Saturday , 20 April - 2024

سودان تربيون

أخبار السودان وتقارير حصرية لحظة بلحظة

الجيلُ أقوى ، والحُلمُ أكبر

بقلم : محمد عتيق

محمد عتيق
محمد عتيق
في مهرجان أبو تمام بمدينة الموصل العراقية عام ١٩٧١ ، فوجئ مئات الشعراء والنقاد والجمهور الحاضرين برجلٍ أعمى ، رث المظهر والثياب ، يعتلي المنبر ، فاعتقدوا انه متشاعر وأنها فرصتهم للأحاديث الجانبية واحتساء المثلجات ، غير أن الشاعر الأعمى ، مُتَّقد البصيرة والموهبة ، عبدالله البردوني يفاجئهم ويأخذ بأنفاسهم عندما بدأ في إلقاء قصيدته التي خاطب فيها أبو تمام وعارض قصيدته : (السيف أصدق إنباءً من الكتب ، في حدِّه الحدُّ بين الجد واللعب) فقال :
ما أصدق السيفُ ان لم ينضِهِ الكذبُ ، وأكذبُ السيف ان لم يصدق الغضبُ

بيضُ الصفائح أهدى حين تحملها أيدٍ إذا غلبت يعلو بها الغلبُ

وأقبحُ النصر نصر الأقوياء بلا فهمٍ سوى فهم كم باعوا وكم كسبوا

أدهى من الجهلِ عِلْمٌ يطمئن إلى أنصاف ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا

قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا شيئاً كما آكلوا الانسانَ أو شربوا

ثم التفتَ إلى محبوبته الكبرى “اليمن وصنعاءها” :
ماذا احدِّثُ عن صنعاء يا أبتي ، مليحةٌ عاشقاها السُّلُّ والجربُ

ماتت بصندوق وضَّاحٍ بلا ثمنٍ ، ولم يمُتْ في حشاها العشقُ والطربُ

وفي أسى مُقلتيها يغتلي يمنٌ ثانٍ كحلم الصبا ينأى ويقتربُ

هل كان يخاطب سودان اليوم وخرطومها الحزينة ؟ ،كأنه كان يعني هذه الوجوه الجميلة المُرْهَقَة .. هل السلُّ والجرب هو حال النظاميين والمَلَكيَّة ؟ أم هما هذا الكومُ وذاك وسط المدنيين في قوى الحرية والتغيير ؟ أم السل والجرب هما حَدَّيْ الشرعية الثورية المُهْمَلَة والتسامح المتساهل حتى مع مجرمي سنوات القحل الراحلة ؟؟
الله الله ؛
وفي أسى مقلتيها يغتلي يمنٌ ثانٍ كحُلمِ الصبا ينأى ويقتربُ
وهل حلم الصبا ، في نأيه واقترابه ، إلاّ ذلك الذي قَدَحَ زناده “رؤىً ساحرةً” في أخيلة الجيل الجديد ، جيل الواحدة ظهراً ، جيل (الترس والسانات الواقفين قنا) ؟ الحلم الذي رسم القيادة العامة إطاراً لسَناهُ ومحيطاً لمَهْواه ؟ ، الصارمُ في سلمه وسلميته طريقاً لإنجاز الخيار وتحقيق الحُلُم ..

الجميع يشيد بالجيل ويُحيِّيه .. والكل يتحدث عن “استكمال الانتقال” ، “الوصول لانتخابات حرة ونزيهة” …إلى آخره ، أنغامه : حرية سلام وعدالة ، ومقصده المعلن : التحول الديمقراطي والدولة المدنية ، ومع ذلك هنالك انقسام ، يشتد ويمتد يوماً بعد يوم ، انقسامٌ يتلمّس التسلُّل إلى الجيل ولجانه ، فيذهب البحثُ عن الأسباب والجذور ، تجد المناضلين الوطنيين في كافة الخنادق ، كذلك القوميين والليبراليين (قديمهم وجديدهم) ، لا تجد إلّا الانقسام : لا قضايا تُذْكر كأسباب ولا سياسات ولا حديث عن الانتقال نفسه “المُجْمَع عليه” ؛ من ماذا إلى ماذا ؟ ولماذا ؟ ..

قضايا الإتفاق والاختلاف كثيرة : النهج الاقتصادي مثلاً بين الرأسمالية المتوحشة ودولة الرعاية الاجتماعية ، بين طريق التطور المستقل والتبعية للأجنبي ،”التجنيب” والشركات التابعة للقوات النظامية ، ولاية الحكومة المدنية على المال، العلاقات الخارجية ومسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني التي قبِلَ بها حتى بعض العروبيين …

انقسام في كل مكانٍ ومحفل .. قد يستوعب البعض وقوع الانقسام بين المدنيين والعسكريين(خاصةً القيادات العليا) ، لكنه ، وللعجب ، أعمق وأشمل بين المدنيين في الأحزاب والتنظيمات السياسية والنقابية .. فإذا انتفت الأسباب الموضوعية المتعلقة بالسياسات والقضايا لا نجد إلّا الأسباب الذاتية أكياراً (جمع كير) تذكي نيران الخلاف والانقسام ، هي العَجَلَةُ للمناصب ومراكز النفوذ ، وهي الغيرة والأنانية ، وهي عدم الاحترام بل والانتقاص من بعضنا البعض ؛ اقتراحك جيد ومفيد للوطن لكنني ضده لأن القبول به سيرفع أسهمك ولأنه لم يصدر عَنِّي أو عن حزبي !! إنها بعض أمراض ونواقص المجتمع المتخلف ، ارتقينا عنه درجات عند انتمائنا للأحزاب السياسية ، ولكنها (أمراض المجتمع المتخلف)، ولطول التصاقها بواقعنا ، انتقلت بعضها معنا سلوكاً لأحزابنا فذهبنا نعالج الخطأ بالخطأِ نفسه ..

هنالك من أصابه اليأس ، وذهب يخاطب بلاده وسياسييها بما خاطَبَ به البردوني حبيباً بن أوس (أبو تمام) :

“إذا امتطيتَ رِكاباً للنوى فأنا
في داخلي .. امتطي ناري واغتربُ”

ولكن ، هنالك جيلٌ له حلم ورؤية ، وهنالك ثورةٌ لن تتوقّف عن الصعود لمراقي ذلك الحلم ..

Leave a Reply

Your email address will not be published.