التمويل الأجنبى للمجتمع المدني الوطنى واتهامات العمالة الأمريكية !
بقلم علاء الدين بشير
الخرطوم 5 يناير 2013 – ضمن حديثه للتلفزيون الحكومي الأربعاء 2 يناير الماضي ازاح النائب الاول للرئيس، على عثمان محمد طه، الستار عن الدوافع الرسمية التى حدت بالسلطات إلى ابتدار حملة لأغلاق المراكز الثقافية ومنظمات المجتمع المدني، والتي تم منها حتى الآن اغلاق مركزي الدراسات السودانية والخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية. وتلخصت هذه الدوافع (الرسمية) فى تلقي هذه المراكز (حسب علي عثمان) أموالاً من جهات أمريكية لتغيير النظام او خلخلته وان هذه الجهات الامريكية ماهي إلا واجهات للمخابرات الامريكية، و أضاف : “كلنا يعلم أن هناك كثيراً من اجهزة المخابرات الدولية وقوى النفوذ العالمي تتخذ منظمات المجتمع المدني واجهات لتمرير اجندتها وهذا ليس بسر”.
و وعد النائب الاول للرئيس بنشر اسماء المنظمات السودانية (التى ضنّ عليها بصفة الوطنية) التى تلقت اموالا امريكية، للرأي العام كما وردت فى كتاب قال انه صدر فى الولايات المتحدة الامريكية.
اول ما تجب الاشارة إليه ان مبدأ تلقي منظمات المجتمع المدني أموالاً من الخارج هو امر مشروع وفقا للأعراف الدولية، وحتى للأعراف الوطنية، فحتى قانون العمل الطوعي لعام 2006 المعيب و المرفوض من قبل المجتمع المدني والسياسي، لم يمنع الحصول على تمويل أجنبي، ولكنه اشترط الحصول على موافقة الوزير المسؤول أولاً، وطبقا لمدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة والتنمية البشرية الذي تم اغلاقه الاسبوع الماضى، الباقر العفيف، فان الوزير السابق، احمد هارون وعد قادة منظمات المجتمع المدنى بعد احتجاجهم على المادة التى تقيد الحصول على تمويل من الخارج بموافقة الوزير فى القانون، بأنه لن تفعّل المادة ضد المنظمات ولكنه لن يستطيع حذفها من القانون. وقال مدير ادارة المنظمات، بمفوضية العون الانساني، علي آدم حسن لصحيفة (المجهر السياسى 26 أغسطس2012 ضمن تقرير للصحفى،محمد محمد عثمان) “إن القانون أصلا يمنع تمويل المنظمات الوطنية من جهات خارجية، إلا اننا تسهيلا لعمل المنظمات الوطنية لا نتمسك بهذا الامر تجاوزا، ونترك المنظمات تأتي بالتمويل من الخارج لتمويل مشروعات من جهات خارجية” ثم تابع “وهذه المشروعات لا تتم إلا عبر مراجعة المفوضية وموافقتها عبر اتفاقية فنية بين الطرفين فى القطاع المعني سواء كان فى التعليم أو الصحة أو غيرها من القطاعات”.
ظلت تلك المادة موجودة فى القانون واستمرت المنظمات تتلقى تمويلا خارجيا منذ العام 2006 و حتى العام 2012 .وقانون العمل الطوعي للعام 2006 كان اول قانون اختبر به الشعب السودانى نزاهة النظام والتزامه بالدستور الانتقالى للعام 2005 و الذي اشتمل لأول مرة على وثيقة كاملة للحقوق كفلت الحق للمواطنين فى انشاء الجمعيات و المنظمات المدنية و السياسية، واحتاط الدستور لأحابيل النظام فى التفافه على الحقوق الدستورية و مصادرتها عبر القوانين باستحداث عبارة: (وفقا لما ينظمه القانون فى مجتمع ديمقراطى)، حيث الزم المشرّع بتفصيل قانون يغلّب جانب الحرية والسعة فيها على القيد، حيث ان المبدأ الاصيل فى الدساتير ان الحقوق و الحريات لا تضار بالتشريع وانما تزدهروتتسع به. وقد رفعت منظمات المجتمع المدني دعوى دستورية ضد القانون في المحكمة الدستورية فى ذات العام الذى وضع فيه القانون ولكنها جمّدت ولم يبت فيها حتى اليوم كأكثر الأدلة سطوعاً على سوء النية وعدم استقلال المؤسسات المعنية بالعدل والقضاء فى البلاد .
