Thursday , 21 November - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

دِكتَاتُورِيَّةُ سِلاحِ الحَيَاة – مأمون التِّلب

مُقدِّمات:

(وتيْفَرَة هو عبدٌ عَسكريّ، من فِرَقِ الفرسان التابعة لشيوخ الهَمَجِ الوزراء. ومن المرجَّح أن استرقاقه تمّ خلال إحدى حصارات (رجب) لجبال النوبة إبَّان حملته على كردفان، لأنه بَلَغَ سنّ النضج في عهد ناصر وإدريس. ويمكننا أن نُقارب، خياليّاً، ذكريات (تيْفَرَة) عن طفولته مع ذكريات (دوقالوا دوقندان أري)، وهو أحد صبيان النوبة من الجيل التالي، والذي، مِثلَهُ مِثْلَ تيْفَرَة، استُرِقَّ وأُخِذ من موطنه كولدٍ صغير. وبالنسبة لدقالوا، كشاب في منفاه البعيد، عاشت ذكرى موطنه في ذهنه كعالمٍ مُصَغَّرٍ من المناظر والأشكال النائية والمنمنمة؛ ملوكٌ صغارٌ يلبسون الجواهر ويجلسون على ظهور الخيل، منحدرات من اللون اللازوردي من النبات الغض تحت الشمس الصافية، ووابلٌ رماديٌّ لا نهائيٌّ من الأمطار تُفَصِّلها بروقٌ في موسم الخريف، وطقوسٌ مهيبةٌ تؤديها الكاهنات اللائي يتحدثن باسم ثعبان الأصلة المخفيّ، وتحصينات جُهمَةٍ من الحجر مقامةٌ بين ثنايا قمم التلال، وغابات عذراء فيها فواكه غريبة وحيوانات تتكلم، وكلّ ذلك موشحٌ بضوءٍ عجيبٍ يَحرِسُ الممر القائم بين الذكريات والأحلام)

عصر البطولة في سنار – جاي سبُولدينق / ترجمة: د. أحمد المعتصم الشيخ

(عندما أفكِّر في الأساطير الكثيرة التي تعجّ بها الحياة، أجد أن هناك واحدة حملت أذى شديداً للجميع وهي أسطورة الأوطان وأعني هنا؛ لماذا يتوجب عليّ أن أنظر إلى نفسي كأرجنتينيّ وليس تشيلياً مثلاً أو شخصاً من الأرغواي؟، ليست لديّ أية فكرة عن الإجابة. كل هذه الأساطير التي أقحمناها في حياتنا، والتي لم تُخلق إلا لخدمة الكراهية والحقد والحرب والعداوة؛ إنها بالغة الضرر فعلاً. لكنني أعتقد أنه، وعلى المدى الطويل، ستتلاشى أسطورة الحكومات والأوطان، سنتحول إلى، حسناً..كوزموبوليتانيين).

خورخي لويس بورخيس – ترجمة نجلاء عثمان التوم

نِقاط:

من شدّة التأثير الحَربي، المغمور بالأدوات الأقسى والأوضح تأثيراً، نُسِيَ، أو أُغفِلَ عمداً، دور البشر المتوزّعين على مساحة التَرِكة الجغرافية الاستعماريّة المسماة سوداناً؛ دورُ الأفراد غير المُدمجين في الأرقام الإعلاميّة الحاسبة لأعداد القتلى والجرحى والنازحين، من ساهموا، بفعاليّة فائقة، في تفتيت الجدران الحاجزة لطوفان القيِم الإنسانيّة المُتفجّر بعد كلّ ضغطٍ تُواجهه الشعوب؛ خاصّة عندما يكون هَمُّ هذه الجدران، المَبنِيَّة بهمّةٍ عاليةٍ من قِبَل (من تتبدَّلُ وجوههم في الأروقة الإعلاميّة والتصريحيّة)؛ أن يكون همّها حِرمَانُ البشر من الحياة، وذلك يتعدَّى الموت بمراحلٍ خارقة، إذ دائماً يَكمنُ فرقٌ مُبتسمٌ ما بين ذَبحِ الحيوان بسرعةٍ مُريحةٍ، وبين حبسِ قطَّةٍ من اللعب، ودفعها، بقوّةٍ، باتّجاه خشاش الأرض لعشرات السنوات. ما نريدُ أن الإشارة إليه، في خِضمّ القضايا الآنية في السودان، غير القابلة للحصر، يتلخَّصُ في تقطتين أساسيَّتين

