مساء من الحب والتمرد لمحمود عبدالعزيز
بقلم : ياسر عرمان 6 مايو 2013 – ( 3-2 )
السيتينيات بعنفوانها وشبابها، واحتجاجاتها، وأحلامها الكبيرة في عالم جديد وموجاتها العاتية تحمل جون لينون وفرقة البيتلز كواحدة من عناوينها الرئيسية. أتى البيتلز من ليفربول، من أصولها العمالية التي تضع بصماتها على توجهاتهم لاحقاً. يهبطون وقائدهم جون لينون على مدرجات غضب شباب السيتينيات، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ويتحدى جون لينون وبول ماكارتي ورينجو ستار وجورج هاريسون والآخرين يتحدون النظام الرسمي ويغنون ضد حرب فيتنام (أعطي السلام فرصة/Give peace a chance) يتغنون للنساء-المرأة زنجي العالم الحديث- وترتفع راياتهم إلى عنان السماء، حتى إن جون لينون قال مزهواً : “إن البيتلز اليوم أشهر من المسيح”، ودفع ثمناً لهذه العبارة الزائدة، فالعبارات التي تجاوز بعض الحدود وتخدش جدار آخرين مكلفة اليوم كما في السيتينات، ومن أحشاء وضوضاء السيتينيات، من احتجاجاتها ومن معطف أحلامها خرج جون لينون يتحدى ماهو سائد وأضاف إليه بيتاً من الشعر بزواجه من يابانية – أوكا أونو- خارقاً حاجز صوت الإثنيات السميك في السيتينيات. وفي خاتمة المطاف دفع جون لينون حياته ثمناً وبقى نجماً مضيئاً وهادياً على مر الأزمنة، فالإنسان يعيش أكثر بعد رحلته القصيرة على وجه البسيطة. ومؤخراً احتفلنا في مواقع التواصل الإجتماعي مع جموع غفيرة بعيد الميلاد الثمانين لأوكا أونو التي لا زالت ترفع راية جون لينون مع تغير المناخ ولكن جون لينون لا يزال بهي الطلعة والطلة كما كان.
كما خرج البيتلز من أحشاء السيتينيات كذلك خرج محمود عبدالعزيز من أحشاء النظام العام، من سياطه وعلى غضب الشباب من النظام العام استند محمود بقوة إلى حائط جمهوره الصلب، وهذا من الممكن أن يكون أحد التواريخ التي تؤرخ لميلاد المغني المحتج في التسعينيات العجاف في بلادنا وجبروت سنوات قهرها، وإن الحياة جميلة يا صاحبي.
والذين يتساءلون من أين جاء محمود المغني، فالإجابة عند سياط النظام العام والذين فاجئهم جمهوره عند محطات المغادرة والوداع، لم يمتد بصرهم إلى التسعينيات، والجمهور الذي خرج لوداع المغني يعلم أن فرعون النظام العام لا يرتدي ملابس ولا صلة له بالصحابة، بل بأسواق المواسير. وقد التقاهم المغني في محطاته الأولى وفي نقاط البوليس ومعسكرات الخدمة الإلزامية، ففي عام واحد وبعد اتفاقية السلام في 2008 تم فتح 48,000 بلاغ ضد النساء في ولاية الخرطوم وحدها، بموجب قانون النظام العام، ويمكن القياس على ذلك لمعرفة ما جرى في السنوات السابقة. والمغني المبدع والمحتج كون حزبه من الجمهور الذي قتلت قوانين القمع أحلامه، وكان ذلك الجمهور حاضراً معه في كل المنعطفات، وما حدث في مدينة ود مدني قبل عدة أسابيع من رحيل المغني لم يكن حدثاً معزولاً ووحيداً، فقد وقف الجمهور مع المغني في كل المحطات وكان المغني يوزع السخرية والإبداع، والمال لم يكن همه، وكان له رصيد كبير من المسامحة إذا ما تخلف عن موعد مضروب مع الجمهور، ومحمود كان عادلاً في ذلك فهو لا يغيب عن جمهوره فحسب، بل عن مواعيد شديدة الخصوصية وعزيزة على نفسه أحياناً، ففي إحدى المرات طلب مني المجيء وموافاته في إحدى الأندية ببري، وأكد على حضوري عدة مرات، وأتيت وتغيب محمود، إن قلبه واسع، ومليء بحب الناس، ومن حب الناس يأخذ الأعذار عند الغياب.
