السودان وجنوب السودان على شفا حرب طاحنة: مطلوب اعادة تقويم عاجلة للتدابير و الضغوطات الدبلوماسية
اريك ريفز*
5-2012
السفر إلى جنوب السودان وجبال النوبة في يناير 2003، بعد اشهر من توقيع اتفاقية وقف اطلاق النار بين الشمال والجنوب، قناعة مخيفة و حتمية كئيبة هذا ما قاله لي كل مسؤول تحدثت معه في الجيش او المجتمع المدني، بما في ذلك جون قرنق، الزعيم الراحل للجيش الشعبي لتحرير السودان ونائب الرئيس السوداني: إذا اندلعت الحرب مجددا في السودان فستكون أكثر الحروب تدميراً.
وكانت هذه ملاحظة غير عادية من اشخاص خرجوا لتوهم من حرب أهلية أودت بحياة أكثر من مليونين شخص وشردت ما بين 4 و 5 ملايين مدنيين. أن هذا التوقع لم ينبع من روح عدوانية ولكنه أمر واقع، شيء ينبغي أن يكون واضحا لمن يفهم طبيعة القوات العسكرية في الشمال والجنوب، وسير الحرب من قبل الحكومات الشمالية، بما في ذلك النظام الحالي للجبهة الوطنية الإسلامية / حزب المؤتمر الوطني بين 1983 و 2005. في الأسابيع الأخيرة، تلك الهواجس الرهيبة من عام 2003 على وشك أن تصبح حقيقة لا يمكن السيطرة عليها.
لطالما أدركت قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان / الجيش الشعبي – وبحسب العديد من السودانيين الذين تحدثت معهم في العقد الماضي – أنه لن يكون هناك أي ضمانات دولية للترتيبات الأمنية في اتفاق السلام الشامل التي أنجزت في عام 2004 ووقعت أخيرا في 9 يناير 2005. وكانت الحركة الشعبية مصرة على الحفاظ على جيشها لأنه في حال انتهك نظام الجبهة القومية الإسلامية / حزب المؤتمر الوطني السلام، لن تقدم أي دولة أخرى مساعدة ذات معنى أو الحماية للجنوب.
اللحظة التي كانوا يخشونها بدت قريبة. في الأسابيع القليلة الماضية، صد الجيش الشعبي مرارا وتكرار هجمات القوات المسلحة السودانية (الشمال) على حدود مستوطنة تشوين بولاية الوحدة في جنوب السودان. اثناء عملية دفع القوات المسلحة السودانية نحو الشمال، استولي الجيش الشعبي موقتا على مركز صناعة النفط الحرج في هجليج التي تقع في منطقة حدودية معقدة ومتنازع عليها (يطلق معظم الجنوبيون على هجليج اسم بانثو). وكان القتال ذو أهمية خاصة عقب استيلاء الخرطوم على منطقة آبيي الكبيرة غرب هجليج تماما – وهي منطقة أخرى متنازع عليها وذات اهمية كبيرة للجنوبيين كانت هجليج قد دخلتها عبر اتفاقية السلام الشامل للجنة ترسيم الحدود.
وانسحبت قوات الجيش الشعبي من هجليج بناء على طلب من المجتمع الدولي (أو وبضغط من القوات المسلحة السودانية وفقا لخرطوم،)، ولكن الوضع الآن متفجر. اعتبارا من اليوم، يقصف نظام شمال السودان علنا أهداف عبر حدود هجليج. انتصار الجيش الشعبي السهل في هجليج اهان نظام الجبهة القومية الإسلامية / حزب المؤتمر الوطني، وخاصة الجنرالات المتعسكرين. لهجة غاضبة وعنيفة تهيمن على كل التصريحات، على الرغم من المخاوف حول تعريض البنية التحتية في أحد المواقع التي تنتج نصف ما تبقى من إنتاج النفط في شمال البلاد. (سبق وذكر الكثير من الاضرار بسبب قصف غير دقيق من قبل القوات المسلحة السودانية.)