أولاً: فَصلُ البشرِ عبرَ الحدود:

فَصلُ البشرِ عبرَ الحدود الجغرافيّة يندرجُ في عداد المستحيلات. إلا أن المستحيلات ذاتها من الممكن أن “تتحقَّق” إن زُيِّفت بعض الحقائق الطبيعيّة بِغرَضِ إخضاع البشر لـ”واقعٍ” مُعيَّن، وتَيقِيْنِهِم بتصديقه. إن العالم كلّه يُؤثِّر ويَتَأَثر بما يجري في السودان، بل بكلّ حدثٍ يَقع في أية بقعةٍ أرضيّة، إلا أن تَعريفات البشر للـ”التأثير” انحصرت في ما تُنتجه الاتصالات السالبة، العمياء، التي تَحدث بين البشر. فكان للحرب صوتاً عالياً في برلمان تعريفات التأثير، ثمّ يأتي الرموز والقادة الأفراد ذوي الألسنة المُكرَّرة في أجهزة الإعلام، وتحت هؤلاء تحيا طبقةٌ كثيفةٌ تُهندس التعليم والتربية والإعلام، أي ما (يصنع الواقع ـ يُزَيِّفُ حقائق الطبيعة)، ليُحصَرَ خيال البشر داخل خيالاتٍ مريضةٍ تُصوِّرُ العالم بالطريقة التي يَجب أن يكون عليها لضمان مصالح الجماعات الخائفة من انسحاب بساط التفوّق من تحتها

الواقع يقول بغير ذلك؛ ففي حقول التعليم والتفكير والانتاج الإبداعي والفنّي، والرفد المهني والتقني، فإن كلمة “هامش” تذهَبُ إلى العدم! فتأثير السلطة والثروة على هذه الرقعة الجغرافيّة لا يزيد تأثيراً عن إسهامات السودانيين وتواصلهم الفردي في جميع البقاع. إلا أن الخطاب المحلي/العالمي يُصرّ على أن يُحفظ المسافة البعيدة بين التأثيرين، بل هو يُلغي واحداً على حساب الآخر: بتحويل الجميع إلى محاربين بدلاً عن عَكس تأثيراتهم كعُمَّال بناءٍ لا يختلفون عن بعضهم البعض في شيء!

لم يَمنع التهميش شخصاً من أن يكون مُفكِّراً، مثلاً، لكن تفسير الخطاب لكلمة “تهميش” دفعَ بالأغلبيّة إلى حشر مواهبهم وقدراتهم الشخصيّة في أتون حربٍ تُقدَّمُ، دائماً، كحلٍّ وحيدٍ لاقتلاع الحقوق، ويُغطِّي تمجيد شهدائها وأبطالها على الإنجازات السلمية للأفراد. قبعت، بذلك، وسائل التغيير الأخرى في أيدٍ غير أمينةٍ أبداً، تشكَّلت صورتان مثلتا الواقع بالنسبة للمواطن السوداني: “التمرّد” و”المقاومة السلميّة المدنيّة”. لا يبدو على الأخيرة أنها تستند، حتَّى يومنا هذا، إلى أية مقوّمات مبدئيّة واضحة، فهي لا تتوقّف عن تبني شعاراتٍ حُرَّةٍ مغمورةٍ بلغة مُكبّلة، سلفيّة، ومُخاطِبَة لذهنيّة (الرجل العربي المسلم) فقط؛ بدايةً بترويس البيانات ونتائج المؤتمرات الحزبيّة بالبسملة الإسلاميّة، نهايةً باستخدام مصطلحات دينيَّةٍ وثقافيّةٍ، يؤمن بها ذلك “الرجل”و(نظامه؟) الحاكم الأوحد، غير المتبدّل منذ الاستقلال، فيُنتَزَعُ جوهَرَ الحقّ الإنساني، ويوضع على مذبح الجدالات الدينية والثقافيّة، والتي تصل إلى مرحلة الحرب والفَتك. هذا “الرجل” يتحوّل ـ بالتجريم المُجرَّد من كلّ معرفةٍ بالطبيعة البشريّة وثغراتها البائنة ـ إلى وَحشٍ لا يَرحم، بل أن ثقافة ذلك الرجل تتجرَّد، في أذهان الذين (وُصِموا) بأنهم مُهمّشين، من كلّ ما هو جماليٌّ ومفيد. تُصبح الصور كالتالي: مهمّشٌ غير متعلِّمٍ يَحملُ سلاحاً محشوَّاً بالحقد الجاهل تجاه طبقةٍ من “أولاد وبنات الناس”، ومُهَمِّشٌ لا تحمل ثقافته سوى القهر والرفض والعدوان. هذه الصور تُعبِّرُ، فقط، عن ما يصوّره الإعلام والإعلام المضاد.

