف يفلس بلد بهذا الثراء العظيم؟ وفي واقع الأمر نحن لا نخوض في تفاصيل فساد وثقنا له حتى كلَّ متننا ومتن غيرنا من الراصدين. كما أننا لسنا بصدد إعادة سيرة استبداد فاض كيله، فدونكم قولاً لم يجف رذاذه بعد، وهو ما تجسد في حديث (الهوت دوق والبيتزا والمساكن الشينة وركوب البكاسي) فإن لم يكن هذا هو الاستبداد بعينه، فقل لي يا صاح بالذي خلقك من ماء مهين، كيف يكون الاستبداد عندئذٍ؟ فنحن نعلم وأنتم تعلمون أن هذه العصبة عبثت بالمكونات الروحية والمادية لأهل السودان لدرجة يمكن أن يقول المرء إنه لولا دفع الله السودانيين بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً!
من المؤكد إن الناس في حيرة من أمرهم وقد تخالط صبحهم مع مسائهم، فالرئيس الضرورة مشغول بما يحب من نعم الدنيا الزائلة، أو إن شئت فقل شُغل عمداً بحسنييها معاً، ولعل بعضنا لاحظ أنه يكرر أرقاماً ويلوكها منذ سنين دون تمعن في مطابقتها لواقع يعيشه الناس ولا يحتاج (لدرس عصر)! مثلاً ما عاد الحديث عن سد مروي يجدي بعد أن مثل قمة الفشل كمشروع كثير الكُلفة قليل المردود. لكن إن أحببت أن تعلم يا عزيزي القارئ شيئاً عن النمل الذي أكل السكر وأفقر البلاد وأهلها فتأمل فقط في ما تحاشى الرئيس الضرورة ووزير ماليته الهمام الخوض فيه، وهي مخصصات البدعة المسماة بالدستوريين والذين يستحوزون على مخصصات تنوء بحملها السطور. العاملون منهم في جهاز الدولة يبلغون الآن نحو 828 دستوري كامل الدسم، في حين أن عددهم كاملاً يبلغ نحو 9025 وهم الذين تقلدوا مختلف المناصب منذ العام 1989 وبالرغم من أنهم غادروها فهم ما يزالون يحظون بمخصصات كاملة. في حين أن ساكن القصر وسدنته، من مساعدين يُفع ونواب رُفع وآخرين من وراء حجاب، تبلغ مخصصاتهم الشهرية نحو مليون دولار شهرياً. وتعلمون من كثرة ما ذكرنا وكررنا أن العصبة ظلت تخصص 70% من الميزانية طيلة ربع قرن للأمن والدفاع، أي لقتل شعوبنا بالحروب المتواصلة، في حين خصصت نسبة 10،4% للصحة والتعليم. ولعل محصلة كل ذلك حالة الإفلاس الكامل التي أطبقت على الدولة الآن، فقد وصلت ديون البلاد إلى أكثر من 45 مليار دولار، وتفشت البطالة لتسجل رقماً قياسياً، إذ بلغت نسبتها نحو 47% ونسبة الشباب بينهم أكثر من 70% أما التضخم فقد وصل إلى ما نسبته 43% فهل بعد هذه الأرقام يمكن لجفن أن يغمض أو قلب أن ينبض أو لسان أن ينطق؟
صفوة القول، ماذا نحن فاعلون؟ لا شك أنه في مثل هذا المناخ سيسيطر على عقولنا هذا السؤال الحائر، وسنظل نردده في صحونا ومنامنا، في سرنا وجهرنا، ونحن نرى الحراك الوطني قد بدأت نذره تمطر ثورة من سماء حبلى بأحداث جسام. وفقاً لما فصلناه، دعونا نوجه نداءً مخلصاً للمغتربين والمهاجرين بدعوتهم لقصر تحويلاتهم المالية في إطار الحد الأدنى، أي في حدود العيش الكريم للملتزمين نحوهم من أسرهم وأهلهم. وليتهم يغلون أيديهم عن أي تحويلات دون ذلك، سواء كانت مشاريع استثمارية أو شراء عقارات أو أراضٍ أو منازل أو أي شيء من هذا القبيل، وذلك حتى يوصدوا الباب أمام نظام ظل يوجه تحويلاتهم في أطر لا تعود على الوطن وأهله بفائدة مرجوة!
نعم نحن مجتمع تكافلي، ونحمد للمغتربين والمهاجرين أنهم حافظوا على هذه الشعيرة فشملت رعايتهم الأسرة الممتدة وهم يتابعون شهيق وزفير الوطن بقلوب واجفة ولا يدرون ما يفعلون. بل يمكن القول لولا المغتربين المبعثرين في فجاج الأرض، ولولا دول الاغتراب التي عشنا في رحابها سنين عدداً، لأصبحنا أمة متسولة بامتياز ونحن نئن تحت كلكل ديكتاتوريات تعد أنثى الملاريا (الآنوفيلس) أرحم منها في مص دمائنا! وبالطبع نحن لا نهدف من وراء هذه الدعوة لفصم عُرى هذه العلائق الاجتماعية التي نعتز بها، بقدر ما نريد أن تتكامل تضحيات من هم بالداخل مع مجهودات من هم بالخارج، للتخلص من نظام يعيش سكرات الموت الذي كانوا منه يحيدون!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!.