طالبت في البداية القيادة في جوبا وجنوب السودان كشرط انسحاب ان تضمن الأمم المتحدة أن هجليج لن تستخدم لشن المزيد من الهجمات على الجنوب. (الهجمات الرئيسية التي تمت مؤخرا في جنوب السودان ليست هي الأولى في الأسابيع الأخيرة، وكان يرافقها زيادة مطردة في الهجمات الجوية على الاراضي الجنوبية) ولكنه لم يتم متابعة امر خلق منطقة عازلة للأمم المتحدة بين القوتين. صراع آخر يبدو لا مفر منه بدون انخراط دبلوماسي ذات معنى، الامر لم نشهده حتى الان.
وقد قامت الحرب الأهلية الطويلة في السودان بين العصابات المتمردة والجيش الوطني مع مساعدة كبيرة من الميليشيات العميلة. إذا كان القتال الذي دار مؤخرا يعجل الحرب بين شمال وجنوب السودان، فسيكون الصراع بين قوتين عسكريتين شديدي القوة. فإن الجنوب لديه ادواة لوجستية واتصالات ونقل أفضل مما كان لديه خلال النزاع 1983-2005، في حين أن القوات المسلحة السودانية ستقاتل مجددا بعيدا عن الخرطوم. وستواجه القوات المسلحة السودانية صعوبة أكبر في تجنيد المجندين قسرا في مناطق كانت قد اعتمدت عليها سابقا، بما فيها النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور وجنوب السودان نفسها، لأنها تخوض حاليا حرب في هذه الاراضي.
ولربما الأكثر أهمية ،هو أن شعب جنوب السودان يشعر نه اذا جاءت الحرب سوف يقاتل من أجل البقاء على قيد الحياة، نظرا لطموحات الخرطوم العسكرية غير المقيدة. في المقابل معنويات الجيش الشعبي أعلى بكثير من القوات المسلحة السودانية المنتشرة فوق طاقتها. وهناك تقارير موثوق بها عن انقسامات داخل القوات المسلحة السودانية حول قرار الذهاب الى الحرب مع جنوب السودان. وعلاوة على ذلك كل الدلائل تشير إلى أن القوات المسلحة السودانية تضررت بشدة من قبل الجيش الشعبي لتحرير السودان (الشمال) خلال أشهر من القتال الضاري بجبال النوبة في جنوب كردفان. مما دفع الخرطوم الى زيادة الاعتماد على القصف و قذائف المدفعية بعيدة المدى وقذائف الصواريخ المتطورة
” مواجه بالأسلحة “، و منع المساعدات الإنسانية و تجويع الشعب في جبال نوبة باعتباره وسيلة للقضاء على التمرد. لكن الدلائل تشير الى تزايد الهزائم الساحقة للقوات المسلحة السودانية في مواجهات عسكرية مع الجيش الشعبي (الشمال) ما له تأثير سلبي كبير على القوة العسكرية الاكبر.
خلال العام الماضي انتشر القتال من منطقة أبيي الى جنوب كردفان والنيل الأزرق باتجاه المناطق الحدودية، و في كل مرة كانت الخرطوم هي المعتدية بوضوح والمقتنعة كليا بأنه يمكنها الاستيلاء على حقول النفط الجنوبية بطريقة أو بأخرى أو إنشاء واقع على الأرض من شأنه أن يعزز موقفها التفاوضي. وبدأت القوات المسلحة السودانية (أو بالأحرى استأنفت) الاعتداء الجوي العشوائي على المدنيين في نوفمبر تشرين الثاني 2010 قبل وقت قصير من الاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب. هذا ما ادى الى استعجال القصف في الاشهر والاسابيع الاخيرة كذلك مؤخرا على بانتيو، وهي مدينة كبيرة وعاصمة ولاية الوحدة، ما يشير إلى استعدادها لمهاجمة المدنيين على نطاق واسع.