إلا أن الشعوب السودانيّة، بأفرادها، استطاعت أن تتواصل باستمرار، مثلما تواصلت مع بقيّة شعوب العالم، ومثلما استوعبت الانفصالات الجُغرافيّة التي حَدَثت في جسد شرق إفريقيا الذي كان يعيش خارج حدود اليوم حتَّى عهدٍ قريب. واتجهت النُخب المتعلّمة، في ذات الوقت، منذ الاستقلال، على تجذير الفروقات بتسمياتٍ كـ(السودان، أريتريا، كينيا، تشاد) إلى نهاية أرض البلدان المُستعمرة سابقاً، و”النامية” حالياً، حتَّى اعتقد أغلبُ السودانيين أن فصل الدول بحدودٍ إسمنتيّةٍ أو جيشيّةٍ يُمكن أن يَفصل بين البشر رغم وجود اللغات بأشكالها المختلفة: اللغة المنطوقة والمكتوبة، الطبخ، الموسيقى، الفنون والآداب، التعليم، الاكتشاف (أدوية الطبيّة، اختراعات علميّة، الالكترونية..إلخ)، المواقف السياسيّة المبدئيّة، وغيرها من المواد الإنسانيّة المُتَبَادَلَة ما بين البشر باستمرار، وهي موادٌ يَشعرُ بها الفرد في حياته اليوميّة الدقيقة؛ يعيش بها ويُحبُّ بها ويُكوِّنُ بها مقاييسه الجمالية. وبحجب هذه المواد وإبراز التواصل الحربيّ الباحث عن العدالة والحق، تشكّلت هذه الصور الزائفة، الكُتَلِيَّة، والتي فقدنا بها الشعور بحقيقةٍ بسيطة: أن كلّ إنسانٍ يختلفُ إختلافاً تامّاً عن الآخر، وذلك ما يجعلهم متساويين.

وفي هذا المجال، وبغض النظر عن الاختلاف والاتفاق، أُحيل القارئ لمجموعة مقالاتٍ كتبها الأستاذ كمال الجزولي، ثمَّ أعاد نشرها مؤخراً، بعنوان (مرةً أخرى، للذكرى والتاريخ) على حلقات، أبرزَ فيها المقوِّمات الإنسانيّة الطبيعيّة الموجودة داخل كلّ فردٍ، والتي تُمكِّنه أن يتبادل حياته، بسلاسةٍ، بينه وبين بقيّة الأفراد. ومقالات كمال انحصرت في مجال حياته هو، الثقافية والفكريّة والسياسية والقانونيّة، قدَّم عبرها سرداً لعلاقاته الشخصيّة مع أفرادٍ، يُحسَبون على “الجنوب”، أسهموا أيّما إسهامٍ في عملية التنمية الفكرية والحوار الخلاق بين البشر: لا يستطيع إنسانٌ أن يُحطِّم مُتعته بشعر (سِر أناي) بتصنيفه شاعراً “جنوبيّاً مهمّشاً”، ذات الأمثلة تُشاهد في علاقات الأفراد في الأسواق الشعبيّة مثلاً؛ فالذي جَمَعهم هو العمل ومحاولة الخروج من أزمات فقرهم بحثاً عن حياةٍ كريمة، إلا أن الذي ربطهم ـ رغم وجود الفروقات الاجتماعية المُحافظ عليها ـ يبدو أبسط من ذلك بكثير: إنها الحياة

