الصادق المهدي يدعو المؤتمر الوطني للحوار من اجل هندسة نظام جديد
بسم الله الرحمن الرحيم
الله أكبر ولله الحمد
خطبة الجمعة
25 شوال شعبان 1432هـ الموافق 23 سبتمبر 2011م
التي ألقاها الإمام الصادق المهدي بمسجد الهجرة بودنوباوي
الخطبة الأولى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.
سبحانه وتعالى كرم الإنسان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) . وأراد له أن يكون حراً (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) . وأوجب له العدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) . وأراد المساواة بين الناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) . وأراد له تنمية الموارد المادية (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) – أي جعلكم عمارها. وأراد له الرعاية الاجتماعية (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) . هكذا أراد الله للشعوب حقوقاً واضحة وواجبة. الحضارة الغربية خاضت نضالات ضد الطغاة من حكامها وطبقاتها المستبدة فانتزعت حقوقاً لشعوبها في الكرامة والحرية والعدالة والمساواة والتنمية والرعاية الاجتماعية ونادت بها في المواثيق العالمية لحقوق الإنسان. هكذا تطابق في الدعوة لحقوق الشعوب حقائق الوحي وتجارب الإنسانية الصاعدة حقاً: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * َوفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ؟.
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.
حضرنا في طهران في الاسبوع الماضي مؤتمراً للصحوة الإسلامية. وكان دورنا أن نؤكد أن للصحوة الإسلامية دوراً هاماً في كفالة حقوق الشعوب.
قلنا إن للثورة الإسلامية في إيران دوراً تاريخياً هاماً لأنها أطاحت بنظام الشاه الذي أراد أن يسلخ جلدة إيران الإسلامية، فاستردت هوية الشعب الإسلامية، وحررت البلاد من التبعية للهيمنة الدولية، ودعمت الحركات المناهضة للهيمنة الدولية وللعدوان الإسرائيلي.
بعض الناس تصور أن رفع الشعار الإسلامي وحده يكفي ولكننا بالحُجة القوية أكدنا أن الصّحوة الإسلامية تعني كفالة حقوق الشعوب في الكرامة، والحرية، والعدالة، والمساواة، والتنمية، والرعاية الاجتماعية.
وقُلنا لقد شهدت تركيا تحولا تاريخياً عندما أُلغيت الخلافة العثمانية وقام فيها نظام معاد للدين افترض أن بين التحديث والتأصيل تناقضاً. ولكن منذ الثمانينات استطاع حزب إسلامي في تركيا أسسه المرحوم نجم الدين أربكان أن يقود حزباً تعددت أسماؤه ولكن هدفه هو التعبير عن أشواق الشعب التركي الإسلامية. هذا التوجه تصدى له العسكريون في تركيا الذين يعتبرون أنفسهم حماة نظام مصطفى كمال المعادي للدين فأبطلوا مساعيه مما جعل بعض مؤيدي الحزب الإسلامي يؤسسون حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان وفق بين التحديث والديمقراطية والمرجعية الإسلامية فأيده الشعب التركي تأييداً واسعاً واستطاع أن يحجم دور العسكريين، وأن يسترد هوية تركيا الحضارية، وأن يحيى دور تركيا العالمي المستقل من الهيمنة الدولية.
قلنا ونقول إن العالم العربي يشهد ثورات ديمقراطية انطلقت في تونس في ديسمبر 2010م ثم في مصر في يناير 2011م. ثورتان كانتا بريادة شباب استخدم وسائل حركية مبتكرة ونظم احتجاجات كسرت حاجز الخوف واستقطبت تأييدا شعبياً مليونيا. الثورات العربية التي انطلقت في تونس ومصر ثم في اليمن وليبيا وسوريا والبحرين ثورات فجرتها ريادة شبابية ودعمها تأييد شعبي واسع وأهدافها المشتركة هي: الكرامة، والحرية، والعدالة والرعاية الاجتماعية. ولكن في كل هذه البلدان تصدّت حركات إسلامية لنظم الطغيان ونالت من بأسها ما نالت من القهر. لذلك مع تحقيق الحرية في البلدان العربية برزت تطلعات الشعب للتوجه الإسلامي. وفي كل الحالات حرص الإسلاميون أن يؤكدوا أن توجههم الإسلامي يتطلع للوحدة الوطنية ويحرص على أولوية الحرية باعتبارها هي الضامن لحقوق النهج الإسلامي.