ويتضح من ما سبق أن القيد على التمويل الاجنبى للمنظمات ليس موقفا مبدئيا لدى النظام الحاكم فى السودان ولكن القيد واقع على المنظمات غير الموالية له وعلى توظيف تلك الاموال فى ما يراه النظام خطرا على سيطرته وبقائه فى الحكم و بالتالى دمغ المناوئين له بأنهم متورطون فى انشطة تهدد الامن القومى المفصّل على مقاس نظامهم و احيانا على اشخاص فى النظام وهذا مبحث اخر ناتى له فى حينه . وبحسب ناشطين فى المجتمع المدني غير الموالي للنظام، فقد تعرضت منظماتهم للتضييق من قبل السلطات قبيل انتخابات العام 2010، فيما يتعلق بالتمويل الخاص بالتدريب على رفع الوعى الانتخابى للاعلاميين والنشطاء. ويربط البعض الآن بين اغلاق المراكز الثقافية والتضييق على النشاط المدني العامل من اجل التوعية والتنوير بتزامنه مع ارهاصات الدستور الجديد الذي يسعى النظام الى طبخه بليل، وتفصيله على حسب مفاهيمه الايدولوجية و مصالحه المادية الضيقة، واقصاء الآخرين . ومع ان النائب الاول للرئيس قال ان الكتاب الامريكى ذكر ان التمويل الغرض منه (تغيير النظام وخلخلته)، الا ان محرري صحيفة (سودان تربيون) الالكترونية نفوا بعد اطلاعهم على النسخة الالكترونية للكتاب ان يكون قد اشتمل على ذلك.
و تبرز حاجة المجتمع المدني الى التمويل الاجنبي، بصورة ملجئة، في ظل الوضع الراهن، الذي فاق فيه النظام الحاكم من حيث استبداده وقسوته وتضييقه على شعبه – وخاصة المعارضين له – دولة الاستعمار الاوربي، فتجفيف الموارد الذي يتبعه النظام مع خصومه طال حتى المجتمع المدني الذي يمارس دوره فى التوعية والتنوير، وليس له اجندة عاجلة لاسقاط النظام، وان كان يرمي على المدى البعيد، وعبر تغيير المفاهيم – سلميا – إلى تغيير وتحديث كامل البنية و النظم السياسية التى انتجت النظام القائم و فرّخت الاستبداد بأشكاله المختلفة . وقد بلغ الصلف وقهر واذلال الخصوم من المثقفين و المعارضين السياسيين عند النظام ان لاحقهم فى ارزاقهم و ارزاق ابنائهم لدرجة الملاحقة لمن قرر منهم أن (يفرش) ذرة بالملوة فى سوق كادوقلي، وذلك الآخر الذي اتجه الى عمل (كشك مديدة) فى أم درمان.
التمويل ومصادره الاجنبية لا يعنى تبعية من تلقوه الى الجهات المانحة، كما حاول النائب الاول للرئيس ان يوحى بذلك حينما قال: “وهناك الآن كتاب عن الولايات المتحدة يسمي (rogue state) يتحدث عن ارتباط المخابرات الامريكية بتمويل انشطة منظمات المجتمع المدني في العديد من البلدان الافريقية والعربية، بل ذكر بالتحديد اسم بعض المنظمات السودانية، ولا اقول الوطنية التي تتلقى اموالا”. فالمعلوم من الامر بداهة ان المنظمات الوطنية تتقدم بمشاريعها التى تريد تنفيذها فى بلدانها ومجتمعاتها الى الجهات المانحة ولا احد يملي عليها مشروعا بعينه، وانما يتم اختيار المشاريع والبرامج المراد تطبيقها من قبل المنظمات الوطنية بناءً على حاجة مجتمعاتها وقيمها والقناعات الفكرية والسياسية للعاملين في المجتمع المدني الوطني، فهم ووفقا لقناعتهم تلك يرون ان خط التطور والتحديث في مجتمعاتهم وتوصيل الخير اليها يتم عبر هذا الطريق، ولا تنفذ هذه البرامج عبر خلايا ماسونية، وانما تقام فى شكل ندوات او ورش عمل مفتوحة و معلن عنها قبل قيامها بأيام وتكون محضورة اعلاميا احياناً كثيرة، بل و يكون المشاركون فيها فى احيان كثيرة من اقطاب النظام الحاكم، او من ذوي القربى الفكرية له او كتبا مطبوعة و مطروحة فى ساحة المقارعة الفكرية الحرة او فيلما ذو محتوى هادف او حفلا موسيقيا راقيا غير مبتذل او برامج للتدريب و رفع قدرات الشباب و وعيهم . كما ان هذه الجهات المانحة ولأنها مساءلة من حكوماتها وامام دافع الضرائب في بلدانها، فانها تنشر اسماء المنظمات التى دعمتها والمبالغ التى سلمتها لها والبرامج والمشاريع التي تريد انفاذها فى بلادها بالتمويل الذي تلقته منها. و منظمات المجتمع المدنى الوطنية أغلبها تقيم جمعياتها العمومية بحضور ممثل للحكومة وتخضع حساباتها للمراجعة القانونية وتعلن للجهات الحكومية حجم المبالغ التى استلمتها وأين صرفتها.
