سياحة في عقل حسني مبارك
بقلم/ بدور عبدالمنعم عبداللطيف*
في الحادي والثلاثين من ديسمبر شددت الرحال بصحبة زوجي إلى القاهرة في عطلة أردنا أن نتحرر فيها من رهق الروتين ورتابة الحياة.
عندما وصلنا إلى مطار القاهرة كانت سنة 2011 تلملم أطراف ثوبها متأهبة للرحيل وحزن لحظة الوداع يخيم على القاهرة ويلقي بظلاله على أجوائها.
وإذ اتجهت بنا السيارة نحو المنزل لم يكن يدور بخلد أي منا أن الأيام القادمة ستأتي حبلى بمفاجآت تتقاصر دونها أكثر أنواع الخيال نزوعاً إلى اللامعقول.
ولما كنا نقيم في ضاحية المعادي التي تبعد كثيراً عن وسط القاهرة، فقد أصبح لزاماً علينا استعمال التاكسي في كل تحركاتنا مما أتاح لنا فرصة التعامل مع سائقي تلك السيارات والذين قد تُدهش إذا علمت أن غالبيتهم من خريجي الجامعات وذوي المؤهلات العالية. وتتمدد دهشتك حين تصطدم بذلك الكم الهائل من الثقافة والإلمام بأدق تفاصيل الأحداث في السياسة العالمية التي يتمتع بها هؤلاء الشباب.
أحد هؤلاء السائقين شاب في بداية العقد الرابع ، خريج هندسة مدنية، لم يظفر بعمل منذ تخرجه مما أضطره أن يعمل سائقاً بالأجرة- اتصلت به والدته .. أخبرها بأنه في طريقه لدفع قسط غرفة النوم ..أنهى المكالمة وقال بمرارة تغلفها روح الفكاهة التي اشتهر بها المصريون ” لما اخلص قسط العفش والشقة إمكن اشتري عصاية بالتقسيط أمشي عليها “.
الثلاثاء الخامس والعشرين من يناير لم يكن شأنه شأن أيام الأسبوع العادية فالبلد في عطلة رسمية بمناسبة عيد الشرطة .. الشوارع خالية من المارة .. المحلات التجارية مغلقة .. السكون يغطي المكان .. “مدام ديفارج” تنسج في صمت فصول رواية قد تكون الأشهر في التاريخ المعاصر ..
كنا نتجول في ” خان الخليلي” … كان هناك عدد من السياح معظمهم من جنوب أفريقيا. البائعون يلاحقونهم بكلمات إنجليزية ركيكة التقطوها بحكم تعاملهم مع السياح الأجانب .. السواح منهم من يشتري، ومنهم من يكتفي بالنظر.
من خان الخليلي توجهنا نحو مركز “سيتي ستار ” التجاري والذي يقال عنه أنه أكبر مركز تجاري في الشرق الأوسط.
المول يضم بين جدرانه مختلف أنواع البضائع العالمية غالية الثمن التي لا يجرؤ على الاقتراب منها إلا من ثقلت “موازين” جيوبه ..
في المركز تنتشر مطاعم الأكل بدءاً من البيتزا والهمبورجر وانتهاءً بالوجبات الصينية واليابانية.
هذا “المول” مدينة قائمة بذاتها …مدينة لا صلة لها بالعالم الخارجي حيث تلك البنايات القديمة المتهالكة التي تنوء بحمل شقق سكنية أشبه بـ”علب الكبريت” تتدلى من شرفاتها الصغيرة ملابس غسيل مهترئة وممزقة تمزيقاً يمزق قلوب أعتى القساة. والمفارقة ان ساكني تلك الشقق التي يتكدس أطفالها في غرفة واحدة بالكاد تسع اجسامهم الصغيرة يغبطون أنفسهم على ما هم فيه من “رفاهية” قياساً إلى نظرائهم الذين اتخذوا من المقابر مسكناً جنباً إلى جنب مع الموتى وكأني بلسان حالهم يقول: إذا كان هؤلاء قد ماتوا مرة فنحن نموت كل يوم .. يقتلنا الجوع والفقر والفاقة.. تقتلنا جحافل الأيام الكالحة القادمة وهي لا تأتي لنا إلا بمزيد من البؤس والمعاناة.
في طريق عودتنا من المول متجهين إلى المعادي أخبرنا السائق بأنه شاهد مظاهرات تجوب شوارع وسط البلد تندد بالغلاء والبطالة وتدني الأجور وتنادي بتنحي الرئيس مبارك.
ومنذ الأربعاء تصاعدت وتيرة المظاهرات وبدا جلياً أن مظاهرة يوم الثلاثاء لم تكن إلا مقدمة لملحمة كبرى ستغير حتماً من خارطة العالم والعالم العربي على وجه الخصوص الذي آن الأوان أن يدرك حكامه أن الاعتماد على الأجهزة الأمنية والركون إلى قوانين الطوارئ في قمع شعوبهم قد أصبح لا يجدي في وجود تقنيات الاتصالات الحديثة و الإعلام المرئي.
من خلال البث المباشر لقناة الجزيرة التي كانت وما زالت تواصل عرض الأحداث بمهنية عالية، استطعنا أن نتابع ما يجري في الخارج.