فلا تناقض بين المطلب الديمقراطي والتوجه الإسلامي إلا في نظر الغلاة من المسلمين القائلين بتناقض بين الإسلام والديمقراطية وهم في هذا يتفقون مع رؤية غلاة العلمانية. ولكن الحقيقة هي أن نظام الحكم الذي يتطلبه الإسلام يقوم على المشاركة، والمساءلة، والشفافية، وسيادة حكم القانون وهي المبادئ التي تنادي بها الديمقراطية.
هدفنا في مؤتمر طهران هو:
أولا: تأكيد دور الثورة الإسلامية في إيران في الصحوة الإسلامية المعاصرة. وهي صحوة ينبغي أن تؤكد حرص الإسلام على حقوق الشعوب. وأن تدعو لوحدة المسلمين، فالمسلمون كلهم يتفقون على التوحيد، والنبوة، والمعاد، والأركان الخمسة. ولكنّ الشيعة يضيفون لهذه القائمة عقيدتهم في الإمامة وهي إضافة مذهبية تلزمهم ولا تلزم الآخرين.
ثانيا: تشهد تركيا صحوة إسلامية في ظروف مختلفة وهي صحوة توفق بين التحديث والمرجعية الإسلامية وينبغي الاعتراف بدورها الإحيائي للأمة.
ثالثا: الثورات التي يشهدها العالم العربي هي ثورات لكفالة حقوق الشعوب التي غيبها الطغاة ودعمتهم في ذلك الهيمنة الدولية.
علينا الآن أن ندرك وحدة الهدف المنشود في إيران وتركيا والبلاد العربية وسائر أقطار المسلمين.
وعلينا أن:
• نتجنب نهج الذين يرون أن رفع الشعار الإسلامي وحده يكفي وإن أهدر حقوق الشعوب في الكرامة، و الحرية، والعدالة، والمساواة فالإسلام ضامن لهذه الحقوق لا مهدر لها.
• تجنب اعتماد مركز واحد للصحوة الإسلامية فالمطلوب الاعتراف بوحدة الهدف مع تعدد الطرق إليه.
• تجنب موقف غلاة الشيعة الذين يكفرون من لا يرى رأيهم في الإمامة وموقف غلاة أهل السنة الذين يكفرون الشيعة كما يكفرون الصوفية.
هؤلاء مخالب القط لأعداء الإسلام الذين يحرصون على إحياء مرارات تاريخية ويسعون لتفجير الأمة من داخلها.
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.
إن علينا الحرص على هذا النهج لأن فيه مصلحة الأمة العليا ولأنه يستجيب لأمر قرآني: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ) . ولأمر نبوي: (يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ , يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الوالي الكريم. والصلاة على حبيبنا محمد وآله وصحبه مع التسليم. وبعد.
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) وقال النَّبِيَّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ، لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) .
أقول، عندما أطاح الانقلابيون بالنظام الديمقراطي قالوا إنهم جاءوا لإنقاذ البلاد من تدهور فظيع يهدد شتى أوجه الحياة ويهدد وحدة البلاد، ولإنقاذها من العبث الذي أفشل الحرية وأيقظ النعرات العنصرية، ولتحقيق السلام وللأخذ بيد الذين شردوا باسم الصالح العام، ولفك عزلة السودان الدولية، وأخفوا عن الناس هويتهم الحزبية حتى تمكنوا فأعلنوها لتطبيق الشريعة الإسلامية وفق نهج حزبي.