البداية كانت في القاهرة منذ أكثر من عقد من الزمان، اتصل بي صديق ونقل لي دعوة عشاء من محمود عبدالعزيز وكان حينها مغنياً ذائع الصيت، وتوقفت عند الدعوة، فهو سيعود مجدداً إلى الخرطوم ويطلب لقاء أناس في قائمة الخصومة مع حكام الخرطوم، وفي الزمان والمكان المحددين ذهب وإذ بي أمام عالم من الإبداع والفوضى، ومع متمرد كامل الدسم. رحب بي ترحيباً حاراً، وتحدث عن إعجابه بالحركة الشعبية وبقادتها ولاسيما جون قرنق دي مبيور، وكان ودوداً وكريماً، وسعدت بالتعرف عليه، وببعض الغناء، وامتدت معرفتي به لسنوات عن قرب. تعرفت على إنسانيته، واستمتعت إليه متحدثاً ومغنياً، والتقيته في أوقات عادية، وفي أخرى كان في عين العاصفة والمتاعب مع رجال الشرطة والأمن، وهو يحدثني في أوقات متأخرة من الليل طالباً مني المجيء إلى إحدى حفلاته أو متاعبه أو إلى منزله في بحري، وتعرفت على والدته العظيمة، وزرت أسرته في مناسبات مختلفة والتقيته وهو قد أنفق الأموال على من حوله دون منّ وأذى، وقد مشى فقيراً مثل عامة الناس، وقد لاحقه البعض ونصبت له بعض الأجهزة الفخاخ في مناسبات مختلفة.
كان محمود نظام من الفوضى، وفوضى في انتظام، وكان الطريق إليه مزدحماً بالمريدين والمعجبين، وكان حزبه مكون من ذهب الشباب الخالص وحماسهم، وكانت أمسياته وردية مزدانة بالمئات والآلاف من الشباب دوماً على استعداد لحضور عروضه والارتياح من ضنك الحياة، وكانوا يجلون شيخهم في التمرد مقابلاً لشيوخ النظام، ومحمود عامر بالجمال وبفوضى الجمال معاً، وهو شحنة من الغضب المضيء، وشعلة من الإبداع، والكرم واللامبالاة، لاسيما حينما يأتي الأمر إلى الانتظام في تناول الطعام وأخذ قسط من الراحة، ودقة المواعيد.
كان يؤدي كل شيء على طريقته الخاصة مثل أغنية فرانك سيناترا الشهيرة (I do it my own way)، فهو يقوم بالأشياء على طريقته ومزاجه الخاصين. وقد رحل مبكراً وترك إرثاً عظيماً للمبدعين الشباب لمن أراد منهم الذهاب في طريق الناس العاديين، طريق الفقراء والمعذبين، وأحلام الشباب، وهو طريق للخلود.
تحدثت مع محمود ومع أكثر من صديق حول أثر تجربته في أوساط الشباب، وضربنا أكثر من موعد معاً مع ساحر الإبداع الكبير محمد وردي، ولكن زحمة الحياة حالت دون ذلك. وكنت أتردد كثيراً على نشاطات مركز صديقنا طارق الأمين في بحري، وأحياناً اذهب إلى منزل محمود عبدالعزيز، وأذكر جيداً في إحدى الأمسيات استمتعت بالذهاب إليه سيراً على الأقدام، وكان منزله دوماً نزلاً من نزل الضيوف، من أصدقاءه والعاملين معه وأبناء السبيل، وكان محمود واسطة العقد في تواضعه بين الضيوف.
حينما خلا الزمن للنظام العام وتحكم في حياة الشباب وحظرت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وجد الشباب الناقم في محمود رمزاً بيده أداة من الإبداع، وغاضباً ومحتجاً مثل الشباب تماماً، ونسج المغني الصلات إبداعاً واحتجاجاً وشعرت أعين النظام بالخطرو ترصدته وتعقبته، وقد سمعت وشهدت أكثر من حدث وصل حد إشهار السلاح ضده. وقد كانوا يدركون خطر جماعات الشباب التي تقف خلفه، وكان أيضاً يدرك أهمية جمهوره، وتعاملوا معه في كثير من الأحيان بشيء من الابتزاز والالتفاف محاولين كسر إرداته. وكانوا يتعمدون وضعه في مواقف صعبة وحرجة ثم يطلبون الثمن لإخراجه منها، بعد أن دبروها بعناية وقاومهم طويلاً، وبمختلف الأساليب التي ارتد بعضها إليهم. كانوا أجهزة منظمة، وكان أحياناً وحيداً و كانوا يمنون أنفسهم على نحو مريض لإجباره على الظهور ليشدو بإبداعه في منابرهم لكسر خاطر جمهوره، واستخدموا في ذلك كل الوسائل وأجهزة الإعلام التي كان بعضها أقرب إلى النصب منه إلى الإعلام، وكانوا يتوسلونه بطرق مختلفة للوصول إلى أهدافهم من مدح النبي عليه أفضل الصلوات والتسليم إلى مدح الإنقاذ.