اما بخصوص ما يحاول ان يصور من ارتباط للمخابرات الامريكية بتمويل منظمات المجتمع المدنى، ففى تقديرى ان هذا الربط كان من ادوات التشويه والاغتيال السياسي للخصوم في مراحل سابقة ابان الحرب الباردة وما بعدها، اما الآن وبفضل الله اولاً، ثم بفضل انتشار الوعي النسبي وهجرة السودانيين الكثيفة فى السنوات الماضية الى الولايات المتحدة خاصة و الدول الغربية عامة ، فان مثل هذه الدعاوى ما عادت تثمر ودوننا الزعيم الراحل الدكتور جون قرنق وكيف ان آلة الدعاية الرسمية ظلت طوال 21 عاماً ترفعه للسودانيين على انه مخلب الغرب والصهيونية العالمية ولكننا رأينا جميعا كيف كانت الحشود التى استقبلته فى الخرطوم وليس في جوبا.
البداهة تقول انه لا توجد جهة استخبارية في العالم تتعامل مع المجتمع المدني تأتي وتقول له انها مخابرات، والمجتمع المدني حينما يتقدم بطلبات للتمويل يتقدم الى منظمات لها وجودها الحسي والمعنوي وسمعتها الحسنة فى بلدانها منذ عشرات السنين، ولا يوجد مبرر منها للسعي والتنقيب حول صلة هذه المنظمات بأجهزة المخابرات فى بلدانها وحتى وان وجدت هذه الصلة فما الفرق فى التحليل الاخير بين وزارة الخارجية الامريكية او الكونغرس او المعونة الامريكية او مركز الدراسات الاستراتيجية و الدولية بواشنطن او مركز كارتر الذى اعطى مشروعية نسبية لتزوير الانتخابات السابقة مثلا و بين المخابرات الامريكية؟، اليست كلها مؤسسات للدولة الامريكية وعاملة من أجل حماية المصالح العليا للأمة الامريكية، أو كما يقولون هناك؟، ما الفرق بين هذه المؤسسات الامريكية وبين وزارة الخارجية البريطانية او البرلمان الاوربى او الاتحاد الاوربى او غيرها من المؤسسات الغربية طالما قالت ان جزءا من حماية مصالحها العليا هو رعاية قيم حقوق الانسان والديمقراطية والحكم الراشد وبناء القدرات واغاثة المتضررين من الكوارث الطبيعية والاوبئة والامراض ..الخ .. (والكضاب وصلوا لي خشم الباب) كما يقول المثل السودانى الدارج !! . وقادة المجتمع المدنى و العاملون فيه على تفاوت بينهم، بعضهم عاش فى الغرب ودرس فيه، يعرفون جيدا مثالب الحضارة الغربية ووجهها الدميم، ويختلفون معها بمقدار ويرفضون نزعات الهيمنة والوصاية ويناهضون ضمن نشاطهم الفكري والسياسي وعملهم المدني في مجتمعاتهم الاسس التى قامت عليها الرأسمالية الغربية، ولكنهم فى المقابل ايضا واعون للقيم المشرقة فى الحضارة الغربية، بل ان بعضهم يتبنى مشروعا للحداثة والتغيير مختلف فى جوهره مع المفاهيم الغربية للحداثة والتطور، هم قبلوا اليد الممدودة من الغرب فى عالم انفتح على بعضه و يمضى حثيثا ليكون حكومة واحدة و نحن مشتبكون معه شئنا ام ابينا فهذا قدرنا المقدور ومن جهات قالت لهم نحن حلفاء لكم من غير وصاية ولا املاء بل و انها لها مصلحة فى ذلك حيث اننا مصنفون دولة فاشلة و اتفق لدى الغربيين ان الخطر القادم اليهم من البلدان الفاشلة اكبر من التهديد الذى كانت تمثله لهم دول الكتلة الشرقية فى السابق وبالتالي تلقي التمويل منهم ليس عيبا وانما العيب في التنازل عن الاجندة الوطنية الحقيقية، وهي استعادة الديمقراطية والحرية والعدالة وايقاف الحروب الاهلية وكفكفة آثارها وتعزيز الوحدة الوطنية الحقيقية والعمل من أجل كرامة الانسان السودانى و هذا من مهام المجتمع المدنى و المراكز الثقافية التى تتعرض الان لهجمة شرسة من نظام المؤتمر الوطنى الحاكم .