والآن بعد ربع قرن من الزمان إلا قليلا انفردوا فيه بأمر الدين والوطن ماذا حققوا من أهدافهم؟
حققوا:
• تطبيقا فوقيا حزبيا للإسلام كانت نتيجته أكبر انهيار في الأخلاق شهده السودان، وأكبر انقسام في الجسم الإسلامي، وانطلاق تيارات متناقضة: تيار غلاة العلمانية الذين يرون أن التجربة الإسلامية فاشلة وينبغي طرد الإسلام من الدولة ومن الحياة العامة، وتيار غلاة الإسلامويين الذين يكفرون كل مخالف لهم: يكفرون القائلين بالديمقراطية، ويكفرون القائلين بعدم إلزامية النقاب للمرأة، ويكفرون الصوفية، والشيعة، ويهدرون دماء من يخالف نظرتهم العمياء.
• اتفاقية سلام معيبة في هيكلها وفي طريقة تطبيقها ما أدى لانقسام الوطن بصورة ترشحه لمزيد من التشظي.
• تواجه البلاد حالة أمنية غير مسبوقة بيانها: حربا باردة قابلة للاشتعال بين دولتي السودان، وحربا مشتعلة ومستمرة في دارفور، وفي النيل الأزرق، وفي جنوب كردفان، ونذر انفجارها في مناطق أخرى متواترة.
• صدمة اقتصادية صاعقة بسبب اعتماد غير رشيد على موارد البترول التي سوف تنقص بصورة كبيرة نتيجة انفصال الجنوب. والنتيجة الحتمية: عجز كبير في الميزانية الداخلية وبما أن هيكل المصروفات غير مرن لأن 70% منه يصرف على مصارف عسكرية وأمنية وسيادية، فالملجأ المحتوم لمزيد من الاقتراض وفرصه ضئيلة، أو مزيد من الجبايات ومزيد من ندرة العملات الصعبة وبصرف النظر عن التصريحات التخديرية فالمتوقع حتماً مزيدا من التضخم ومزيدا من سَعار الأسعار.
• والبلاد الآن بلا صديق من دول الجوار وأكثرهم يحتل جزءً من أرضنا عينك عينك.
• والبلاد في حالة عداء دولي واسع أضحك ما فيه أنها قدمت شكوى لمجلس الأمن ضد جارتها في الجنوب! أليس هو مجلس الأمن الذي رفضت القيادة السودانية مقابلته في الخرطوم؟ أليس هو المجلس الذي يجرم القيادة السودانية جنائياً؟
• وسابع النائبات أن قيادة البلاد الدستورية ملاحقة جنائيا، ملاحقة سوف تشل حركتها شللا تاما لا سيما عندما تنضم مصر، وليبيا، ودولة الجنوب للجنائية الدولية.
هذه الحالة المتردية أفرزت روشتات علاجية:
• الحزب الحاكم يدعو لمراجعة الأوضاع بعد انفصال الجنوب لإحلال آخرين محل شريكه الجنوبي. مراجعة توسع المشاركة ولا تمس الجوهر على سنة المغني السوداني:
غيب وتعال تلقانا نحن يانا نحن.. لا غيرتنا الأيام ولا هزتنا محنة!
• روشتة أخرى تدعو لها قوى سياسية لا سيما شبابية تستلهم ثقافة الانتفاضة السودانية والعربية المعاصرة لانتفاضة لإسقاط النظام.
• روشتة توحيد الأطراف المسلحة في جبهات الاقتتال والزحف المسلح لإسقاط النظام.
أقول: كل هذه السيناريوهات واردة والحالة المتردية تستدعيها. ولكن:
• علة سيناريو التعديل غير الجوهري أنها تعالج حالة احتضار بحبة إسبري
ن.
• سيناريو الانتفاضة ممكن ولكنها لن تكون في سلاسة أكتوبر، ولا رجب/أبريل، ولا التونسية، ولا المصرية بل في ظروف البلاد الراهنة سوف تكون أشبه باليمنية، والسورية، والليبية.