ثانياً: الثورة الفكريّة

احتمالُ نشوب ثورةٍ فكريّة في السودان ضعيفٌ، إلا أن مقوّماته واقفة على سطح الواقع تُلوِّحُ لهم. من هم؟ لن يكونوا فتياناً شجعاناً يستطيعون مواجهة التعذيب والإذلال فقط؛ إنّهم ثُوَّارٌ ضدَّ الجدران الفكريّة التي تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان. بالتالي لن أتوقَّع احتفاظهم بولاءٍ لأحدٍ سوى لبعضهم البعض، ذلك إن اكتشفوا وجود بعضهم البعض! إنهم موجودون في كلّ زمانٍ ومكان، والطبيعة لا تُطيق الحركةَ دون بَذْرِهِم باستمرار. تكمن المشكلة في تأثيرات التاريخ والظروف المناخية على التربة؛ فهنالك من يَرفُضُ الاستماع، أو مجرَّد النَظَرَ في عين شخصٍ باحترام، لأنه ينتمي إلى حزبٍ سياسيّ (حاكمٍ كان أم معارض)، أو لانتمائه لقوَّاتٍ نظاميَّةٍ جَرَّد الخطابُ أفرادها من كلّ إنسانيّةٍ، وحوّلهم إلى “وحوشٍ”، كما أشرت في البداية (الشرطة، الجيش، الأمن..إلخ)، بينما هم بشرٌ مثل الجميع؛ ضُعفاء ومعرّضون لجميع أنواع الأمراض. والجنون أقربُ مَرَضٍ من البشر، إلا أن تعريفه ـ مثله مثل (التأثير) ـ لم يَتمكّن من اتخاذ صيغةٍ خارج مقاييس السلب والإيجاب: لقد توزَّع، بالقسط، ما بين نزلاء مستشفى المجانين والفنانين، ليتخارجَ منهُ صُنَّاع الحروب، ومهندسي خيالات الجماعات المُتَنَاحرة، لدرجة أن يستنشق الجنود رائحة المسك صاعدةً من أجساد “شهداء”، ويدفع بالبعض لقتل آخرين، لتكون النتيجة النهائيّة، تقريباً، هي: عودة جيشٍ من المجانين ليُكرَّموا كأبطال لهذه البلاد؛ فيُسحَقُ أغلبهم إن لم يلتصقوا بجسد التجارة الآيديولوجية، ويتقلَّدُ البعض سلطة اتخاذ قرارات سائبة. لكن يظلّ هنالك ما يُثيرُ الإعجاب في أمرِ التربة الأرضيَّة المشوَّهة؛ فهي تتركُ، مهما قَسَى عليها تاريخ سُكَّانها وزمانها، ثقوباً تنفذ عبرها جذورُ عقولٍ مُغامرة، لكنها الآن تصطدم بطبقةٍ من أحلام وكوابيس الجماعات المتناحرة على السطح.

أجد نفسي مُختلفاً مع محتوى مقولة (أن السياسة أمرٌ خطير، لذلك فمن الخطأ أن تُترَكَ في يدِ السياسيين)، فهي تمنح الشرعية لشخصٍ أن يكون سياسياً حتَّى وإن كانت علاقته بفنّ السياسة تقتربُ من الصفر: إنها تمنح حُرَّاس النظام مِلكيَّةً على السياسة وتدعونا، بعد أن نعترف بأحقيّتهم فيها بإيماننا بالمقولة، إلى مُنازعتهم عليها. الأفسَدُ من ذلك يأتي عندما يَخرجُ من بين الناس أفرادٌ سياسيّون يُنجزون، بقوّتهم الفكريّة وحنكتهم وارتباطهم بمبادئ واضحة، تغييراً جذريَّاً يَطال مجتمعاتٍ بأكملها، فإن الخطاب السياسي ينحَني أمام هذه الاجازات لغرضٍ خبيث، وهو تصعيد هؤلاء الأفراد إلى مرتبة القداسة بأَسْطَرَتِهِم، وتبيين أن الإنسان لن يَمتلك قدراتهم أبداً؛ فتتصنَّمُ أسمائهم وأفكارهم، ويقتنع البشر أن الساحة التي تليق بهم وبقدراتهم هي هذه؛ حيث يفقد المرء أخيه، وأمّه وبنيه، لأجل “تَخليدِ” ثورةٍ إنسانيَّةٍ نَجَحت في تقديم البشريّة خطوة باتجاه قيم الخير، ولكنها، كما يحدث عادةً، تُغفلُ التفاصيل: إن ثورةً تُلقِي بمفكّريها وكتَّابها إلى المنافي، وتوجّه خطابها لمجموعاتٍ هلاميّة تُدعى “الشعب الطيب المظلوم” وتُغفِلُ مجموعات هلاميّة أخرى تُدعى “كلاب النظام”، وتُستمرّ في تجريمهم وتحويلهم إلى وحوش؛ هذه الثورة مقضيٌّ عليها بالفشل حتَّى وإن أطاحت بالنظام الحاكم. إن الحكومة ليست سوى خيالٍ مريض، ومن ظنَّ أن أشياءً مثل جواز السفر أو الاسم أو الهويّة أو الوطن أو الثقافة…إلخ تستطيع أن تعرّفه بذاته وبالآخرين، فإنه سيظلّ يُواجه عدوَّاً وهميَّاً مُجسَّداً في فقيرٍ هَلِعٍ مثله، وضعوا في يده بندقيّة، وبثّوا في عروقه جنوناً يَخلِقُ الأعداء باستمرار. الثورة تتمّ فرديَّاً، ضدّ النظام الذهني الذي يَخلق الأعداء، فينعقدُ الأمل، في حالةٍ كهذه، على من سيضعون المناهج التعليميّة والتربويّة عندما تنتهي الإمبراطوريّة الحالية، أما الآن فإن التغيير يتوقّف على انتباه القيادات الوسطى في الأحزاب السياسيّة والمثقفين، من استعرت حياتهم بحرمانٍ لأكثر من عشرين عاماً، إلى أن الرموز الحالية (أحزاب، قادة) حاملةٌ بذات الصيغة الكيميائيّة التي تكوِّنُ (نِظَامَ خلق الأعداء): فإما أن يَترُكَ الجميعُ أحزابهم السياسيّة (وهذا ضربٌ حميدٌ من الجنون) أو أن يقبلوا بتفتّت هذه الأحزاب عند أول منعطفٍ انتخابيٍّ ديموقراطيٍّ عامّ يحيا في أجواءٍ صحيّة، أي بعد زوال المؤثِّر (الحكومة) بغضبٍ شعبيٍّ أو بانهيارٍ اقتصاديّ عابر!