اما القيادة في جوبا فهي مذهولة ومستاءة. في حين تخشى بالطبع التهديد العسكري الذي يمثله الخرطوم. والحركة الشعبية لم تتوقع أن تُهجر دبلوماسيا خلال مفاوضات السلام، مما سنح للخرطوم باختيار عناصر اتفاقية السلام الشاملة التي تريد تنفيذها من التي ستتجاهلها. ولفهم الأوضاع الوخيمة الحالية يجب علينا أن نتذكر أن المجتمع الدولي لم يضمن حسن نية مشاركة الخرطوم في المفاوضات حول تحديد وترسيم حدود الشمال الجنوب وفقا لشروط صريحة لاتفاق السلام الشامل.
يعلم رئيس جنوب السودان سلفا كير أن بوصفه قائدا لأمة فقيرة جديدة لها القليل من الأصدقاء، فيتوجب عليه وضع الكرة الدبلوماسية في محكمة العدل الدولية أذا أراد أن تنجح المفاوضات مع الخرطوم حول الحد من مستوى العنف الحالي.
ولسوء الحظ تم رفض طلبه للمساعدة في تهدئة القتال في منطقة تشوين هجليج. وبدلا من ذلك أتهمت الامم المتحدة والاتحاد الافريقي والاتحاد الاوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة كير والقيادة السودانية الجنوبية بالعدوان العسكري على الأراضي السودانية الشمالية، بالرغم من أن كل ادلة مراقبي الأمم المتحدة في بعثة السودان والصحفيون في المنطقة وعمال النفط أشاروا الى أن الخرطوم هي المعتدية الواضحة في كلتي الهجمات الكبرى على تشوين.
و تأتي بعض الارتباكات في التقارير الدولية بسبب عدم اتباع مسار النزاع حول منطقة أبيي الحدودية، والتي استولت عليها الخرطوم في العام الماضي. بعد اعتداء الخرطوم العسكري في بلدة أبيي في مايو 2008 اقتنعت القيادة الجنوبية أنه لا يمكن حل هذه المسألة عسكريا وخلصت الى ان التحكيم “النهائي والملزم” في قضية حدود آبيي أمر اساسي، ونجحت في وضع القضية أمام المحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي. وتم قبول الحكم بالرغم من ان الكثير من جوانبه لم تكن لصالح جوبا. واستيلاء الخرطوم للاراضي السنة الماضية أنتهك قرار المحكمة “النهائي والملزم” الصادر في يوليو 2009 والذي حدد المنطقة التي سيقام فيها الاستفتاء الحرج لتقرير مصير أبيي. وهذا الإلغاء لبرتوكول رئيسي يثير الجدل حول التزام الخرطوم باتفاقية السلام الشاملة.
والجدير بالملاحظة أن حكم المحكمة الدائمة للتحكيم لم يؤدي الي تسوية حول حدود “1 يناير 1956″ فضلا عن انه لم يكن لدى المحكمة تفويضا لاخذ مثل هذا القرار الذي كان من المتوقع التوصل اليه في مرحلة ما بعد مفاوضات اتفاقية السلام الشاملة بين جوبا والخرطوم. ونتيجة لشعورهل بغياب ضغط دولي حقيقي،لم تشارك الخرطوم في مفاوضات حسن النية حول حدود الشمال / الجنوب التي تتقدم بشكل مطرد نحو الجنوب منذ عام 1956. في الواقع تستخدم الخرطوم قواتها العسكرية لمنع ترسيم حدود المناطق في آبيي والتي سبق أن حددت، كما يعترف بها الزعماء الدوليون بشكل نادر. وحتى الآن واجه معظم الجنوب الاستنكارات من طرف واحد لتوغلها في هجليج، من قبل وزارة الخارجية الأميركية، ووزير المملكة المتحدة لأفريقيا، ورئيس الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية، والاتحاد الأفريقي. هذه الأطراف الدولية إلى جانب مجلس الأمن الدولي قد صمتوا عن الاستيلاء على منطقة أبيي على الرغم من أنه كان يفترض عليهم الحكم على موقع الحدود بين الشمال / الجنوب، وستبقى هذه القضية على طاولة المفاوضات طالما أن أبيي لا تزال تحت احتلال الخرطوم. تشجع هذه الأحكام القطعية دون قصد ولكن بشكل فعال النظام على البقاء متعنتا في أي مفاوضات في المستقبل بشأن موقع الحدود.