• سيناريو الزحف المسلح مع الظروف الحالية سوف يكتسب طابع استقطاب إثني يستنسخ في السودان حالة التوتسو والهوتو في رواندا وبروندي، أي احتراب على الهوية.
فماذا نرى نحن؟
نقول: إن ما ينقذ البلاد حقاً من سيناريو الاستمرار في الحالة الراهنة الذي لا تزيده المشاركة الصورية إلا خبالا. وينقذها من فتح الباب أمام المغامرات غير المحسوبة العواقب هو أن يقف الحزب الحاكم مع الذات ويتأمل أنه مهما كانت عزيمته فقد حقت فيه مقولة الإمام علي رضي الله عنه: “عرفت ربي بنقض العزائم”. أنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد. وأن يتأملوا مقولة العز بن عبد السلام: “إن أي عمل يحقق عكس مقاصده باطل”. في كل الملفات حققوا عكس مقاصدهم. من منطلق هذه الوقفة مع الذات، والصحوة الوطنية يمكنهم مخاطبة القوى السياسية السودانية ونحن منهم بقولهم: دعكم من اعتبارات الماضي فهي تفرق بيننا والوطن في خطر شديد فتعالوا للحاضر والمستقبل الذي يمكن أن يجمع بيننا، تعالوا نهندس نظاما جديدا مجديا وقابلا للحياة.
نحن مستعدون للتجاوب مع هذا الخطاب بل قدمنا للحزب الحاكم خريطة كاملة لهذا البناء الجديد وهي خريطة قابلة لتجاوب قومي، وتجاوب جنوبي، وتجاوب كافة فصائل دارفور، وتجاوب منطقتي المشورة الشعبية بل وتجاوب الأسرة الدولية. هذا هو موقفنا وهو موقف غربلته كافة مؤسساتنا ومحل إجماعها.
أحبابي في الله وأخواني في الوطن العزيز.
من أضل ما سمعت أن كياننا السياسي منقسم حول قضية التعامل مع الحزب الحاكم ومع القوى السياسية الأخرى. صدقوني إن مؤسساتنا السياسية في حالة انعقاد مستمر تضع الوطن في حدقات العيون ولا أحد. أقول لا أحد بلع حراساته بحيث ينادي بمشاركة في أجهزة وسياسات هي المسئولة عما جرى لبلادنا. ولا أحد أقول لا أحد ينأى بنفسه عن هندسة نظام جديد ينقل البلاد من دولة الحزب إلى دولة الوطن، وسياسات جديدة توقف الاقتتال وتصلح الاقتصاد وتعقد تصالحاً عادلاً مع الأسرة الدولية. حول هذه الروشتة كياننا السياسي مجمع. فإذا تأكدت استحالة التجاوب مع هذه الخطة فإننا سوف نحدد أفضل الخيارات الأخرى لحراسة مشارع الحق في الوطن.
اللهم أرحمنا وارحم آباءنا وأمهاتنا. واهدنا واهد أبناءنا وبناتنا. وارحم موتانا واشف مرضانا وبارك في رزقنا.
أحبابي، كان السيد برهان الدين رباني معنا في طهران وسألته عن الموقف في أفغانستان فقال إنه مطمئن ولدى عودته اغتيل. كان رأيي ولا زال لا سبيل لبناء نظام سياسي مستقر في ظل الاحتلال الأجنبي فالمطلوب في المقام الأول هو الجلاء عن أفغانستان للأفغان. ألا رحم الله الفقيد، ولكن المأساة سوف تستمر ما لم ترفع قوى الاحتلال يدها من كافة بلداننا. صحيح يقابل هذا أن نلتزم بعدم توجيه عنف سياسي ضدهم. الصفقة العادلة الممكنة هي أن يضعوا حداً لاحتلالهم وأن نلتزم بعدم استهدافهم وإلا فالمأساة سوف تستمر.
أحبابي قوموا لصلاتكم يرحمنا الله أجمعين.