السياسيّ ليس مُحدَّداً؛ ليس هو القابض على الحكم، أو الكاتب السياسيّ، أو القياديّ الحزبي أو العضو: السياسيُّ عَمَلٌ، ودوره مُحترمٌ في المجتمع، بل هو قائدُ طوفانات التغيير الفكريّ إلى عُمق الأمان. فإن تراجع دوره بعد زلازل القرن العشرين، وتحوَّل إلى تاجرٍ عِينَك يا تَاجِر، فإن وصفه بـ”السياسيّ” يُسيء إلى فن السياسة، وانتظار خطاباته وتصريحاته كأحلامٍ هو كابوسٌ لم نستيقظ منه بعد!

وعندما قلت “أيادٍ غير أمينة”، كنتُ أشير إلى أنها لم تستطع أن تُحدِّد (الحدّ الأدنى للتحالف) فيما بينها، والذي وجَبَ أن يرتكز على مبادئ واضحة؛ رفض الدولة الدينيّة بكلّ أشكالها بحيث لا يحقُّ لأحدٍ أن يُحاسبَ أحداً وفق قوانين دينه الذي يؤمن به أو ثقافته التي ينتمي إليها، حتَّى وإن كان المُعاقَبُ ينتمي إلى ذات الدين أو ذات الثقافة لأنه، ببساطة، لم يختر دينه ولا ثقافته ولا هويته ولا بلده ولا لونه؛ هنالك من لم يستطع أن يُصرِّح بخروجه عن الدين لأنه سيُقتَلُ ويُنفى اجتماعيَّاً أو لأسبابٍ استراتيجيَّةٍ تسعى لكسب الأغلبيّة. وهنالك من يَعترض على قِيَمٍ ثقافيَّة. أضف إليهم النساء والرجال الذين لم يؤمنوا بأحقيّة أحدٍ في معاقبتهم، جسديَّاً أم معنويَّاً، على حياتهم الشخصيّة وخياراتهم الفرديّة التي لا تؤذي أحداً ولا تتعدَّى على حريّة أحد، وذلك موجودٌ في كلّ الديانات والثقافات: ضبطُ الحياة لشخصيّة. هنالك آلاف الاستثناءات، لكن المجال لا يتّسع لذكرها. ويبقى أن نقول بأن الإنسان يجب أن يُحاسب كإنسان فقط، أي ما يتّفق عليه البشر على أنه (جريمة) بوصفهم بشراً، لا بما لم يختاروه من دين وبلدٍ وعرقٍ وثقافة.