الشباب الذين انتصروا لمحمود ضد الإنقاذ كانوا يدركون بحسهم ومن واقع تجاربهم نفسها ألاعيب النظام، ولهم تجارب مع مداورات وابتزاز شرطة النظام العام التي تعمل على طريقة(حاميها حراميها) فهي تلقي القبض على الفتيات بدعاوى الحياء والأخلاق واللبس والسلوك الفاضح، وتراود ضحاياها من الفتيات أنفسهن، وحينما ذكرت ذلك في ندوة في جبل أولية بعد شكاوي عديدة وصلت إلينا في الهيئة البرلمانية ومن عضوات في الحركة الشعبية وشباب عاديين كثر، هددت تلك الشرطة بفتح بلاغ ضدي أو أن أعتذر عن حديثي، وحينما رفضت دخلت في مسرحية طويلة لرفع الحصانة عني وأكاذيب عن وساطات للتخلي عن بلاغها المفتوح، وقد أتى إلى مكتبي عشرات المواطنين المستعدين للشهادة ضد شرطة النظام العام، واستمعت إلى العديدين من الضحايا مما جعلني أدرك إن الشباب الأذكياء الذين رفضوا مشروع الإنقاذ منذ بدايته دون دخول أي مدرسة سياسية قد تعلموا الكثير من تلك التجارب، ومن عجز الشعارات ومفارقاتها لواقع الحال ومن دخولهم إلى معسكرات الدفاع الشعبي و(دفارات) الخدمة الإلزامية، ومرورهم ببند العطالة، وتحطم أحلامهم في جبهات القتال لأكثر من عقدين كان ذلك كافياً لإعطائهم الجرعة السياسية التي يحتاجونها والمناعة حتى لا يصدقوا روايات الإنقاذ حول حالنا العام وحول المغني، وليس من رأى كمن سمع.
خلال حكم الفريق عبود وفي إحدى القطارات في ولايات الشمال، حكى لي المبدع العظيم محمد وردي أنه التقى بالمناضل العمالي فارع القامة والقيمة قاسم أمين، أحد المؤسسين للحركة النقابية السودانية، وأحد قادة النضال الوطني ضد الاستعمار البريطاني في الجبهة المعادية للاستعمار، وكان وقتها وردي قد تغنى مرحباً بنظام عبود في 17 نوفمبر الشعب طرد جلاده فقال له قاسم أمين ضاحكاً : “إذا الشعب طرد جلاده في 17 نوفمبر ما فائدة البنعمل فيهو ؟!” ودخل معه في حوار طويل حول طبيعة نظام عبود، وقد ذكر وردي أن هذه المناقشة التي لا تنسى هي واحدة من ضمن أحداث وتجارب لاحقة فتحت عينيه وعقله لإلتزام جانب الشعب حتى نهايات رحلته العظيمة التي التقى بها قامات سامقة من المثقفين منهم صلاح أحمد إبراهيم، محمد المكي إبراهيم، وتاج السر الحسن، والفيتوري وعمر الطيب الدوش ومحجوب شريف وعلى عبدالقيوم، ومبارك بشير، والطاهر ابراهيم والحلنقي، إلى آخر القائمة العظيمة -والدجى يشرب من ضوء النجيمات البعيدة-.
ولو قدر لمحمود أن يمضي أكثر عمقاً في وضوح رسالته من محطة الاحتجاج إلى رسم خارطة المجتمع الجديد لغير على نحو أكثر مضاءة موازنات عديدة في عالم الإبداع والاحتجاج، ومع ذلك، فإن قيمة محمود تظل أنه قد عبر بصدق عن طموحات الشباب وأصبح رمزاً من رموز الإبداع والإحتجاج الجماعي وكون حزباً من الناقمين والرافضين والمهمشين وضحايا القهر، وقد استطاع أن يوظف رصيده بشكل لم يستطعه أي من المبدعين الشباب الآخرين وأخذ مكانه عن جدارة ودفع ثمن عناده، وحينما رحل، كان رحيله لحظة كاشفة وإعلان صريح لرفض مجموعات وقطاعات مهمة من الشباب لمشروع الإسلام السياسي، ولم تسعف النظام خبراته في التحكم في الأحياء وجنازات قادة المجتمع التي تأتي من الخارج من إخفاء عورة النظام، ولم تستطع أجهزة الإعلام تقديم تفسير صادق لظاهرة محمود والتعاطف والإهتمام الشعبي الكاسح، والعدوى التي انتقلت من الشباب لسائر المجتمع، وإذا كان الشباب السوداني اليوم يمثل أكثر من 43 % من السكان، وإن أكثر من 70 % من خريجي الجامعات عاطلون عن العمل، وأن أكثر من 70 % من الميزانية السنوية تستخدم في تمويل الحروب العبثية، فبإمكاننا أن ندرك أن قضية الشباب السوداني واهتماماته ومزاجه والتوجهات والتيارات التي ستقود مسيرته الآن وفي المستقبل تشكل مستقبل السودان كله، وقد أبرز رحيل محمود جانباً من جوانب هذه الصورة، وهي رسالة للجميع حاكمين ومعارضين، على ضفتي النهر. إن قضية الشباب كانت الأكثر وضوحاً وهو ما أزعج النظام وعلينا التأمل عميقاً في هذه القضية لأنها ستلازمنا لوقت ليس بقليل.
الخرطوم على وشك استقبال دكتور جون قرنق دي مبيور بعد أكثر من عشرين عاماً من الغياب والحضور معاً، والثبات والنزال ورفع رايات المحرومين من إنسان ولد في ريف مدينة بور، في منطقة وانقلي، وحلم بوحدة السودان وانتقل تأثيره إلى مركز السلطة والحكم في الخرطوم، وفي ترتيبات الاستقبال كان محمود عبدالعزيز فاعلاً وحاضراً ….. نواصل.