اما اذا كان النائب الاول يقصد حين ربط المجتمع المدني بالمخابرات الامريكية انه – أي المجتمع المدني – ضالع فى انشطة تخابر وتجسس، فوثائق ويكلكس وقبلها التقارير في كبريات الصحف الامريكية والاوربية كشفت عن من هم المتخابرون الحقيقيون لصالح الغرب ومن تخلى عن المستجيرين به من (اخوة الدين)، ومن يريدون خطب ود اسرائيل ويوّسطون لها الوسطاء الدوليين، وليس ببعيد عنا ضربة مصنع اليرموك وما صرح به الناطق الرسمى باسم الجيش حول الاختراق في الأجهزة الامنية والعسكرية للنظام . وعلى التحقيق ان الكثيرين لا يرون فى التعاون من اجل الحرب على الارهاب عيبا اذا ما كان عودة الى الحق و مراجعة للاخطاء و التصورات المعادية للسلام العالمى و فى سياق رؤية كلية للاصلاح نابعة من الذات و ليست محض مخاتلة و اتقاء للعصا الامريكية و الغربية الغليظة.!!.. هل يمكن لعاقل ان يتصور ان تخرج معلومات امنية او عسكرية او اقتصادية لأى جهة غربية من المراكز الثقافية فى الخرطوم ومن المثقفين القائمين عليها او الذين يرتادونها؟. ليس لنظام الانقاذ مشكلة مع المخابرات الامريكية فيما يبدو لنا، فهي لا تسعى لتغيير نظامهم كما قال على عثمان، بل هي كانت ولا زالت السبب – الظاهر – ببقائهم فى الحكم حتى الآن عبر التوصيات التى ترفعها للادارة الامريكية عن التعاون الجيد للنظام السوداني في محاربة الارهاب وكيف انه لا غنى عن المعلومات التي يوفرها النظام السوداني واجهزته الاستخبارية من اجل حماية المصالح الامريكية فى المنطقة، بل ويرى بعض المحللون ان امريكا كانت ولا تزال من الناحية العملية وراء تعطيل تنفيذ مذكرة القبض على الرئيس البشير رغم تصريحاتها المؤيدة لها ظاهريا.
ان الدمغ بالعمالة للامريكان او (الانبطاح) لهم كان من الاتهامات المستمرة التى تكال للنائب الاول للرئيس وشيعته الذين رافقوه فى مفاوضات السلام من داخل نظامه وحلفائه المقربين، لذلك كان الأجدر به ان يربأ بنفسه عن المزايدة فى هذا الاتجاه، فاعتماداً على منطقه هذا فانه من اكبر المتعاونين مع المخابرات الامريكية، نتيجة قيادته لمفاوضات السلام مع الحركة الشعبية فى كينيا وتوقيعه على اتفاق سلام معها، و من عجب ان القيادى بالمؤتمر الوطنى ، قطبي المهدى قال عنه فى حوار مع صحيفة (الشرق الاوسط) فى سبتمبر من العام الماضي “انه (أي اتفاق نيفاشا) وضع من قبل المخابرات الامريكية ومراكز الدراسات الاستراتيجية الامريكية” هذا الاتفاق الذي أعطى النظام الحاكم ستة اعوام اضافية فى الحكم باعتراف دولي ووفر له فرصة ثمينة من اجل رتق ما انفتق من ثيابه ولكنه خاتل كعادته، منتظرا الطوفان ! .. فهل نلوم النائب الاول للرئيس على عثمان محمد طه على توقيعه اتفاق السلام ام نشكره عليه .. وهل نلوم منظمات المجتمع المدنى الوطنية على استنادها على المؤسسات الغربية فى التمويل من اجل خدمة مواطنيها الذين افقرتهم ماديا و فكريا حكومة النائب الاول للرئيس ام نشكرها على صنيعها ذلك ؟! .