في تلك الأيام تجمع شباب الحي يحملون الهراوات ويسدون الشوارع بالمتاريس حماية للسكان ممن استغلوا الانفلات الأمني فنهبوا المحلات التجارية والمساكن. وقد كان البعض من هؤلاء المعتدين من المساجين الذين فروا من سجن “طرة” عندما أطلقهم الحراس بأوامر من الشرطة والأمن ليحرقوا ويقتلوا ويعيثوا فساداً و تخريباً.
ولما كان سفرنا مقرراً له يوم السبت فقد قمت منذ صباح الجمعة ” جمعة الغضب” بالتخلص مما تبقى من أطعمة ومواد تموينية لأفاجأ بعدها مباشرة بقطع خطوط الإنترنت والموبايل، وهو وسيلتنا الوحيدة لتأكيد حجزنا في الطائرة المتجهة للإمارات والتي بات مشكوكاً أصلاً في وصولها. أما الذهاب إلى المطار فقد أصبح محفوفاً بالمخاطر بعد أن علمنا أن جماعات المجرمين تعترض السيارات وتتعرض لركابها.وهكذا لم يعد أمامنا غير البقاء في مكاننا والاكتفاء بالقليل من الزاد وانتظار ما تسفر عنه المقادير.
في يوم الأحد جاء الفرج على غير انتظار فقد اتصل ابني من ابوظبي بأحد الأصدقاء في القاهرة الذي أرسل لنا سيارة حملتنا للمطار. وهناك سجلنا أسماءنا عند مسؤول العلاقات العامة في طيران الاتحاد ومن ثم تسلمنا تذاكر الرحلة.
قاعة المطار تعج بالبشر من كل جنس ولون .. ليس هناك موقع لقدم.. الأصوات تعلو وتنخفض .. صراخ الأطفال يحتكر القاعة .. الكل في هرج ومرج.
بعد كفاح مرير تمكنا من اختراق تلك الجموع ومن هناك توجهنا إلى ساحة الاقتتال الثانية (مكتب الجوازات) .. تلال من الأجساد تملأ المكان .. الساحة اصبحت ميداناً لمعركة الكل فيها يقتتلون من أجل النجاة .. الصفوف “محلك سر” ..كهل يمني قد أغمي عليه .. عملية “نزعه” من بين الأجساد إلى خارج القاعة كانت عملية تبدو شبه مستحيلة .. عدوى إغماءة الرجل تتسلل إلى الآخرين .. الأوكسجين اصبح سيد الموقف .. أحد الشبان من الجنسية الأوروبية يخترق الصفوف ويزج بنفسه أمامي .. أقول له أن هذا سلوك غير حضاري ويتسم بالأنانية .. يقول كل فرد في مثل هذا الظرف يجب أن يكون أنانياً.
الوقفة تطول .. الحذاء يؤلمني .. أنحني وبشق الأنفس أتمكن من خلعه .. أقبض عليه بقوة وأضمه إلى صدري مع حقيبة اليد .. وأخيراً دفعني السيل البشري ليرتطم جسمي بمكتب موظف الجوازات .. الموظف يأخذ الجوازات.. يلقي عليها نظرة عجلى دون ان يدقق في وجوه أصحابها فالوقت لا يسمح .
وأخيراً خرجنا إلى الدنيا .. أحدهم يخبرنا أن لا وقت للانتظار .. هناك باص في طريقه للطائرة على وشك التحرك .. أهرول نحو الباص حافية الأقدام ومنه إلى الطائرة .. لا تثير هيئتي استهجان المضيفات .. ابتسامة متفهمة ترسم نفسها على شفاههن.. الطائرة تنتظر بقية المقاتلين في الداخل . إقلاع الطائرة في مواعيدها أصبح أمرا غير وارد.
وأخيراً جداً حطت بنا الطائرة في مطار أبوظبي .. قاعة المطار الفسيحة شبه الخالية .. الأرضية اللامعة .. الأوكسجين المعطر برائحة النظافة .. السير الكهربائي يحملنا برفق وانسيابية..انسيابية لم تفلح في إخراجنا من حالة الحزن والقلق التي تعصف بنفوسنا ونحن نترك أبناءنا الشباب في شوارع مصر وميادينها في انتظار مصير مجهول.
والآن وأنا أجلس أمام التلفاز أشاهد الملايين من الشباب المصري يقفون بالساعات الطوال – ولأيام لا يعلم مداها إلا الله- في ميدان التحرير بالقاهرة وفي جميع محافظات مصر لا يعبأون بزخات المطر وزمهرير ليل الشتاء .. لم توهن من عزائمهم هجمات الجوع والعطش.. لم ترهبهم عصابات النظام المأجورة و مطاردات رجال الأمن .. ابتلعوا عبراتهم وهم يشاهدون إخوانهم يتساقطون تحت وابل الرصاص وتتمزق اجسادهم تحت عجلات السيارات .. كل هذه التضحيات من أجل مطلب بسيط ومشروع … رحيل هذا الرجل الذي سطا على شبابهم وسرق أحلامهم في الحياة الكريمة.
وأخيراً قرر الطاغية الخروج من مخبئه ليواجه تلك الجموع .. أطل بوجه متصلب كوجه المصاب بمتلازمة ” باركنسون” لا يرمش له جفن و لايهتز له طرف .. وقف نيرون على أشلاء مدينته ثم هتف : “سأبقى وليذهب الجميع إلى الجحيم “.
دفعني الفضول للنظر داخل عقل هذا الرجل .. نظرت .. كان هناك فراغ كبير يتربع على عرش من الظلمة.
bidourmoneim68@gmail.com