لا يعود قصورُ (عَقد التحالفات) إلى قِصَرِ نظرٍ سياسيّ فقط، بل إلى سيطرة “التأثير” الحربي في الأغلب. وَقَعَ حاملوا السلاح في الخطأ، (من تركوا التغيير السلمي وصعّدوا، نسبةً لطبيعة الحرب المدمّرة، من قوّتهم)؛ فتحالفوا مع الأحزاب السياسيّة ذات الوزن الجماهيري بغض النظر عن المبادئ الفكريّة، وهي أحزابٌ لا تحكمها الاتفاقيّات والمؤتمرات المعارضة بقدر ما تَحكمها (المصلحة الواقعيّة الآنية)، أو “الأمر الواقع”، وذلك لسبب بسيط: إن يُدرك إنسانٌ أن الفرق بين البشر لا يكمن في اعتقاداتهم الموجودة قبل وجودهم سلفاً، فإنه يسعى خلف مصلحةٍ بلا ريب. التحالف، إذاً، مع من يُدرك أن الفرق يكمن في الشخصيّة؛ شخصيّة يصنعها النظام الذي يصنع الواقع في أغلب الأحيان ـ إن كان الذهن مستسلماً للسيطرة الآيديولجيّة ـ والقليل منها يصنعه الفرد بنفسه مُخترقاً حُجُب القوانين المُدمّرة. وفي الحالتين فإن الإنسان ليس هو العدو.

خاتمة:

أَوجدت لنا أمّنا الأرض، بما أخرجته بطنها من كائنات حيَّةٍ وجامدة، علاماتٍ كافية وقدراتٍ فائقة على الاتّصال بها، وفيما بيننا، فعَرْبَدَت الأفكار فيما بيننا و الاختراعات، المدمّرة والخلاقة، تَدَفَّقَت من حضارةٍ إلى أخرى ومن زمانٍ إلى آخر؛ الشعوب تواصلت.

وإن يَقَّنَتها المشاريع السياسيّة والآيديولوجيات بما أنتجته لأجل مصالح أفرادها السلطوية والماديّة، من معتقدات وشطحاتٍ مثيرةٍ للضحك كشطحة “الحدود”، فإن الشعوب، بإدراكٍ منها أو دونه، تتواصل يوميّاً عبر كلّ ما هو مليءٌ بالحياة. وبفقدانها لهذا السلاح (ما هو مليءٌ بالحياة) أطاحت حركاتُ التغيير السلمية بإنجازاتها، بينما انصاعت الحركات العسكريّة، بما فيها الحكومة الحالية، انصياعاً حتميّاً لسيستم نظام السوق العالمي. يُحاول الخطاب السياسي والتجاري أن يَدفع المجتمع نحو كلّ ما هو خفيف فكريّاً، وأن يوهم القيادات بانتهاء زمان الفكر وفنون الثقافات المُعَبِّرة عن قلب الحياة البشريّة ومصائر أفرادها وتميّزها: هي موادٌ تَربطُ البشر بشبكةٍ سريّةٍ مُخيفة.

لَمَح الذين يتحكمون في مصيرنا هذا السلاح، فاستخدموا قوّته القادرة على الربط بين الناس استخداماً سيّئاً ومُهينَاً لطبيعنما كبشر. هؤلاء ظلّوا على حالهم هذا بدايةً بسلطة العائلة إلى سلطة المملكة إلى اتحاد الامبراطوريّات وصولاً إلى تحالف الشركات والآيديولوجيات المُرعب،فوجدنا كلّ ما هو مليءٌ بالحياةِ ينبض في كلّ قطرةِ إعلانٍ وعلى غلاف كلّ سلعة!. إنهم يستخدمون ذات السلاح الذي كان سيفتك بهم؛ أغلقوا المكتبات العامّة، عطّلوا حركة الكتاب والنشر، حُرِّمَ الرقص وانسحبت النساء إلى شكلٍ بليدٍ من أشكال الرزانة الظاهريّة في المناسبات، خُفِّفت مواد الصحف وأُغلقت جميع مصادر المعلومات، فُصل الناس عن العالم بتهديم جسور اللغة، وعُلِّقت حركات التغيير في فضاء الانترنت ظانّةً أنها تُخاطب شعباً كاملاً.

