سمك ماو في صحراء البندر
بقلم مجدي الجزولي
21 ابريل 2013 – قرأت مؤخرا مقالا بحثيا للبروفسور ثانديكا مكانداواير، علم من أعلام الاقتصاد السياسي الافريقي، بعنوان “العبء الثقيل لحركات التمرد في افريقيا ما بعد الاستعمار: نحو تفسير للعنف تجاه الفلاحين” منشور في دورية الدراسات الافريقية الحديثة (يونيو 2002). قلب مكانداواير النظر في المدارس الرائجة لتحليل الصراعات المسلحة في القارة فأفرد لكل نقدا، التي ترى العنف جنونا ملازما لسكان افريقيا لا تملك تجاهه سوى الصدمة، والتي تعتبر العنف مفردة بارزة من مفردات “الثقافة الافريقية” ومكون ثابت من مكونات النمط الافريقي للاجتماع بحسب كتاب شابال ودلوز الرائج وعنوانه مترجما بتصرف “افريقيا كده: الفوضى كأداة سياسية” (1999) ، ثم التي تعتبر العنف خيارا تأخذ به الحركات المسلحة مستندة إلى تقدير عقلاني للربح والخسارة الاقتصادية.
استبعد مكانداواير المدخل الأول ظاهر العنصرية والثاني لسوء ظنه بالثقافة ورد تدافع الناس المتغير والمتقلب إلى جوهر ثابت عبر التاريخ لا يلحق به التبدل. تفرغ الكاتب من ثم لتقصي الدعوى الثالثة، قائلا أن ميزان الربح لا يكفي لتفسير توالد الحركات المسلحة في القارة. القوى المسلحة المتمردة على سلطان الدولة وإن بدت كذلك أحيانا ليست وحدات استثمارية يسوقها فقط هدف معاظمة الأرباح. في هذا الخصوص تطرق مكانداواير لتصورين سائرين عن دوافع التمرد، نموذج النهب المسلح ونموذج رد المظالم، منتقدا اعتبار النهب قطاعا اقتصاديا مكتملا يخضع للتوازن بين وفرة العمل المسلح والموارد القابلة للنهب وعجز الدولة عن حماية هذه الموارد. وفق هذا التصور لا فرق بين المتمردين واللصوص سوى حجم النشاط ومستوى العنف. يشهد على خطل هذا النموذج، بحسب مكانداوير، أنه ليس من حركة مسلحة تذكر في افريقيا نشأت على أساس من شبكة إجرامية.
محل هذه المداخل اقترح مكانداوير الاعتبار في الجذور الحضرية للحركات المسلحة في الريف الافريقي. باستثناء القوى المسلحة الانفصالية تشترك هذه الحركات في كونها مدفوعة بقضايا حضرية في المقام الأول لا تجد في أغلب الأحيان صدى ريفيا كافيا يمكنها من تحقيق النموذج الناجح للحرب الريفية على المدينة الغالبة، نموذج ماو الشهير حيث يتمثل المحارب الثوري في الريف حال السمك في بحر المستضعفين. عليه، قدر مكانداوير أن غالب التمردات التي تشهد افريقيا عرض للأزمة الحضرية لا الأزمة الزراعية في القارة، ودلل على ذلك بالغياب شبه التام للإصلاح الزراعي عن أجندة القوى المسلحة وسيادة مطالب قسمة الثروة والسلطة. شدد مكانداوير على دافعين أساسين للحرب المصدرة من المدينة إلى الريف: الأول، تجنيد قطاعات الصفوة السياسية للهويات الإثنية في صراعها على السلطة على خلفية تدهور الأحلاف السياسية التي مكنت جيل “التحرير” من ورثة الدولة الاستعمارية؛ والثاني، الأزمة الاقتصادية المتطاولة في القارة ثم برامج الإصلاح الهيكلي التي فرضتها القوى الدولية في شراكة مع الصفوات الحاكمة في القارة لمواجهة هذه الأزمة. قارن مكانداوير في آخر كلمته بين المتمرد الساكن وقرينه الهائم، الأول يسيطر على أراض “محررة” يغزو منها المجاور من مناطق تحت السيطرة الحكومية، والثاني بقاءه في دوام الحركة وسرعتها. نبه البروفسور إلى النزوع المتزايد نحو النموذج الثاني في القارة بحكم النشأة والأجندة الحضرية للقوى المسلحة في افريقيا ما بعد الاستعمار، ثم تضعضعها الآيديولوجي ومشاكل القيادة المزمنة فيها، إلى جانب انقطاعها عن قضايا وأجندة المجتمعات الريفية والتجزئة الإثنية الشديدة في الريف الافريقي. انتهى مكانداوير إلى خلاصة أن التركيب الاجتماعي لطليعة هذه الحركات والتكوين الاجتماعي في الريف الافريقي يفرض على معظم هذه الحركات سياحة البندقية إذا جاز التعبير، “سائحون” بلا حدود.