اقترحت النروج في احدى البيانات الدبلوماسية القليلة والحساسة خلال الأزمة الحالية حدود مشتركة وبعثة مراقبة ما يشبه اقتراح سابق قد أحبط من قبل الخرطوم. ولا تتمنى جوبا اكثر من مهمة JBVM فعالة ومتينة. وحدهاالخرطوم تستفيد من الحدود الغامضة والقدرة على إبراز القوة العسكرية من دون عوائق واضحة. وسمحت الحدود الغامضة أيضا للشمال ببناء خط أنابيب نفط سرية في هجليج بقدرة سحب قد تصل الى 25،000 برميل في اليوم من النفط الخام في حقول النفط الجنوبية.
أن التوقعات بالنسبة لشمال وجنوب السودان قاتمة للغاية، وليس هناك أي دليل على قوى مضادة لردع الخرطوم مرة أخرى من توصيفها الحالي للقتال على أنه “غزو جنوب السودان السافر لهجليج ” — ” غزوا” يحتاج الى رد عسكري ضخم. أذا كان هناك أي فرصة للسلام فيجب أن ينتهي لوم جوبا والخرطوم بالتساوي. ومما لا شك فيه أن احتمالات تغير نمط العقود الطويلة الماضية يبدو صغيرا جدا مقارنة مع احتمالية نشوب الحرب.
وفي الوقت نفسه تحتاج بعثة الامم المتحدة في جنوب السودان الى معدات نقل ولوجستية أفضل من أجل تأكيد أعادة نشرها بسرعة أكبر، ويجب أن تشمل فريق يراقب ويتحقق من الحدود على غرار ما اقترحته النروج.
قد تقاوم الخرطوم وتجعل عملية الانتشار مستحيلة في العديد من المناطق؛ يجب تعميم هذه الحقيقة بشكل أفضل. وعلى بعثة الامم المتحدة أن تكون خالية من التلاعب السياسي للأمم المتحدة. حاليا مسؤولون السياسة في الأمم المتحدة يخفون معظم النتائج التي توصلت اليها البعثة على الرغم من أنها توضح حقيقة تقارير الجنوبيين والحركة الشعبية حول حدوث العمليات العسكرية. ان سياسة الأمم المتحدة التي تقمع التحقيقات والملاحظات ذات الأثر المباشر في تحديد مسؤولية الوضع العسكري الحالي هي سياسة غير مسؤولة بشدة.
ولبدأ ترسيم الحدود بشكل جدي ستكون هناك حاجة الى التزام دبلوماسي كبير، يليه مباشرة ترسيم أي جزء من الحدود، و يجب أن تبدأ الأمم المتحدة بترسيم الحدود كوسيلة لخلق خط دفاع ذا مصداقية وفعالية على طول الحدود الشمالية الجنوبية لمنع أذا أمكن أعمال الخرطوم العسكرية العدوانية المستقبلية على الجنوب.
ومن المرجح ان لا يتم الاخذ باي من هذه التدابير نظرا لتعنت الخرطوم الذي تستخدمه لتبرير اللامبالاة الدبلوماسية. ولكن مسؤولية الحرب لن تقع على الخرطوم وحدها بل سيشاركها المسؤولية زعماء العالم الذين اختاروا الطريق السهل حتى مع تعرض حياة الملايين للخطر.
*اريك ريفز هو استاذ في كلية سميث. يكتب منذ اكثر من عقد عن السودان محليا ودوليا.
و هو مؤلف يوم طويل من الموت: اللحظات الأليمة في عمليات الإبادة الجماعية في دارفور[
“A Long Day’s Dying”: Critical Moments in the Darfur Genocide.]