تستطيع إفريقيا أن تكتشف أنها جنّة الأرض التي تخيّلها البشر عبر القرون؛ تستطيعُ الدولُ، التي يُطلَقُ عليها اسم “النامية”، أن تكتشف ذلك، وما هي إلا نظرةٌ خاطفةٌ للخيال البشريّ حتّى ينفتح الستارُ عن طوفاناتٍ وزلازل وكوارث الأرضيّة؛ إننا نرى إرث البشريّة الخيالي مُكوَّمٌ داخل عين الطبيعة الغاضبة. وها هي الأرض تُعلنُ عن وجودها المُتجاهَل، أخيراً، وتُجبر البشر لعَقد مؤتمراتٍ ما كانوا ليعقدونها بهذه الكثافة سوى في حالة انتاج حربٍ عالميّةٍ ثالثةٍ علنيّة، وأقول (علنيّة) لأن الحرب العالميّة ظلّت مُستعرة دائماً. فهل كانت دولاً ناميةً حقَّاً؟ أم استمرّت في لَعِب دور الأمم المُنَمِّية؛ بمواردها الطبيعيّة، بثرواتها وحضاراتها الأقدم في العالم؛ بإنسانها: نحته وموسيقاه وثقافته وعِلمه وفنّه وتعامله مع الطبيعة ومَعرِفَته المُتعمّقة بأمّه الأرض؛ تلك المواقف الرمزيّة المتمرّدة، المقاومة لكلّ تعالٍ، والبارزة على سَطِح التّاريخ ضاربةً أنفه المُتغطرس بجذورها العاتية

إن الأذهان التي تُحارب الحياة لا تَخفى على أحد، وإنها لتُدرَكُ من الوهلة الأولى، فإن لم يستطع تنظيمٌ مدنيٌّ اقتلاعها من السلطة، ولا قوّة عَسكريّة، ولا، كذلك، مفاوضات سلميّة، فإن مصير البشر، الواقعة على كاهلهم سلطة هذه الأذهان، سيكون إمّا بالذهاب بعيداً والانفصال عنها (عن تعليمها وتربيتها المُسمّمة بالعنف والإخضاع وتغييب التفكير، وكذلك عن حروبها واضطهادها واستعلائها واستغلالها) أو بالفناء معها والاصطلاء بنيران الفقر والعوز والجريمة والرعب؛ بالغش والخداع والابتزاز والذل والإهانة؛ هذه الهالات التي تدوّرت حول عيون الجميع ولا تخفى على جدران مدينةٍ كالخرطوم. نعم، عندما يتذوّق أهل الخرطوم حقيقة الدمار الذي حَدَث لحياتهم، وهو على وَشك الانكشاف تماماً، سيُدركون أن مجرّد البحلقة في التلفاز، والذهاب إلى صلاة الجمعة للاستماع إلى خطبةٍ عن القناعة وأخرى عن فجور النساء؛ سيدركون أن ذلك لن يَكفي لدخول الجنّة؛ هنالك ما هو أكبر من صراعات المجتمع الدولي والسلطة والحركات المسلّحة، هنالك هم أنفسهم. ذلك ينسحب على سكّان العالم أجمع، إذ يَعيشُ كلّ مجتمعٍ على ما يقدّمه كتَّاب أَقدار السلطة والثروة والسيطرة من تشوّهاتٍ فيلتهمونها؛ يُحاربون من أجلها، يَقتلون ويُقتلون، ويبحثون عن البطولة فلا يجدون سوى مرآةٍ كبيرةٍ تنتظر تحديقةً مُحترمة، مستمرّةً لأزمنةٍ، ومنحدرةً إلى أجيالٍ سحيقة.

إن الحدود الفاصلة بين الجميع لم تُهدَم بعد؛ الحدود بين كلّ فردٍ وفرد، وجماعةٍ وأخرى، وقبيلةٍ وقبيلة، وديانةٍ وديانة، وبلدٍ وبلد؛ هذه الحدود لن تُهدمَ بأية خطاباتٍ ولا آلياتٍ سياسيّة، بل بالتعليم، كأداةٍ أساسيّة تستحق تغييراً جذريّاً ساحقاً،وبتطوير قدرات الأفراد للاستفادة من مصادر لمعلومات (القراءة والكتابة والتعليم الالكتروني)، ثمّ بالاستفادة من الجواهر الغنيّة لثقافة وتاريخ وفنون أهل هذه البلاد، وربط سكانها بها، وبتطويرها والاستمتاع بملذاتها اللانهائيّة.

********************

ملحوظة: الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن وجهة نظر الكاتب وليس موقع سودان تربيون

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *